رودان وصناعة البورتريه
هنا الأعين تحدّق إلى الموت ولا تخشاه

 

محمود الزيباوي

 

يقيم متحف رودان في كل موسم معرضًا يلقي الضوء على رافد من روافد أشهر نحّاتي فرنسا الكلاسيكيين. تحت عنوان صناعة البورتريه، يجمع المتحف اليوم مئة وسبعة عشر عملاً تشهد لأسلوب النحات الخاص في معالجة فن "الصورة الشخصية". ندخل محترف الفنان ونتعرف إلى وجوه بعض من كبار أعلام الفكر والفن والسياسة في نهاية القرن التاسع عشر، عبر رسوم ومنحوتات، منها أعمال غير معروفة تُعرض أمام الجمهور العريض للمرة الأولى.

تتوزّع هذه المجموعة الكبيرة من الوجوه على ثلاثة أقسام يمثّل كل منها طريقة من الطرق الرئيسية التي اعتمدها أوغست رودان في مقاربة فن البورتريه. يعالج القسم الأول أسلوب النحات المميز في "الاستحواذ على الموديل"، ويحاول القسم الثاني تحديد خصوصية رودان في "تجسيد الموديل". في المقابل، يلقي القسم الأخير الضوء على طريقة الفنان في "تجاوز الموديل" من خلال اعتماده لغة تجريبية تتجاوز ناموس الكلاسيكية التي التزمها في ربيع حياته الفنية الطويلة. تتقاطع هذه الطرق الثلاث وتتواصل، وتشكل خلاصتها أسلوبًا تعبيريًا تميز به رودان بعدما تجاوز الخمسين وبات علمًا مكرسًا من أعلام الثقافة الفرنسية في عصره. صدم هذا الأسلوب الكثير من الذين رافقوا الفنان في مسيرته، ورأى البعض أن صانع باب الجحيم والمفكر والقبلة لا يُمكن مقارنته بصانع الوجوه الخاصة. رفضت "جمعية أهل الأدب" بورتريه بلزاك الذي أنجزه رودان بطلب منها، واعتبر البابا بنوا الخامس عشر أن الصورة التي نحتها له تمثل نوعًا من التعدي الوقح على مقامه، ولم يتعرف جورج كليمنصو إلى نفسه في أيٍّ من التماثيل التي تمثّله. بدت هذه الأعمال في زمنها أعمالاً "ناقصة" تشكل "زلة" في مسيرة رودان المجيدة، وقد أعاد النقد الحديث الاعتبار إليها ورفعها إلى مصاف الأعمال الكبيرة التي كرّست شهرة آخر النحاتين الكلاسيكيين في عهد ما يُعرف بـ"الأمبراطورية الثانية".

الشبه الأقصى

في القسم الأول من المعرض، يبرز فيكتور هوغو بقوة، ويتجلى حضوره الطاغي عبر اثني عشر عملا أنجزت بين عام 1883 وعام 1884. يلتقط رودان بخط الرسم سمات وجه الكاتب الشهير الذي رحل في عام 1885، ويستعيد هذه الرسوم في صوغ البورتريه المنحوت في الطين المختمر بالنار أولاً، ثم في الجص ثانيًا، وتكتمل الصورة في قالب البرونز حيث يأخذ الوجه طابعًا أكاديميًا خاصًا. إلى جانب هوغو، يحضر بلزاك في ستة أعمال تعود إلى مرحلة تمتد من عام 1891 إلى عام 1897. رسم تخطيطي يمثل ثلاثة من وجوه صاحب الكوميديا الإنسانية، وخمسة تماثيل طينية تبدو أشبه بالدراسات التحضيرية. نتعرف إلى وجوه أخرى تمثل بعضًا من أعلام الأدب الذين برزوا في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، ومنهم كارولين ريمي، صاحبة الصفحات الحمراء التي اشتهرت باسم سيفيرين، وهي هنا في وجهين مخطوطين بالفحم يشكلان مقدمة لبورتريه من الجبس من إنتاج عام 1893. يتجلى وجه بودلير في منحوتة من الجبس لا يعرفها سوى القلة من المختصين، وقد استعان النحات في صوغها ببورتريه تقليدي من توقيع الرسام الأكاديمي هنري تيودور مارتيست، وكان يعدّ لنصب خاص بشاعر أزهار الشر، غير أن الظروف منعته من إتمامه. تمثل المنحوتات الأخرى المعروضة في هذا القسم وجوها لأناس من الذين عرفوا رودان عن كثب، وبعضهم من مشاهير المجتمع الباريسي الذين دخلوا اليوم عالم النسيان. من إنتاج النحات الأخير، نتوقف أمام ثلاثة أعمال تمثّل جياكومو ديلا كيازا الذي حمل اسم بنوا الخامس عشر عند جلوسه على كرسي رومية في الثالث من شهر أيلول عام 1914. أنجز رودان هذه الأعمال في عام 1915 وهو في قمة مجده، ورحل بعد عامين، وهو في السابعة والسبعين من عمره.

تشهد قطع القسم الثاني من المعرض لطريقة النحات في "تجسيد" الموديل الحي، وأقدمها زمنيًا زيتية من عام 1863 تمثّل والده جان باتيست، ومنحوتة من أشهر أعماله البرونزية تعود إلى عام 1870، وعنوانها الرجل ذو الأنف المكسور. يبرع النحات في نقل سمات الموديل بأمانة، لكن هذه الأمانة لا تمنعه من تجاوز حدود التماثل والتطابق، رغبة في الوصول إلى "الشبه" المطلق. من محيطه العائلي، استعاد النحات وجه زوجته روز بوريه، ووجه تلميذته وعشيقته كاميل كلوديل، وصوّر نفسه في زيتية تحمل تاريخ 1898. من زملائه الفنانين، جسّد وجه النحات جول دالو ووجه الرسام جان بول لورنس. من الأدباء، صوَّر جورج برنارد شو في عام 1906، وجسّد وجهه مرة في منحوتة من الطين، ومرة في منحوتة من الجص. بدورهم، جلس كبار السياسيين أمام رائد النحت كي يجسدهم، وكان أبرزهم جورج كليمنصو. استعاد النحات هذا الوجه في أعمال عدة، وهي في المعرض ستة من الطين، وواحدة من الجبس. يُحكى أنّ كليمنصو قال إن هذه الوجوه لا تشبهه، وقال رودان في رد غير مباشر: "يرى كليمنصو نفسه في الواقع، وأنا أراه في الأسطورة".

مثل وردة

تمثل أعمال القسم الثالث تجاوز الموديل بحثًا عن هذه الصورة الأسطورية، وهي في منظورنا الحديث الأكثر إثارة. بطلة العرض هي في الدرجة الأولى راقصة يابانية تُدعى هاناكو، اختارها رودان لتكون له موديلاً عام 1906، وصوّرها في عدد هائل من أعماله رسمًا ونحتًا. كما هو معروف، استعاد المثّال بعض الوجوه الشهيرة في أكثر من عمل، إلا أن عدد الأعمال التي تصوّر هذه المرأة الآسيوية يبقى الأكبر في مسيرته الفنية التي امتدت على ستة عقود من الزمن. من هذه الأعمال، اختار منظّمو المعرض ثلاثة أقنعة طينية تُدهش بحداثتها التعبيرية، وتمثالاً نصفيا من الجص، والمنحوتات الأربع من إنتاج 1907. تعود كاميل كلوديل مرّةً في قناع أبيض عام 1895، ومرّة أخرى في تمثال من الرخام صُنع عام 1907، وعنوانه المتعافية من المرض.

نتذكر النحاتة الشابة التي هامت بأستاذها حتى الجنون، وطلبت منه أن يهجر زوجته روز بوريه، لكنه أبى، وأكمل طريقه منتقلاً من مجد إلى مجد. حاولت العاشقة أن تتجاوز محنتها، غير أنها لم تفلح، واستسلمت لوحدتها حتى الانسحاق، ولم تجد من يمدّ إليها اليد ليسعفها، وأمضت السنوات الثلاثين الأخيرة وحيدة في مصح للأمراض العقلية.

من جديد، يتراءى فيكتور هوغو في قناع أنجزه النحات عام 1899، ويحضر بلزاك مرتديًا ثوبًا رهبانيًا رماديًا في مشروع نصب يعود إلى مطلع القرن العشرين. في السنين الأخيرة من حياته، صوّر رودان الموسيقي الألماني غوستاف ماهلر والأديب الفرنسي جول باربي دورفيلي. تشكل هذه الصور المنحوتة خاتمة المعرض، وتبدو كأنها وجوه خارجة من "باب الجحيم". تعود إلى الخاطر كلمات راينر ماريا ريلكه في وصف وجوه رودان:

هنا البشريّة تعاني جوعًا يتخطّاها. هنا تتفتّح الأعين، تحدّق إلى الموت ولا تخشاه. هنا تسود بطولة من دون أمل، مجدها شبيه بالابتسامة التي تحلّ وتمضي، تزهر وتنكسر مثل وردة.

*** *** ***

النهار

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 إضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود