|
رمل وغبار
كان عمود الخشب الجاف، الذي توسط ساحة الرجم المظلمة، ينتزع بوحشية مفرطة جزءًا من لحم كتفيها كلما حاولت النهوض. وضع القرفصاء الذي وجدت نفسها عليه حين داهمها الإغماء أشاع في نصفها السفلي ألمًا لا يطاق، ولهذا فقد رضيت بمقايضة هذا الألم الجنوني بانسلاخ جلد ظهرها الموجع الذي تنتجه محاولات النهوض الفاشلة. ما زال الليل في منتصفه ولم تتمكن المشاعل الكبيرة المحيطة بالساحة من إزاحة الظلمة المهيمنة على المكان. كانت ألسنة اللهب الطويلة تنحني وتتأرجح كالعادة أمام ريح الليل فيخبو ضوءها ويصبح للوحشة صدى لا يتوقف، وربما سمح هذا الوضع لذلك المتسلل الجريء من الوصول إليها. حين اقترب منها اكتشف كم هي ضعيفة وواهنة. ولما ساعدها على الوقوف رفضت عرضه السخي بفك قيدها. كان داخلها يمور بالتحدي وتتصاعد الرغبة فيها بأن تكون أمثولة فريدة. ولما أعياه إصرارها دسَّ في فمها بضع لقم صغيرة وسقاها جرعة من الماء. تذكرته، استعادت ما تبقى من صور زيارته السرية إلى كوخها الصغير عند منعطف النهر، ساعتها كانت منشغلة بتعليم الصغار معضلة قراءة الحروف والكلمات المعقدة ونقشها على ألواح الطين الرطب، ولم يسعفه تنكره المتقن حين اقترب منها ليعرض حاجته، قالت وهي تواصل توجيه الصغار: "اعتق عبدًا يا تاجر القمح ولن تلد زوجتك غير الذكور بعد الآن". انسحب الرجل بهدوء وظلت وحدها مكتوفة إلى عمود الرجم في الساحة المقابلة للمعبد الكبير. كانت غرفه العلوية منارة بكثافة لافتة، وكان غضب الكاهن الأكبر يفيض بقدر عرقه المتصبب من جسده الممتلئ، ولم يكن باستطاعة كل ذلك الجمع الصامت والقلق من المساعدين والكهنة الصغار التخفيف من حدة غضبه وإرضاءه. كان منفعلاً ومُستفزًا بشدة: "إنها أكبر وأخطر من عرافة. لقد تمردت على تقاليد المعابد وطقوسها بعد أن نهلت منها. ولم تعد في صفنا حين تآخت وماء النهر. لقد أصبح لها مريدين وأنصار وصارت تنطق بلسانهم. غدًا ستلتهمها حجارة الرجم ولن يبقى من جسدها، سليل العالم المظلم، سوى مزق ثيابها...". ومن بين الجمع المتحمس هب كاهن ضخم مستجمعًا كل قوته وصرخ: "الموت للعرافة أرضو". احتشدت صرخته المخيفة في فضاء القاعة، أفزعت صغار الكهنة الساهمين، ونفذت عبر الأبواب والشبابيك المشرعة على عالم الليل، انطلقت سوداء مثل سرب ضخم من خفافيش أسطورية ماصة للنور، مرت فوق ساحة الرجم واخترقت فضاء المدينة الراكدة في محيط المعابد والقصور. عندما سمعت دوي تلك الصرخة صار بوسعها أن تتخيل حجم الغضب والشر والخوف المتجمع في تلك البناية، واكتشفت أن لديها رؤية مشوشة تكاد لا تفصح عن مصيرها المرتبط بالنهار القادم، وأن حدسها الذي تثق به قد خذلها هذه المرة وقدم لها رؤية مختلفة لم تحسن تفسيرها عندما اعترضت موكب الكاهن