|
حوار في الغنوصية والمندائية
يعتبر مؤرخ الأفكار السوري فراس السواح واحدًا من المنقبين في آثار الحضارات
البائدة عل أجوبة تتجلى على أسئلة عصرنا. فمن كتابه الأول مغامرة العقل الأولى الذي
صدر أواخر سبعينات القرن الماضي وحتى كتابه الأخير الوجه الآخر للمسيح، مدخل إلى
الغنوصية المسيحية، يستبطن الميثولوجيا وتاريخ الأديان. التقيناه في حمص مؤخرًا،
فكان هذا الحوار:
صباح مال الله إلى جانب فراس السواح صباح مال الله: اصدرتم مؤخرًا كتابكم طريق اخوان الصفا وفيه تشيرون إلى تأثر اخوان الصفا بالغنوصية والفكر اليوناني، وتأسيسهم لإسلام كوني شمولي يستوعب المذاهب كلها من خلال نظرة منفتحة ترى الوحدة من خلال التنوع. ألا تجدون في بحثكم هذا طرحًا جريئًا لم يتناوله أحد من قبلكم؟ فراس السواح: نعم، هو بحث جديد. لم ينتبه الباحثون العرب إلى المعنى الذي تذهب إليه رسائل اخوان الصفا، فقمت بدراسة وتحليل هذه الرسائل فوجدت مذهبهم مذهبًا غنوصيًا، وعلى هذا حللت الأفكار وجمعتها في محاور سبعة هي: نظرية التكوين وصفة العالم ومعرفة النفس وارتقاء النفس والنجاة من أسر الطبيعة والآخرة والنشأة الثانية والاسم اخوان الصفا وطريق النجاة المشترك والمسائل التنظيمية. ويقوم مذهب اخوان الصفا على التوفيق بين الأديان والابتعاد عن التعصب الذي اعتبروه "آفة العقول يعميها عن رؤية الحقائق". ومثل الغنوصيين يقول اخوان الصفا بأن موت الجسد هو ولادة الروح، ويشبهون ملاك الموت بقابلة الأرواح لأنه يستولد النفس (الروح) من الجسد كما تستولد القابلة الجنين من الرحم. ص. م. ا: باعتقادي أنه بحث ناجح ويمكن أن يكون مصدرًا من مصادر البحث. ف. س.: نعم، أنا أعددته لهذا الغرض. ص. م. ا: وما هي التأثيرات الشرقية على الفكر الغنوصي الثنيوي؟ وهل الغنوصية هي نتيجة لتلاقح الأفكار الغربية مع الشرقية البابلية والزردشتية؟ ف. س.: زرادشت مصدر الثنوية ثم اتخذت أشكال متعددة، الغنوصية والمانوية وحتى الأزيدية في سوريا معتقدها ثنيوي، ولدينا في سوريا الكثير من الأزيدين. ص. م. ا: هل تعتبر يوحنا المعمدان غنوصيًا؟ وكيف تفسر علاقة المندائيين به؟ ف. س.: يوحنا المعمدان ليس له صلة عضوية بالغنوصية، بعض الفرق الغنوصية نسبت نفسها إلى يوحنا المعمدان، ولكن لم تكن له صلة بهم. يوحنا المعمدان أقرب إلى الشخصية الأسطورية لأننا لا نملك معلومات عنه ولا نعرف ما هي تعاليمه. المندائية، مثل ما نقول، عبارة عن صدفة جيولوجية أي مثل الأحفور الذي جاءنا من العصور القديمة بسبب محافظة المندائيين عليها مما أدى إلى عدم ذوبان المندائية في المحيط الذي كانت تعيش فيه. مع الأسف إن أكثر الدراسات التي تمت عن الغنوصية تمت على أيدي باحثين معادين لها، أي من قبل خصومها، إلا أن النظرة تغيرت بعد السبعينات من القرن الماضي مثل كتابي الوجه الآخر للمسيح، كما أن هناك حركة علمية بدأت بالظهور في أواخر القرن الماضي تعنى بالدراسات الغنوصية في الولايات المتحدة والمانيا وفرنسا. اليهود ليس لهم مصلحة في دراسة العقيدة الغنوصية لأن الغنوصية تقف على طرف نقيض مع الفكر اليهودي. فالغنوصية معتقد خلاصٍ، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. ولكن الخلاص الغنوصي لن يتأتى عن طريق العبادات الشكلية والطقوس إذا لم تترافق