|
سماء جديدة
السماء هي ذلك العلم المحجوب عن الأبصار والمدارك الذي ما برح الإنسان يتخيّله ويشتاق الوصول إليه منذ أن تفتح فيه الخيال ومنذ أن لفح قلبه الشوق إلى المعرفة وإلى حياة لا تتعثّر في الشقاء ولا تبتلعها لجّة الفناء. والسماء تتسع وتضيق، وتدنو وتقصو، وتلين وتصلب على قدر ما يتسع خيال الناظر إليها أو يضيق، وعلى قدر ما تسمو به أشواقه أو تنحطّ، ويضعف إيمانه بنفسه أو يشتد. سواء في ذلك خاصة الناس وعامتهم. ربّ عالِم بشؤون الأرض كان في منتهى السذاجة من حيث تفكيره بالسماء. فكانت سماؤه بابًا يدق لاستجداء المال أو البنين، أو محكمة يُرشى قضاتها بالتملّق والهدايا، أو خزّان أوجاعٍ وويلات تُردّ بحرق الشمع والبخور وبالانقطاع عن الطعام وترديد كلمات بعينها في أوقات بعينها وفي أماكن بعينها. وربّ أمّيّ كانت سماؤه منبع الرحمة والجود والعدل والمحبة والحرية والحياة وكانت المحور الذي تدور عليه نيّاته وأفكاره وشهوات قلبه. وأكثر الناس لو سألتهم عن السماء لدلّوك بأصابعهم على القبة الزرقاء. ولو سألتهم عن تلك السماء مَن فيها وما فيها لأجابوك أن فيها إلهًا أو آلهةً وأجنادًا مجنّدة من الملائكة وكواكب لا تعد. ثم لو سألتهم عن ذلك الإله أو عن أولئك الملائكة ماذا يعملون لقالوا لك إن شغلهم الشاغل هو الاهتمام بالأرض وما عليها ومن عليها. فما تهب نسمة، ولا تعدو غمامة، ولا تخّضر نبتة، ولا يرتفع جبل أو ينخفض وادٍ إلا بتدبير السماء. ولا يولد حيّ أو يموت حيّ إلا بمشيئتها. أما الإنسان فهو هم السماء الأكبر. وقد خلقته للسعادة فاختار الشقاء، وللحياة فاختار الموت. فعزّ عليها أن يخرج الإنسان على إرادتها وأن يشقى ويموت. لذلك أرسلت إليه من يدلّه على طريق الخلاص من الشقاء والموت. ثم راحت ترقب جميع حركاته وتسجّلها في سجلّها العظيم. فتحصي عليه أنفاسه وأفكاره وميوله وأعماله ونبضات قلبه. فمن أطاعها من الناس وعمل مشيئتها في خلال العمر الذي قسمته له رفعته إليها وأسكنته جنّة فسيحة فيحاء كل ما فيها جمال وأنس وراحة وحرية ومتعة خالدة على الزمان. ومن عصاها ولم يعمل بإرشادها زجّته في أتّونٍ من النار حيث العذاب المقيم حتى آخر الدهر. لقد هيمنت سماء الناس على أرضهم إلى حد أنهم لا يستطيعون إتيان عمل من الأعمال أو الإقدام على أمر من الأمور إلا كان للسماء القسط الأوفر في سيره ونتيجته. فلا الزارع يزرع، ولا الحائك يحوك، ولا المحارب يحارب إلا بوحي السماء وتدبيرها. إذا أجدبت الأرض فالجدب من غضب السماء. أو أخصبت فالخصب من فضل السماء. كذلك المرض والعافية، والربح والخسارة، والنصر والهزيمة، والجاه والغضاضة، والفقر والغنى. وكذلك الهناء والشقاء، والمعرفة والجهل، والولادة والموت. فلا عجب إذا راح الناس يسترضون السماء ويسترحمونها مقدّمين لها القرابين من بواكير حقولهم وكرومهم، والذبائح من لحوم أنعامهم - وحتى من لحومهم - ومقيمين لها المعابد والأعياد والصلوات في كل يوم من أيام السنة. كيف لا ولها اليد الأولى واليد الطولى في كل ما يفكرون به ويشتهونه وينوونه ويعملونه. ولها السلطان المطلق على أرزاقهم وأعناقهم. في حين أنهم لا يملكون أقلّ وسائل السلطان على السماء. وتلك لعمري هي العبودية بعينها. ما خلق الإنسان نفسه - آمنت وصدقت. وحياة الإنسان من مصدر فوق الإنسان - آمنت وصدقت. والإنسان مطالَب بأن يفهم حياته ليفهم المصدر الذي جاءته منه، وليفهم الغاية من حياته - آمنت كذلك وصدقت. أمّا أن يكون خالق الإنسان أضيق صدرًا، وأشح يدًا، وأقسى قلبًا من الإنسان، وأما أن تكون حياة الإنسان أُلُهوّةً للسماء وألعوبة في يد الزمان فتورق ألمًا وتزهر أملاً ولا تعقد غير الموت فأمر ما أستطيع أن أؤمن به وأن أصدقه. إني لأعذر كرّامًا غرس كرمةً وبعد عشر سنوات من التعب والعناية حكم عليها بالفأس والنار لأنها ما أعطته أكُلاً. وأظنكم تعذرونه. ولكنني لا أعذر - ولا أظنكم تعذرون - والدًا يخنق ولده في المهد لأنه قال له: "لا ترضع" فرضع أو لأنه قال له: "قم واركض مثلي" فما قام وركض. وإني لأعذر - وأظنكم تعذرون - معلّمًا ينزل القصاص بتلميذ لأنه من بعد أن درس الجبر والهندسة ما استطاع أن يقسم ثلاثة قروش بالمساواة بين ثلاثة من رفاقه. ولا أعذر - ولا أظنكم تعذرون - معلّمًا يفرض أصرم العقاب على تلميذ لأنه أخفق في تحليل الفوارق بين هندسة إقليدس ونظرية أينشتين وهو ما تعلّم بعد كيف يجمع اثنين إلى اثنين. وإني لأعذر - وأنتم تعذرون - ربّ عائلة ليس في معجنه غير رغيف واحد إذا هو ضنّ بذلك الرغيف على شحاذ. ولست أعذر - ولا أظنكم تعذرون - موسرًا ينوء بيته بالخيرات فلا يجود على ابنه الجائع بأكثر من كسرةٍ من الخبز أو كسرتين. أليس الإنسان لا يزال طفلاً رضيعًا بالنسبة إلى الله؟ فما قولكم بإله منه كل شيء، وعارف بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون، وقادر على كل شيء، يخلق إلهًا طفلاً كالإنسان ثم يقضي عليه بالموت لأنه قال له: "لا تأكل" فأكل؟ أليس ذلك منتهى القساوة في شرعكم؟ وشرعكم شرع اللحم والدم. فكيف بشرع الإله المنزّه عن اللحم والدم والذي كلّه حنان ورأفة ومحبة؟ تعالى الله عما يزعمون. أليس الإنسان لا يزال بالنسبة إلى الله تلميذًا ما تعّلم بعد كتابة الأرقام وجمع رقم إلى رقم؟ فما قولكم بإله يأخذ حفنة من الطين فينفخ فيها من روحه وإذا بها إنسان سويّ. ثمّ يحنق على ذلك الإنسان لأنه ما تعّلم في درس واحد كل أسرار الأرقام من اللانهاية إلى اللانهاية ولذلك يسومه من العذاب ألوانًا؟ أليس ذلك أقصى ما يبلغه الظلم في شرعكم؟ وشرعكم شرع الغبي والأعمى. فكيف بشرع الإله الذي كله معرفة وكله نور؟ تعالى الله عما نسبوا إليه وينسبون. ثم أليس الإنسان أفقر من نملة في زجاجة بالنسبة إلى الله؟ وهو، مع ذلك، يعرف معنى الجود وقيمة العطاء. فما قولكم بإله في قبضتيه الآزال والآباد يبخل على أعزّ مخلوقاته بفسحو من الزمان تكفيه لمعرفة نفسه ومعرفة ربّه، فلا يجود عليه بأكثر من أربعين أو خمسين سنة نصفها طفولة ونوم وذهول، ونصفها دأب في سبيل الرزق والنسل والتفلّت من شباك الحاجة والجهل والمرض؟ وأنتم تعلمون أن واحدكم لو شاء إتقان أي علمٍ أو أية مهنة أو حرفة من علوم الناس مهنهم وحرفهم، وطال عمره حتى المائة وما فوق، لما بلغ الكمال في الإتقان. فكيف بعلم المسكونة منظورها ومستورها؟ كيف بعلم الحياة؟ وكيف بعلم الله وجوهره ومقاصده يتقنها الإنسان في خلال أربعين أو خمسين من الأعوام؟! إنه المستحيل بعينه. وإنه الشحّ بعينه أن يطالب الله الإنسان بمعرفة نفسه ومعرفته فلا يفسح له من الأبدية أكثر من طرفة عين ذلك في شرعكم منتهى البخل ومنتهى الجور. وشرعكم شرع الطامعين والمستأثرين، والظالمين والمظلومين. فكيف بشرع الإله الذي كله جود وكله صدق وعدل؟ تعالى الله عمّا ظنّوا وعمّا يظنّون. ما خلق الله الإنسان بيمينه ليعود فيمحيه بيساره. ولا هو سلّحه بالفكر والخيال والإرادة لينتزع منه سلاحه قبل أن يكون له الوقت الكافي لإتقان استعماله. وهاهو ذا الإنسان ماضٍ في سبيله يتفتح فكره يومًا بعد يوم، ويمتدّ خياله ميلاً بعد ميل، وتشتدّ إرادته جيلاً تلو جيل. وهاهو ذا يذلل الأرض فترًا فترًا، ويفّض أسرارها سّرًا سّرًا. ولن يهدأ له بال حتى تُسلس له الأرض قيادها. وإذ ذاك يدير وجهه شطر السماء، فلا يرتّد عنها حتى تصبح منه ويصبح منها، وحتى تفتح له قلبها فينزلها سويداء قلبه. فلا هي بعد ذلك فزّاعة تقّض عليه مضجعه، وتشلّ فكره وخياله وإرادته. ولا هي تلك الطاغية تكبّل يديه ورجليه، وتضيّق عليه أنفاسه، وتنشر العتمة في ناظريه إلا إذا استعطفها بقربان. من دم قلبه وعرق جبينه، وإلا إذا استرضاها بسجدة أو بسُبحة. سيعرف الإنسان أن القدرة التي يدعوها الله هي الكل في الكل، وأنه منها وفيها. فهو في كل زمان ومكان لأن الله في كل زمان ومكان. وهو في الأرض مثلما هو في السماء، وفي الأزل مثلما هو في الأبد. فالسماء والأرض تتزاوجان في الإنسان، والأزل والأبد يلتقيان في نبضة من نبضات قلبه... وسيعرف الإنسان أن صراعه مع الأرض ليس صراعًا في سبيل الحصول على سمن الأرض وشهدها، بل في سبيل الانعتاق من ربقة الأرض. وكذلك صراعه مع السماء لن يكون في سبيل النجاة من جهنم والتمتع بالجنة بل في سبيل المعرفة الربانية التي لا تعرف الخوف من أي نوع كان والتي تتسامى فوق كل متعة مهما طابت مذاقًا. ثم سيعرف الإنسان أن الدين الذي يحاول ربط الأرض بالسماء إنما هو صراط يسير عليه القلب لا عقيدة يذيعها اللسان أو حركات تقوم بها الأرجل والأيدي. وإن من شاء أن يعلّم الناس الدين عليه أن يعلّمهم بسيرته وسريرته قبل لسانه وشفتيه، وأن يمشي أمامهم على الصراط ليوقنوا أن في مستطاعهم المشيّ عليه. فكل دين يشلّ بالخوف والتهديد والوعيد فكر الإنسان وخياله وإرادته في انطلاقه نحو المعرفة والحرية، وكل دين لا يوحّد قوى الإنسان في صراعه مع الحدود والقيود ليس بالصراط الذي يليق بالإنسان أن يسير عليه. ولكن الإنسان أعظم من أديانه وأبقى. فهو سيجعل من أرضه سماءً، وسيكون في سمائه سيّد الزمان والمكان وشريك الحياة الخلاّقة في الخلق. أما متى يتم له ذلك فسؤال ليس يطرحه إلا الذين خارت عزائمهم وانهدّ إيمانهم. أولئك هم الذين ما عرفوا بعد أرضًا غير هذه البطحاء، ولا سماء غير هذه القبة الزرقاء. أما الذين لهم في كل كوكب أرض وفي كل فضاء سماء فأولئك لا يسألون عن ذلك اليوم متى يكون. بل يثُبتون في الميدان واثقين من النصر - ولو في نهاية الزمان. *** *** *** |
|
|