الأعظم، لكنها كانت يجب أن تفعل ذلك: "... أيها المبجل، إن الموت يفترس الرجال بمقالع الحجارة وتشقى النساء والأطفال في الحقول. إن الآلهة – لو تعلم – صارت تنفر من هذا التبجيل المفرط وكثرة المعابد التي تلتهم أبناءها. لدينا ما يكفي منها. دع الحقول والبساتين تزهر بكدح الرجال واجعل الأسوار عالية بسواعد البناة ...". عندما أطلقت بوجهه كلماتها تلك وموكبه يسلك طريق الأضاحي المفضي إلى مجمع المعابد الجديدة، حاول السيطرة على غضبه ومشاعره، وتصرف ككاهن أعظم. لكن رماح جرأتها خرقت قلبه وجعلته يلتفت قليلاً ناحيتها وظلُّ ابتسامة شاحبة متوعدة تَقطرُ من وجهه. هَجست لنفسها مواسية وهي تنازع وجع جسدها: "كن غائمًا أو نقيًا مثل ماء النبع أيها الغد الهارب من المواجهة، فلن أتضرع إليك. أنا أرضو سليلة الماء والتراب، قصبة الكتابة ولوح الطين هما سلاحاي العظيمان ولن أضيع في الدروب المظلمة، ستكون شاهدي وسيدون أتباعي كل حكايتي...". في الفجر عندما أزاح النور الناهض من الشرق ستار الظلمة ولامس جسدها هواء الصباح البارد، تمنت أن تُسأل عن رغبتها الأخيرة، أرادت أن تبدو بأفضل حال، وأن تستحم وتتعطر، أن تكون جميلة وفاتنة كما يجب أن تكون، لكنهم بدلاً من ذلك دهنوا جسدها بزيت المعابد العتيق ونثروا عليها ملح الأراضي السبخة الخشن. كان يتقدم صف الكهنة وحاملي سلال الحجارة ولم يكن يرغب بحضور عدد كبير من الناس. كانوا قد نصحوه باختزال المراسم، وأن يسألها إن كانت تطلب العفو والمغفرة قبل رجمها: "سنستبدل الرجم بالسجن لو تضرعت وطلبتِ الرحمة". نفذ الزيت المملح إلى جروحها وبدلاً من أن يتسبب لها بحرقة مؤلمة شعرت أن خيطًا رفيعًا من نشوة مخدرة ينتشر في جسدها مصحوبًا بهدوء غريب لم تألفه. وللمرة الأولى رأت وجه الكاهن الأعظم وقد تلبسه قناع الفزع الرمادي. كانت شفته السفلى متدلية وترتعش بشدة، وشمت رائحة خوفه فهاجمته بعنف مثل لبوة برية تجهز على فريستها الخائفة: "أنت خائف أيها الكاهن لأنني لم أعد أخشى سطوتك وخداعك. سيكون الناس مثلي ذات يوم لأننا تعلمنا أن القصب يصنع أشياء أخرى غير نواح النايات الحزينة، وأن فروعه الصغيرة قادرة على الهمس في آذان ألواح الطين الصامتة وجعلها تنطق بالحب والحكمة. أحرق قصب الحقول لو شئت وأمنع وصول الناس إلى الطين، لكنهم سيكتشفون أشياء أخرى، ولن تظل مقدسًا؛ فأنت كائن أرضي تأكل وتتغوط شأن كائنات الأرض، ولن تسكن سماءها أبدًا لأنها ملكُ غيرك". استجمعت كل طاقتها حينما بدأ الناس الصامتين يحتشدون لرؤية رجمها فأطلقت في وجوههم آخر رؤاها: "لن ترثوا من بعدي غير الرمل والغبار..."، لكنها أُجبرت على الصمت بعد لحظات تحت وطأة سيل الحجارة العنيف، وظلَّ صدى كلماتها يطوف مؤنبًا فضاء المدينة المهادنة. |
|
|