الخلق في أعلى درجاته

 

هيفاء بيطار

 

من الصعب الإحاطة برواية حب محرَّم الصادرة في العربية عن "شركة المطبوعات للتوزيع والنشر" لعبقري الرواية اليابانية يوكيو ميشيما، الذي كتب ثلاثية معبد الفجر. رواياته أشبه بالملحمة الإنسانية، حيث نجد أنفسنا أمام فيضٍ آسر من الأفكار والمشاعر، والأهم الأسئلة الوجودية العميقة التي لا جواب شافيًا عنها.

تبدو رواية حب محرَّم للوهلة الأولى بسيطة وأميل إلى الطرفة، فالموضوع يبدو مسليًا وخفيفًا. قصة روائي كهل مبدع ذائع الصيت، لكنه عاش شبابه تعيسًا وفاشلاً، تحديدًا في علاقاته الغرامية، فزيجاته الثلاث فشلت فشلاً مروعًا، حتى علاقاته الغرامية انتهت بجروح عاطفية أليمة.

يتعرف الروائي الشهير والكهل بالمصادفة إلى شاب رائع الجمال، بل لم يرَ أجمل منه في حياته. شاب أشبه بالتماثيل الإغريقية لجماله وفتنته. لكن هذا الشاب يكره النساء، إذ إنه مثلي، وفجأة تتفتق فكرة خبيثة في عقل الكاتب، فيقرر أن يستخدم الشاب الجميل كأداة للانتقام من جنس حواء، الذي أذاق الكاتب المرارة والألم والخيانة والعذاب.

يغوي الروائي الكهل الشاب بالمال الوفير كي يقيم علاقات عاطفية مع العديد من النساء اللاتي أذقن الكاتب مرارة الألم العاطفي والغدر والخيانة، ويرسم له الخطط كي "يمرمر" قلوب النساء ويذيقهن آلام الحب والغدر، وعلى رغم أن الشاب الجميل لا يطيق لمس امرأة، إلا أن إغواء المال، وعبقرية الكاتب في الهيمنة عليه فكريًا ونفسيًا، ينجحان في توريطه بإقامة علاقات عاطفية جنسية مع النساء اللاتي يرغب الكاتب بالانتقام منهن.

للوهلة الأولى تبدو القصة مشوقة وخفيفة الظل، لكن ما أن نتوغل في صفحاتها حتى نجد أنفسنا أمام مستويات عديدة، فالرواية تطرح أسئلة عميقة وشائكة حول الأشخاص المتميزين والخلاَّقين، أسئلة حول حدود الموهبة ومجال تأثيرها! الرواية تطرح تساؤلاً مهمًا هو إلى أي حدٍّ يسمح للخلاَّق بأن يستغل موهبته ويستعمل الآخرين (غير الموهوبين) كأدوات ليحقق غاياته؟ هل يحق له كونه موهوبًا ومتميزًا أن يتعالى على الآخرين لمجرد أنه يملك موهبة؟

الكاتب لم يبالِ أن الشاب مثلي ولا يميل إلى النساء. أغواه بالمال، وسخَّر موهبته وذكاءه ليجره إلى تنفيذ خطط رسمها الكاتب بدقة للإيقاع بالنساء، ثم تعذيبهن بالهجر والخيانة واللامبالاة، حتى أنه يورطه بالزواج من شابة رقيقة عاشقة تعيش معذبة لأن زوجها لا يحبها.

يقول الروائي للشاب الجميل:

يجب أن تضع روحك جانبًا عندما تقترب من المرأة، لا تفكِّر في المرأة إلا كغرض جامد.

كم من أصحاب المواهب يعشقون ذاتهم، ويؤلهون موهبتهم ويسمحون لأنفسهم بأن يستغلوا الآخرين مبررين سلوكهم بأنهم أصحاب موهبة!

المستوى الثاني والبديع في الرواية، هو وصف محنة المثليين، هؤلاء الذين يجدون أنفسهم منبوذين وغير مقبولين اجتماعيًا. يصف ميشيما حياة هؤلاء بعين حيادية تمامًا، لا يسمح لنفسه بإدانتهم وإخضاعهم لأحكام أخلاقية. إنه يقبلهم كما هم. ثمة لفتات ذكية في الرواية لا ينتبه إليها إلا كاتب مثل ميشيما، خصوصًا حين يصف كره المثليين ليوم الأحد، لأنه اليوم الذي تجتمع فيه العائلة (الأب والأم والأولاد).

لكن، وكعادة ميشيما، يفاجئنا في رواياته بما لا نتوقعه البتة، ففي الصفحات الأخيرة، ينتحر الكاتب تاركًا كل ثروته للشاب الجميل. إن الانتحار أحد أهم ميزات الأدب الياباني والشخصية اليابانية، ومفهوم اليابانيين عن الانتحار يختلف جذريًا عن مفهومنا عنه، فهو ليس جريمة، ولا ضعفًا، ولا يأسًا، بل هو قرار حرٌّ. يكفي أن نعرف أن كاواباتا حائز نوبل قد انتحر وهو في قمة نجاحه وتألقه. كذلك ميشيما الذي حصد أعظم الجوائز العالمية ورشح لنوبل، انتحر. الياباني بشكل عام غير معذَّب بالوصايا العشر التي تعتبر الانتحار قتلاً للنفس وجريمة. المنتحر في الديانات السموية هو قاتل، ولا يجوز أن يصلَّى على جثمانه، أما اليابانيون فالانتحار هو الحرية العظمى التي يمارسونها، فهم يؤمنون أن الإنسان لا يختار لحظة ولادته، لكن يمكنه اختيار لحظة موته.

روعة الأدب الياباني أنه يعطينا منظومة أخلاقية متكاملة ورفيعة المستوى خارج الدين، أي أنه يقول لنا ببساطة: إن هناك مصادر للأخلاق غير الدين، مصادر كامنة في الروح، الروح التي تسعى للسمو والرفعة، الروح المطبوعة بصورة النبل والتسامح والحب.

بمعنى آخر، الإنسان الياباني قد يكون ذا أخلاق رفيعة ويتمتع بالنبل والمحبة والتسامح على رغم أنه غير مؤمن. لكن يحضرني هنا قول لدوستويفسكي بأن الإلحاد يقف قبل درجة واحدة من الإيمان. لأن أي إنسان على وجه الأرض – حتى من يسمِّي نفسه ملحدًا – هو مؤمن بطريقة ما. الله يتجلى في جوانب من حياتنا، الله كامن في قلوبنا، لكن كل منا يفهمه ويحسه بطريقته، والياباني يؤمن بالله بطريقته، طريقة تعبق بالحرية والسمو، والخلق الحر غير المحدود.

يضعنا ميشيما في روايته أمام تساؤلات عميقة عن الحياة، والحب والموت والألم، تساؤلات جديدة ومن وجهة نظر جديدة، يقودنا في متاهات تفكير لم نعتد عليها، لأن الحياة – كما يصوِّرها – تشبه الموشور، كل وجه من وجوهه يعكس الحياة بطريقة مختلفة عن الوجه الآخر، والخلاَّق هو الذي يقلِّب الموشور بين يديه، لأن للحقيقة وجوهًا عديدة، كذلك الأخلاق، فالأخلاق نسبية وتتغير بحسب الزمان والجغرافيا. الانتحار عند الياباني هو تتويج لفعل الحرية، كما لو أنه وضع القطعة الأخيرة في لوحة الحياة الكبيرة المؤلفة من آلاف القطع الصغيرة المتراصة المتداخلة التي تشكل نسيج الأيام.

حب محرَّم رواية الخلق بأعلى درجاته، وهي الحرية بلا حدود.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود