|
قلبي له: يوميات دمشقية 4 والأخيرة
وها أنا استعد في الساعات المقبلة لاحتضان رام الله العشق والجمال. أنظر من شرفتي أتأمل عمَّان الهوى. أنظر في كل الاتجاهات. أحلم برام الله وأستعيد ذاكرة عمَّان التي عشقت؛ عمان الجمال الصغيرة الجميلة؛ عمَّان الشابة التي كبرنا معها وترعرعنا، فبقيت شابة ترخي جدائلها على الكتفين، وكبرنا نحن وبقي عشق الشابة يجتاح أرواحنا؛ عمَّان وسط المدينة والأحياء التي تتناثر على جنباتها، والتي أجولها في كل مرة أعانق عمَّان فيها، محتضنًا بروحي روحها، ملتقطًا بعدستي جمال روحها وذاكرة الهوى العمَّاني. كانت فرصة وأنا أتماثل للشفاء أن أستعيد ذاكرة عمَّان، فتمتعت بحفل توقيع كتاب القادم من المستقبل للكاتبة نهلة الجمزاوي في رابطة الكتاب الأردنيين، وحفل توقيع رواية للدكتور جمال ناجي في القصر الثقافي الملكي، والتعرف بعدد كبير من الكتاب والمبدعين في الأردن، وخاصة حين التقيت ببعض أعضاء من زملائي في اتحاد كتاب الإنترنت العرب فرع الأردن، فكان اللقاء الجميل مع صديقي د. محمد سناجلة والغالي يحي القيسي، وفرصة للتعرف بزملاء من الاتحاد لم التقيهم سابقًا كالرائع مفلح العدوان والكاتبة والفنانة والمخرجة هناء الرملي التي عرفتها من خلال إبداعها ولم التقيها سابقًا والعديد من الزملاء والزميلات. وفرحت بزيارة لصحيفتي الرأي والدستور ولقاء العديد من المبدعين، منهم من عرفته سابقًا والبعض التقيه مواجهة لأول مرة. كما تمتعت بقراءة الكتاب الذي أهداني إياه الكاتب الصديق بسام عليان ويحمل اسم قضايا معاصرة، والتمتع بمعرض الفنانة بتول الفكيكي في مركز رؤى، ومعرض الفنان المرحوم حسن حوراني في دارة الفنون، الذي فارقنا شابًا ولكن روحه بقيت تجول حولنا من خلال إبداعه. ومن جمال اللقاءات لقائي مع الشاعر عمر أبو الهيجاء والتمتع بشعره في ديوانين أهداني إياهما يستحقان تفردًا في الكتابة. وفي هذه اللحظات تجول روحي وأنا أنظر شمالاً للمعشوقة الأخرى دمشق ورحلتي إليها بعد غياب اثنان وثلاثون عامًا، فوجدتها كما تركتها في رحلة الغياب، تنتظر في محطة القطار والوفاء عاشقًا غائبًا عاد إليها بعشقه وحبه ولم ينساها لحظة. فأستذكر أواخر أيامي الدمشقية وتجوالي في كل أحيائها في أواخر الشهر الحادي عشر وبداية الشهر الثاني عشر من العام الفائت، فأستعيد في الذاكرة حواريها ودروبها وأزقتها، وأستعيد في الذاكرة حين شددنا الرحال إلى بلدة صغيرة من بلدات ريف الشام، بلدة قَطَنا، لتلبية دعوة للكاتبة الرائعة إيمان ونوس، صديقة القلم والحرف وتوأم الروح وصديقتها، التي بادرت من لحظات وصولنا الأولى إلى دمشق لزيارتنا، ولم أعرف إلا في رحلتنا أنا وزوجتي حجم المسافة التي قطَعتها للوصول إلينا من قَطَنا إلى دمشق، فما أن أطللنا على مشارف هذه البلدة الجميلة الصغيرة، حتى كنا نلمح في الأفق جبل الشيخ وثلوجه وعمامته البيضاء وجمال الأفق الممتد حتى التلال البعيدة الجميلة، فتمنيت لو كان بيدنا أن نكون هناك، حيث الجمال والتاريخ والمجد. كم كان يومًا جميلاً قضيناه في قَطَنا برفقة إيمان ونوس وأفراد أسرتها وأبناؤها وبناتها الذين شعرت بهم أبنائي، فحسن الضيافة والكرم العربي الأصيل الذي غمرنا لا ينسى، ولم تتركنا الرائعة إيمان إلا بعد أن أخذت وعدًا منا أن نبدأ رحلة أخرى إلى