|
حول التسامح الديني
I يوجد في روسيا مبشِّرون يكمن واجبهم في إدخال غير الروم الأرثوذكس جميعهم إلى الأرثوذكسية. في نهاية عام 1901 انعقد في مدينة أورل مؤتمر لهؤلاء المبشِّرين. وفي ختام هذا المؤتمر ألقى رئيس نبلاء مركز المقاطعة غ. ستاخوفيج كلمةً اقترح فيها على المؤتمر الاعتراف بالحرية المطلقة للضمير، قاصدًا بهذه الكلمات -حسب قوله- ليس فقط حرية العقيدة بل كذلك حرية الدين المشتملة على حرية الخروج عن الأرثوذكسية. وقد افترض غ. ستاخوفيج أنّ حريةً كهذه سوف تساعد، وحسب، على انتصار وانتشار الأرثوذكسية التي أقرّ بأنه مؤمنٌ مخلصٌ بها. لم يوافق أعضاء المؤتمر على اقتراح غ. ستاخوفيج، ولم يناقشوه. وبعد ذلك بدأ تبادل محموم للمناظرات والمناقشات حول ما إذا كان على الكنيسة المسيحية أن تكون متسامحة دينيًا أم لا: بعضهم -معظم الروم الأرثوذكس، المتدينين منهم والدنيويين- في الجرائد والمجلاّت كانوا ضدّ التسامح الديني، وأقرّوا -لهذه الأسباب أو تلك- باستحالة الكفّ عن اضطهاد الرعايا الخارجين عن الكنيسة. وآخرون -الأقلية- اتفقوا مع رأي ستاخوفيج؛ فاستحسنوه وبرهنوا على مرغوبية، بل حتى ضرورة، الاعتراف بحرية الضمير من أجل مصلحة الكنيسة ذاتها. المخالفون لاقتراح غ. ستاخوفيج قالوا إنّ الكنيسة، التي تمنح الناس النعيم الأبدي، لا يمكنها ألاّ تستخدم كافة الوسائل التي في متناولها لإنقاذ قليلي العقل من رعاياها من الهلاك الأبدي، وإنّ إحدى تلك الوسائل هي الموانع، المقامة من قِبل السلطة، ضدّ الخروج عن الكنيسة الحقّ، وإضلال رعاياها. وقالوا إنّ الأكثر أهميةً هو أنّ الكنيسة، التي حصلت من عند الله على سلطة الحلّ والربط، تعرف دومًا ما تفعله، عندما تستخدم العنف ضدّ أعدائها. أما أحاديث العوام حول صحة أو عدم صحة إجراءات الكنيسة فتشير إلى ضلال العوام الذين يسمحون لأنفسهم بإدانة أفعال الكنيسة الطاهرة. هكذا قال، ويقول، معارضو التسامح الديني. أما مؤيّدو التسامح الديني فيؤكّدون أنّ من الجور منع الاعتقاد بعقيدة مغايرة للأرثوذكسية بالقوة، وأنّ التقسيم، الذي يستخدمه مؤيدو عدم التسامح الديني، بين الإيمان والتدين الظاهري لا أساس له، إذ إنّ كافة أشكال الإيمان تتجلّى، حتمًا، في الطقوس. وعدا عن ذلك -قالوا- فبالنسبة للكنيسة الحقّ التي على رأسها المسيح ووعده بأنّ أحدًا لن ينفصل عن الكنيسة، لا يمكن أن يكون هناك أي خطر قد ينجم عن اعتناق الباطل من قِبل حفنة قليلة من الزنادقة والمرتدّين، ناهيكم عن أنّ الاضطهاد ذاته لن يحقق الغاية، وذلك لأنّ الاضطهاد سوف يُضعف الصورة الأخلاقية للكنيسة التي تمارس الاضطهاد، ويزيد من قوة المضطهَدين.