مع المعرفة وتكون مقدمة له. فعلى العكس من بقية النظم الدينية التي تبشر ببعث أجساد الموتى في اليوم الأخير، فإن البعث الذي تبشر به الغنوصية هو بعث الأرواح، إنه خلاص من الجسد ومن العالم في آن واحد. إن ما يبحث عنه الغنوصي ليس الإله الذي صنع العالم المادي الناقص والمليء بالألم والشر والموت، بل هو الآب النوراني الأعلى الذي يتجاوز ثنائيات الخلق، ولا يحده وصف أو يحيط به اسم. فالغنوصية ديانة خلاص، وكل مفاهيمها وتصوراتها الكونية تتلخص أخيرًا في مفهوم واحد عن التحرر والانعتاق. والصراع الرئيسي الذي يخوضه الانسان هو صراع بين العرفان الذي يقود إلى الخلاص، وبين الجهل الذي يبقيه في دورة الميلاد والموت. ص. م. ا: هل للمندائيين (الناصورائيين) علاقة بالطوائف التي ظهرت أثناء الوجود الهلنستي في فلسطين بحدود القرن الثاني ق. م.؟ وما هي علاقة المندائيين بالأسينين وكذلك بالطوائف الغنوصية في الشام؟ ف. س.: تاريخ الغنوصية هو تاريخ غامض، فالغنوصية ظهرت في المشرق العربي في مطلع القرن الأول الميلادي، وهو يموج بالحركات الفكرية ويفيض بالثقافات المتنوعة، ويمكننا تلمس أصول الغنوصية في الرسائل الهرمسية، وهي رسائل اسكندرانية، وعليه فإن منشأ الغنوصية هو مصر وهي البوتقة الأولى التي احتوت هذه الأفكار ثم أصبحت لها علاقة بالثقافة الهلنستية. ومن أهم معلمي الغنوصية في مصر هو فالنتينوس، الذي ولد بمنطقة الدلتا المصرية من أسرة ذات أصول يونانية عام 100 م.، وتلقى علومه في الاسكندرية، مدينة العلم والثقافة في ذلك العصر، وبؤرة الفكر الأفلاطوني والهرمسي. وقد أخذت الغنوصية من الأفلاطونية كذلك، ويمكن اعتبارها خلطة لمعظم التيارات التي كانت سائدة في المنطقة. في الحقيقة إن تاريخ الغنوصية في سوريا غامض لأننا لانملك أية وثائق عنهم. لا نستطيع القول بأن هناك غنوصية سورية مميزة لأنه في ذلك الوقت لم يكن أي قطر من الأقطار ذا خصوصية مميزة، فسوريا لم تكن تتميز ثقافيًا عن بلاد الرافدين ولا عن الثقافة المصرية. نزوح الغنوصية إلى أوروبا متأخر، وأصول الغنوصية هي أصول مشرقية وليس العكس. نعم هناك غنوصية سورية ولكن معلوماتنا عنها مبعثرة. بعض الباحثين، من أمثال سبنسر لويس، يعتقد بأن الناصورائيين هم شيعة سرانية غير يهودية مثل شيعة النذريين وشيع أخرى، وكان لهم مقام ديني مقدس على جبل الكرمل، ودير هو أشبه بالمعهد الديني يلتحق به الفتيان في سن الثانية عشر، من أجل الإعداد الديني وتلقي الأسرار، وكان لهذا المقام الديني شهرة واسعة خارج فلسطين وقصده العديد من الحكماء وامضوا فيه وقتًا لا بأس به خلال فترة اعدادهم الروحي، ومنهم فيثاغورس الذي تروي سيرة حياته عن اعتكافه لسنوات في جبل الكرمل. ص. م. ا: بعض المستشرقين مثل الألماني ليدزباركسي، الذي ترجم كتاب المندائيين المقدس "الكنزا ربا" أو الكنز الكبير في بداية القرن العشرين، يعتقد بأن أصل المندائيين من شمال بلاد الشام بدلالة تشابه تسميات بعض الكائنات النورانية المندائية مع بعض الإلهة السورية القديمة مثل حراس النهر الحي شلمي وندبي؟ ف. س.: من الجائز تمامًا. إلا أن الموضوع يحتاج لمزيد من البحث. ولكن حسب علمي لم تكن هناك فرق مغتسلة في سوريا. ص. م. ا: المندائية كلمة آرامية تعني المعرفية، وقد حولها اليونانيون إلى كلمة غنوستكا، ومن ثم إلى كلمة "الغنوصية" في اللغة العربية، ما هو أصل الغنوصية برأيك؟ ف. س.: أصول الغنوصية غامضة، ولا نستطيع متابعة تاريخها إلا بحدود القرن الأول الميلادي. وتاريخ الغنوصية تاريخ يشوبه الغموض حيث ظهرت في زمن كانت منطقة الشرق الأوسط تموج بالحركات الفكرية نتيجة لتمازج الثقافات والشعوب وظهور وغياب طوائف فيها بكثرة، ويرجح ظهورها في القرن الأول الميلادي في الرسائل الرمزية لهرمز مثلث الحكمة أو مثلث العظمة وتعتبر الشرارة التي فجرت هذا الاتجاه. وقد أخذت الغنوصية من الأفلاطونية - الوسيطة والمحدثة - الكثير من الأفكار رفدها تيار يهودي غنوصي حيث أن الكثير من يهود الاسكندرية قد تحولوا إلى الغنوصية آنذاك، كما أن المسيحيين قد ساهموا بتطوير الفكر الغنوصي؛ وعليه فإن الغنوصية هي بمثابة مزيج من معظم التيارات التي كانت سائدة في تلك الحقبة. أما بالنسبة للغنوصية السورية فنحن لا نعرف عنها الكثير، كما أسلفت، لعدم وجود وثائق، ولكننا نعلم بوجودها من خلال وجود سمعان ماغوس أو سايمون ماغوس (الساحر)، والذي يقال بأنه كان من تلاميذ يوحنا المعمدان، وهو مؤسس المدرسة الغنوصية السورية، ولكنه من أكثر الشخصيات الغنوصية غموضًا، لأن مؤلفاته قد ضاعت، ولم يبق منها إلا أفكار متفرقة وصلت إلينا عن طريق نقاده المسيحيين. وقد نشط سمعان خلال أواسط القرن الأول الميلادي، وهذا يعني أنه قد عاصر يسوع ونشط خلال فترة نشاط الرسل الأوائل. ص. م. ا: وما هي تعاليم سايمون ماغوس؟ ف. س.: يقول سمعان، وفقًا لناقده هيبوليتوس، بأن الله قوة أزلية موحدة وغير متمايزة، منغلقة على نفسها في صمت مطلق. ثم إن هذه القوة اتخذت شكلاً وانقسمت على نفسها، فظهر العقل Nous وهو مذكر، والفكرة Enoia وهي مؤنثة. وبذلك انشطرت الألوهة إلى قسم علوي وهو عالم الروح، وقسم سفلي هو عالم المادة. وقد كان لسمعان عدد من التلاميذ أشهرهم دوتيسيوس وميناندر اللذان بشرا في سورية، واتخذا من انطاكية مقرًا لهما. ص. م. ا: المندائيون لديهم وثيقة تسمى "حران كَويثا" أي حران الداخلية، وهي تتحدث عن هجرة المندائيين من أورشليم إلى أرض ميديا ومن ثم إلى بابل ومملكة ميسان في جنوب العراق، وذلك عند خراب الهيكل الثاني أي بحدود سنة 70 ب. م. نتيجة لاضطهاد اليهود لهم، كيف تفسرون انتقال هذا الفكر المصري الغنوصي إلى مندائيو بلاد الرافدين؟ ف. س.: هذا ممكن، ولكن ليس لدينا وثائق تاريخية تثبت هذا القول. ص. م. ا: تشهد الغنوصية والآرامية حركة انتعاش فكرية كبيرة في الجامعات والمعاهد الغربية، والآرامية كما نعلم منشؤها بلاد الشام، لماذا لاتشجعون مثل هذا التوجه البحثي بدلاً من الاعتماد على المستشرقين والباحثين الغربيين؟ ف. س.: هذه الدراسات تمر في حالة سبات في سوريا، فالجامعات السورية لا تقوم بواجبها في هذا المجال. البحوث والدراسات بحاجة إلى التفرغ وبحاجة إلى تمويل، فمثلاً أنا متفرغ للبحوث منذ عشرين عامًا، ولولا أن لدي مردودًا ماليًا من أعمالي لما استطعت الاستمرار، لأنه لا توجد جهة تسند البحوث وتعطي المنح للباحثين. ومع ذلك توجد جهود فردية قليلة في مجال الآراميات منها أخيرًا كتاب اللغة الآرامية القديمة للدكتور فاروق اسماعيل الأستاذ في جامعة حلب، بالإضافة إلى كتابي آراميو دمشق واسرائيل.