ربوع سوريا من قَطَنا، فغادرناها ونحن نشعر أننا نترك في قَطَنا وفي بيت إيمان بعضًا من أرواحنا، حتى أن الدموع كادت تطفر من عيون زوجتي حين ودعنا إيمان عائدين إلى دمشق، إلى مكان سكننا في البيت الجميل الصغير الذي وفره لنا بروح معطاءة صديقنا أبو دركل. قضينا وقتنا حين عدنا في زيارة الأصدقاء في مخيم اليرموك استعدادًا لوداع دمشق، ففي اليوم التالي كان الأحد، الثلاثين من كانون الأول، آخر يوم لنا في دمشق. ومنذ صباح الأحد كنا نجول في حي جرمانا نزور بيت مصطفى ابن شقيقي الأكبر وسيم والذي كان مسافرًا فقضينا وقتنا في زيارة أسرته وزهراته الجميلات سابين وكندا والذين حَرمَنا منهم البعد والشتات. ثم زيارة جميلة للروائية والكاتبة والشاعرة مادلين اسبر في بيتها الجميل الذي يحمل جمال روحها وإبداعها الأدبي، فتمتعنا بحسن الضيافة وروعة الكرم وجمال الحوار، لنغادر ونحن نحمل فرح هذا اللقاء لنجوب قلب دمشق من جديد، في محاولة لإرواء أرواحنا العطشى لجمال دمشق وسحرها، فتجولنا حتى الليل، برفقة الكاتبة الرائعة أماني ناصر، في أحياء الشام القديمة وسحر التاريخ وعبق المجد، فودعنا مقهى النوفرة الجميل بجلسة وتجولنا كثيرًا في الأحياء القديمة وزرنا التكية السليمانية وحوانيتها الفنية الرائعة، تمتعنا بتأمل هذا البناء التاريخي الجميل وروعة ما أفاضت به أرواح الفنانين، لنختم الجولة في وقت متأخر بعشاء في مطعم المصري، الذي كنت من رواده في مرحلة الشباب وقبل عقود من الزمن حين نبتت زهرة العشق في روحي لدمشق. ودعنا أماني وأبو دركل الرائع وأسرته الجميلة، وفي الصباح كنا في اتجاه درعا لنختم الزيارة لأراضي الشام بزيارة الكاتبة الرائعة مجدولين الرفاعي وأسرتها، والتي اصطحبتنا بزيارة لا تنسى إلى مدينة بصرى الأثرية، فتجولنا فيها بالكامل لساعات طويلة سيرًا على الأقدام حينًا وفي عربة يجرها حصان أيضًا، فشاهدنا من خلال الآثار حقب زمنية مختلفة؛ فمن مسجد فاطمة الزهراء إلى مسجد مبرك الناقة، ومن صومعة بحيرا الراهب إلى التابوت الروماني المبني لابنة قيصر روماني فوق الأعمدة التاريخية، ومن المدرج الحجري الضخم إلى الطرق المبلطة والمباني القديمة والأثرية، والتي تروي جميعها عبق التاريخ ومراحله، لنعود إلى درعا وتصر ماجدولين على دعوتنا إلى عشاء فاخر في مكان جميل، وقرب منتصف الليل ودعناها وأسرتها عائدين إلى عمَّان، وأرواحنا ونفوسنا تحمل كل جميل من كل من عرفناهم وتعرفنا عليهم وكل من التقينا، فغادرنا ونحن نترنم بأغنية فيروز: قرأت مجدك في قلبي وفي الكتب، شآم من أنت؟ أنت المجد لم يغب... صباح عمَّاني آخر وأنا أستعد لعبور النهر المقدس، عائدًا إلى معشوقتي رام الله وأهلها وناسها ودروبها وعبق ياسمينها وفيء صنوبرياتها، مودعًا عمَّان الهوى والطفولة والحب المبكر الذي لا يمكن أن يفارقني، أحتسي قهوتي وأشعر بروح طيفي ترف من حولي، حروفي الخمسة تتراقص في شرفتي العمَّانية، تستعد معي للعبور إلى الضفة الأخرى وصومعة رام الله والياسمينة وحوض النعناع وحمائم الصباح. نستمع معًا لفيروز تشدو: شَعرُ أغنية قلبي له، وجبين كالسنا عالٍ رحيب، أنا إن سُألت أين موطني قالت القامة حبك عجيب، مثلما السهل حبيبي يندري مثلما القمة يعلو ويغيب، وبه من بردى تخفاقه ومن الحرمون إشراق وطيب. *** *** *** |
|
|