II مؤيدو التسامح الديني يقولون إنّ الكنيسة لا ينبغي لها، بأيّ حالٍ من الأحوال، أن تستخدم العنف ضد الرعايا المخالفين لها، وضدّ أتباع الأديان الأخرى، وأنّ على الكنيسة ألاّ تستخدم العنف! ولكن هنا، بصورة عفوية، ينبثق السؤال: كيف يمكن للكنيسة أن تستخدم العنف؟ الكنيسة المسيحية، بحسب تعريفها لنفسها، هي مجتمع للبشر أقامه الله، هدفه تبليغ البشر الدين الحقّ الذي يُنجِّيهم في هذه الدنيا، وفي الآخرة. فكيف يمكن لمجتمع البشر هذا، الذي سُبُله الإحسان والوعظ، أن يرغب في، وأن يمارس فعليًا، العنف ضدّ البشر الذين لا يدينون بدينه؟ إنّ تقديم النصح للكنيسة بعدم اضطهاد الخارجين عنها، أو مضلّي رعاياها، يشبه تقديم النصح لأكاديمية علمية بألا تمارس الاضطهاد والإعدام والنفي، وغير ذلك، بحقّ المخالفين لأفكارها. لا تستطيع أكاديمية علماء أن ترغب في ذلك، وإن رغبت فيه فهي عاجزة عن القيام بذلك لأنها لا تمتلك الوسائل لذلك. والأمر ذاته ينطبق على الكنيسة؛ فالكنيسة المسيحية، بحسب تعريفها لنفسها، لا يمكنها أن ترغب في استخدام العنف ضد المخالفين لها، فإن رغبت في ذلك فهي عاجزة عن القيام به، وهي لا تمتلك الوسائل لذلك. فماذا تعني، إذًا، تلك الاضطهادات التي مارستها الكنيسة منذ عهد قسطنطين، والمستمرّة حتى الآن، ولندع جانبًا مؤيدو التسامح الديني الذين ينصحون الكنيسة؟
III السيد ستاخوفيج، مستشهدًا في كلمته بأقوال غيزو حول ضرورة حرية الضمير للدين المسيحي، يُورِد، على أثر كلمات غيزو الحسنة والواضحة، أقوال أكساكوف المبلبلة، والذي يُضمِّن مفهوم الكنيسة ضمن مفهوم الدين المسيحي، وبعد أن يقوم بهذا التضمين، يحاول إثبات إمكان وضرورة التسامح الديني للكنيسة المسيحية. ولكن الدين المسيحي والكنيسة المسيحية ليسا الشيء ذاته، وليس لنا حقّ لافتراض أنّ ما يُميّز الدين المسيحي يُميّز الكنيسة المسيحية كذلك. الدين المسيحي هو الإدراك الأسمى للإنسان لعلاقته بالله، بلغته البشرية. وكل الذين يدينون بالدين المسيحي الحقّ، إذ يعرفون بأنهم قد وصلوا إلى درجة معينة من وضوح وسموّ الوعي الديني فقط بفضل حركة البشرية المتواصلة من الظلمة إلى النور، لا يمكنهم ألا يكونوا غير متسامحين دينيًا. وإذ يدركون أنهم يمتلكون درجة معينة وحسب من الحقيقة التي تنجلي وتتسامى، أكثر فأكثر، من خلال المساعي الجَمعية للبشرية، فإنهم، حين يلتقون بعقائد جديدة عليهم، ومختلفة عن عقيدتهم، ليس فقط لا يدينونها بل لا ينبذونها كذلك، وبسرورٍ يستقبلونها ويدرسونها ويراجعون عقيدتهم من خلالها، فيطرحون منها ما يخالف العقل ويقبلون ما يوضّح الحقيقة التي يؤمنون بها، ويسمو بها، ويتيقّنون أكثر مما هو مشترك في كافة الأديان. هكذا هي طبيعة الدين المسيحي عمومًا، وهكذا يتصرّف أتباع المسيحية. لكن الأمر ليس على هذا النحو مع الكنيسة؛ فالكنيسة، التي تعتبر نفسها الحامي الوحيد للحقيقة الإلهية الكليّة السرمدية، الثابتة على مرّ العصور، والتي كشفها الله ذاته للبشر، لا يمكنها ألاّ تنظر إلى أية عقيدة -مغايرة لما يرد في دوغماتها- إلا كعقيدةٍ باطلة وخبيثةٍ (أو حتى سيئة النيّة، عندما تخرج من عارفين بحال الكنيسة) تجرّ البشر إلى هلاكٍ أبدي. لذا، وحسب تعريفها لنفسها، لا يمكن للكنيسة أن تكون متسامحة، ولا يمكنها إلاّ أن تستخدم كلّ الوسائل التي تعتبرها موافقة لعقيدتها ضد غير المؤمنين، والمؤمنين المخالفين لمذهبها الديني. وبالتالي؛ فالدين المسيحي والكنيسة المسيحية مفهومان مختلفان كليًا من حيث الجوهر. صحيح أنّ كلّ كنيسة تعتبر نفسها الممثّل الوحيد للمسيحية إلا أنّ أتباع الدين المسيحي، أي الذين يدينون بالدين المسيحي الحرّ، لا يعترفون، بأيّ شكل كان، بأن تكون الكنيسة ممثّلةَ المسيحية. بل إنّ أتباع الدين المسيحي لا يستطيعون القيام بذلك حتى، فالكنائس عديدة، وكلّ منها تعتبر نفسها الحامل الوحيد للحقيقة الإلهية كلّها. إنه مزيج مفهومين مختلفين، ويستخدمه الكنائسيون دائمًا لغاياتٍ مختلفة، وهو ما يجعل جميع مناقشاتهم، حول حاجة الكنيسة إلى التسامح الديني، تعاني عمومًا من الغموض والتفاصح وانعدام الحجّة، وبالتالي عدم الإقناع المطلق. هكذا هي جميع مجادلات أمثال "خومياكوف" و"سامارين" و"اكساكوف"، وغيرهم، حول هذا الموضوع لدينا، في روسيا. وهو ما يعاني منه خطاب السيد ستاخوفيج. فهذه كلها ليست ثرثرة فارغة وحسب، بل ضارّة كذلك، وتغشّي بدخان البخور، من جديد، عيون الذين بدأوا بالخلاص من الكذب.