ص. م. ا: ممكن نبذة عن حياتك؟ ف. س.: أنا مولود في مدينة حمص سنة 1943، ودرست إدارة الأعمال في جامعة دمشق. ص. م. ا: إذًا أنت بعيد عن مجالك الحالي! ف. س.: نعم، وقد تفرغت خلال العشرين سنة الأخيرة تفرغ كامل للبحث والكتابة وهما مجال عملي الوحيد الآن. ص. م. ا: كيف تكوّن لديك هذا الاهتمام بالتاريخ والأديان والتراث؟ وما هي انطلاقتك الأولى؟ ف. س.: دائمًا يوجه لي هذا السؤال، والحقيقة لا أعلم! انطلاقتي الأساسية هي كتابي مغامرة العقل الأولى الذي صدر سنة 1976، وطبع منه العديد من الطبعات. لقد كان همي دومًا البحث عن وحدة التجربة الروحية الإنسان عبر التاريخ، بصرف النظر عن مصدر الخبرة الدينية، وهل هي من أصل ما ورائي أم نتاج تجربة إنسانية وكدح روحي! ص. م. ا: الكثيرون يثمنون عملكم جلجامش، وخصوصًا الجزء المسرحي الذي قمتم باعداده. هل اعتمدتم النص السومري-الآكادي في هذا العمل، أم على النصوص المترجمة؟ ف. س.: أنا لا اقرأ أية لغة قديمة، وإنما اعتمدت على النصوص المترجمة إلى الانجليزية وعلى ترجمتي طه باقر وسامي سعيد الأحمد. ص. م. ا: كم يبلغ عدد مؤلفاتك، وبماذا تعزو اقبال القراء عليها؟ ف. س.: أعمالي تتجاوز الأربعة عشر عملاً منها جلجامش ولغز عشتار ومغامرة العقل الأولى والوجه الآخر للمسيح وارام دمشق واسرائيل وطريق اخوان الصفا وغيرها. لحد الآن لا أسمي نفسي باحثًا محترفًا بالرغم أني أعيش من دخل مؤلفاتي. أنا هاوي ولكني أعمل بغرام ومحبة والموضوع هو الذي يختارني ولست الذي أنا أختاره، ويمكنك القول بأن الموضوع يهجم عليّ ومن محبتي للموضوع اتعمق فيه، فأنا ابذل نصف جهدي بتوليد الأفكار والنصف الثاني بطريقة ايصال الفكرة إلى القارئ. أنا اكتب بمرجعية حديثة وربما هذا هو سبب اقبال الناس على أعمالي. ص. م. ا: ما هي أعمالكم الأخيرة؟ ف. س.: انتهيت من كتاب الأنجيل برواية القرآن وكتاب القصص القرآني والمتوازيات التوراتية وكذلك كتاب من إيل إلى الله. ص. م. ا: لماذا أنت مقل في المقابلات الأعلامية، ولماذا وافقت على مقابلتنا؟ ف. س.: في الحقيقة ليس لدي الوقت الكثير للمقابلات، فنادرًا ما تأتيك مقابلة محرضة، كما أني مقل في الكلام ولا أحب الكلام الكثير. حضوركم استثارني. أن أرى مندائيين في سوريا ولديكم جمعية في سوريا لم يكن بالحسبان، والحقيقة استغربت فإنكم تشبهون السوريين، وجوهكم سورية. أنا لم اتعمق في دراستي للمندائية لأنه تعوزني المصادر، ولهذا سأحاول أن اعمل برنامجًا تلفزيونيًا عنكم لاطلاع الرأي العام عن طائفتكم وعلى طقوسكم المندائية. ص. م. ا: نحن مسرورون بلقائك ونعتبرها فرصة جميلة جدًا؟ ف. س.: أنا محظوظ بلقاء المندائيين، فقد أثرتم خيالي منذ بضعة عقود ولم اتوقع في حياتي أن التقي بالمندائيين. واعتقد بأن المندائية تيار من التيارات الدينية المهمة جدًا والتي حفظت لنا كل روحانية الشرق، أنا سعيد جدًا بلقائكم. ص. م. ا: نطمح أن تخصصوا جزءًا من بحوثكم للمندائية في دراساتك المستقبلية ونأمل في لقاء قريب آخر. ف. س.: أنا سعيد جدًا بلقائكم. وتم تقديم كتاب المندائيين المقدس الكنزا ربا هدية من الجمعية المندائية في سوريا التي تقبلها بسرور بالغ وعلق بأن هذا اللقاء والتعريف بالمندائية كان يجب أن يتم قبل هذا التاريخ باعتبار أن الأرث المندائي ثروة معرفية كبيرة. حاوره: صباح مال الله[1] *** *** *** إيلاف [1] الدكتور صباح مال الله باحث في الدراسات الغنوصية والمندائية - جامعة لندن.
|
|
|