IV وإذًا؛ فعن السؤال القائل: كيف يمكن للكنيسة، التي تُعرّف نفسها بأنها مجتمع الناس الذين يبتغون التبشير بالحقّ، والتي لا تمتلك ولا قدرة لديها على امتلاك أية وسائل عنفية، أن تستخدم، وهي تستخدم، العنف ضدّ مخالفي عقيدتها، هناك جواب واحد فقط، وهو أنّ المؤسسة التي تسمّي نفسها الكنيسة المسيحية ليست مؤسسة مسيحية بل مؤسسة دنيوية تخالف المسيحية، وأقرب إلى العداء لها. عندما خطرت لي هذه الفكرة أوّل مرّة لم أصدّقها، إذ إننا لُقِّنّا جميعًا منذ الطفولة تبجيل قدسية الكنيسة. وظننتُ، في البداية، أنّ هذا مجرّد تناقض ظاهري، وأنّ هناك خطأ ما في تعريف الكنيسة هذا. ولكنّ كلما ذهبت أبعد في بحث هذه المسألة من مختلف جوانبها كلما ازددتُ يقينًا من أنّ تعريف الكنيسة بأنها مؤسسة غير مسيحية، بل ومعادية للمسيحية، لهو تعريفٌ دقيق تمامًا، والذي من دونه يستحيل على المرء أن يوضّح لنفسه كلّ تلك التناقضات الكامنة في أفعال الكنيسة، السابقة والراهنة. وبالفعل، ما الكنيسة؟ وعّاظ الكنيسة يقولون إنها مجتمع أنشأه المسيح، والمكلّف تكليفًا استثنائيًا بحفظ وتعليم الحقيقة الإلهية التي لا ريب فيها، والشاهد على هبوط الروح القدس على رعايا الكنيسة، وإنّ شهادة الروح القدس هذه تُورَّث من جيل لآخر عن طريق السُّنَّة التي سنَّها المسيح. لكن حريٌّ بالمرء وحسب دَرْس المعطيات التي تثبت هذا القول بانتباه حتى يقتنع بأنّ هذه البراهين جميعها لا أساس لها على الإطلاق. فنصّا الكتاب، الذي تعتبره الكنيسة مقدّسًا، واللذان تستند إليهما دلائل إنشاء الكنيسة من قِبل المسيح ذاته، لا يعنيان مطلقًا المعنى الذي يُعزى إليهما، ولا يمكن لهما، بأيِّ حالٍ من الأحوال، أن يعنيا إنشاء الكنيسة، إذ إنّ مفهوم الكنيسة بحدِّ ذاته إبّان تدوين الأناجيل، ناهيكم عن زمن المسيح، لم يكن له وجود على الإطلاق. وأما النص الثالث، الذي يؤسِّسون عليه حقّ الكنيسة في تعليم الحقيقة الإلهية، وهو الآيات الختامية لإنجيلي مرقس ومتى[1]، فيقرّ جميع دارسي الكتاب المقدّس بأنها مدسوسة. وليس بدرجة أقلّ يمكن إثبات خطل أنّ نزول ألسنة النار على رؤوس التلاميذ، والتي رآها التلاميذ فقط[2]، يعني أنّ كل ما يقوله، ليس هؤلاء التلاميذ فقط بل وكلّ من يضع هؤلاء التلاميذ عليهم الأيادي إنما ينطق به الله، أي الروح القدس، وبالتالي حقيقة لا ريب فيها أبدًا. وأما الأكثر أهميةً فهو لو أنه تمّ إثبات هذا كله (وهو مستحيل تمامًا) فليس هناك أيّ مجال لإثبات أنّ نعمة الخلوّ من الخطيئة تُقيم، بالتحديد، في الكنيسة التي تؤكّد ذلك فيما يخصّها. والصعوبة الرئيسة، والعصيّة على الحلّ، تكمن في عدم وجود كنيسة وحيدة، وأنّ كلّ كنيسة تؤكّد بأنها الوحيدة على حقّ، وأنّ الكنائس الأخرى كلها على باطل. وهكذا؛ فإنّ إقرار كلّ كنيسة بأنها الوحيدة الحقّ ليس له أكثر من وزن إقرار أي شخص يقول: «والله أنا مصيب، وكل من يخالفني مخطئ.» «والله، نحن فقط الكنيسة الحقّ» -في هذا، وفقط في هذا، تنحصر جميع براهين طهارة كلّ الكنائس. ولأساسٍ متقلقلٍ جدًا وباطلٍ كهذا عيبٌ آخر، وهو أنّ الكنيسة، التي تعدّ نفسها طاهرة، برفضها أية مراجعةٍ لكلِّ ما تبشّر به، تفتح مجالاً لا حدود له لكافة أشكال الأوهام العجيبة التي يُزعم أنها حقائق. وعندما تُقدَّم المزاعم الفنطازية الخَبِلة على أنها حقائق فمن الطبيعي ظهور أناسٍ يعارضون تلك المزاعم، ومن أجل إرغام الناس على الإيمان بتلك المزاعم الفنطازية الخَبِلة هناك وسيلة واحدة فقط: العنف. الآب -الإله أنجب، قبل الأزمنة كلها، الابن -الإله الذي نشأ منه كلّ شيء. وقد أُرْسِل هذا الابن إلى العالم لكي يُخلِّص البشر، وهنا وُلِد من جديد من العذراء؛ فصُلب، وقام، ورُفع إلى السماء حيث يجلس عن يمين الآب[3]. وفي نهاية العالم سوف يأتي هذا الابن ثانيةً ليحاكم الأحياء والأموات. وهذا كلّه حقّ، لا ريب فيه، أوحى به الله ذاته. إذا كنّا نحن، في القرن العشرين، لا يمكننا قبول هذه الدوغمات المناقضة للعقل السليم، وكذلك للمعرفة الإنسانية، فكذلك في زمن الوثن النيقي[4] لم يكن البشر يفتقرون إلى العقل السليم، ولم يكونوا قادرين على الموافقة على هذه الدوغمات الغريبة كلها، وقد عبّروا عن مخالفتهم لها. أمّا الكنيسة، معتبرةً نفسها أنها الوحيدة الحائزة على الحقيقة الكليّة، فلم يكن بمقدورها السماح بذلك، وبطبيعة الحال استخدمت الوسيلة الأسرع تأثيرًا ضدّ هذا الاعتراض، وضدّ انتشاره: العنف. فالكنيسة، متّحدةً مع السلطة، استخدمت العنف دائمًا -العنف الخفي، ولكن الأكثر تحديدًا وواقعيةً؛ فقد كانت تجمع الصدقات من الجميع قسرًا، ودون أن تسألهم موافقتهم أو مخالفتهم لدين الدولة الذي طلبت إليهم اتّباعه. عبر جمعها المال بالإكراه، فإنها بهذه الطريقة نظّمت أقوى عملية تنويم مغناطيسي لكي ترسّخ، وحسب، عقيدتها وسط الأطفال والبالغين. ولو أنّ هذه الوسيلة لم تكن في متناولها لكانت استخدمت عنف السلطة المباشر. وبالتالي، ففي الكنيسة المدعومة من قِبل الدولة لا يمكن أن يكون هناك أي حديث عن التسامح الديني، ولا يمكن لهذا الأمر أن يكون على غير هذا النحو مادامت الكنائسُ ستبقى كنائسَ. يقولون: إنّ الكنائس التي على شاكلة "الكويكرز"[5] و"الشيكرز"[6] و"المورمون"[7]، وبصورة خاصة في الوقت الراهن المَجْمَع الكاثوليكي، تجمع المال من رعاياها دون اللجوء إلى عنف السلطة، وبالتالي فهي لا تستخدم العنف لترسيخ كنائسها. لكنّ هذا ليس صحيحًا؛ فالمال، الذي جمعه الأغنياء، وخاصة المجمع الكاثوليكي، طوال قرون، عن طريق التنويم المغناطيسي، ليست تقدمات حرّة من قبل رعايا الكنيسة، بل هي نتاج أكثر أشكال العنف قسوةً؛ فالمال يُجمع عن طريق العنف، ودائمًا بوسائل العنف. ولكي تكون الكنيسة قادرة على اعتبار نفسها متسامحة دينيًا يجب أن تكون متحررة من كافة المؤثّرات المالية: «مجانًا أخذتم، مجانًا أعطوا»
V والواقع هو أنّ الكنيسة لا تمتلك أدوات العنف. والعنف، إذا كان يُستخدم، فإنه لا يُستخدم من قِبل الكنيسة ذاتها، وإنما من قِبل السلطة التي تتحّد معها الكنيسة، ولهذا يظهر السؤال: لماذا تتّحد الحكومة والطبقات الحاكمة مع الكنيسة، وتدعمها؟ إذ المفروض ألاّ تعبأ الحكومات والطبقات الحاكمة بالعقائد التي تُبشّر بها الكنائس. ومن المفروض أن يكون سيان لدى الحكومات والطبقات الحاكمة ما الذي تؤمن به الشعوب التي تحكمها: سواء كانت تتبع المذهب الإصلاحي أم الكاثوليكي أم الأرثوذكسي أم الإسلامي. لكنّ الأمر ليس كذلك. في كل العصور تتناسب العقائد الدينية مع الأنظمة الاجتماعية، أي إنّ النظام الاجتماعي يتشكّل تبعًا للعقائد الدينية. والحكومات والطبقات الحاكمة تعرف هذا، ولذلك تدعم المذهب الديني الملائم لمصلحتها. الحكومات والطبقات تعلم أنّ الدين المسيحي الحقّ يرفض السلطة القائمة على العنف، ويرفض التفاوت الطبقي، ومراكمة الثروة، والإعدامات، والحروب -أي كل ما بفضله تشغل الحكومات والطبقات الحاكمة مكانتها المفيدة لها، ولهذا تعتبر أنّ دعم العقيدة التي تبرِّر وضعها أمرٌ ضروري. والمسيحية، التي أفسدتها الكنائس، تفعل ذلك، مقدِّمةً تلك المنفعة، وعبر تحريف المسيحية الحقّ، تحجب عن الناس النفاذ إليها. ما كان للحكومات والطبقات الحاكمة أن توجد لولا هذا التحريف للمسيحية الذي يُسمى العقيدة الكنسية. والكنيسة، مع أكاذيبها، ما كان لها أن توجد لولا عنف الحكومات والطبقات الحاكمة، المباشر أو غير المباشر. يتجلّى هذا العنف لدى بعض الحكومات في الاضطهادات، ولدى أخرى في الحماية الاستثنائية للطبقات الغنية الحائزة على الثروة؛ فامتلاك الثروة مشروط بالعنف فقط، ولهذا تعاضد الكنيسة والحكومة والطبقات الحاكمة بعضها بعضًا. وبالتالي، فإنّ معارضي التسامح الديني محقّون تمامًا حين يدافعون عن حقّ الكنيسة في العنف والاضطهاد، الحقّ الذي يعتمد وجودها عليه. ولكان مؤيدو التسامح الديني محقّين فقط عندما لا يتوجهون إلى الكنيسة، وإنما إلى الحكومات، وطالبوا بما يسمّى خطأً فصل الكنيسة عن الدولة، والذي هو من حيث الجوهر، ليس سوى إيقاف الدعم الحكومي الاستثنائي -عبر العنف المباشر أو غير المباشر- لعقيدة معينة ما فقط. أما الطلب إلى الكنيسة بالكفّ عن العنف أيًّا كان شكله؛ فهذا يشبه الطلب إلى عدوٍّ محاصرٍ من كل الجهات أن يسلّم سلاحه، وأن يستسلم لمهاجميه. يمكن فقط للمسيحية الحقّ والحرّة، وغير المرتبطة بأية مؤسسات دنيوية، أن تكون متسامحة، وبالتالي لا تخشى شيئًا أو أحدًا، والتي غايتها الوحيدة معرفة الحقيقة الإلهية أكثر فأكثر، وتحقيقها في الحياة أكثر فأكثر. 28 كانون الأول 1910 *** *** *** [1] انظر: متى (28 : 16-20)، ومرقس (16 : 15). [2] انظر: أعمال الرسل (2:3-4). [3] انظر أعمال الرسل (2: 33)، وكذلك: (2: 34). [4] نسبةً إلى مَجْمَع نيقية. [5] الكويكرز Quakers: طائفة بروتستانتية أنغلو -أمريكية، نشأت في القرن الثامن عشر. [6] الشيكرز Shakers: وهي طائفة بروتستانتية أنغلو -أمريكية، نشأت في نهاية القرن الثامن عشر. [7] المورمون Mormons: طائفة دينية ظهرت في النصف الأول من القرن التاسع عشر في أمريكا.
|
|
|