|
كــولاج
إلهكَ
الذي تتكلم عنه، إلهكَ الذي ترك ابنه مصلوبًا كقطعة لحم في العراء. إني ارتعش إذ
أفكر ما الذي سيفعله بي. هلمي إليَّ، هلمي إليَّ أيتها الكائنات المبتلاة بشوق يلتهمها منتشيًا باتساع المسافات المنبسطة. هلمي إليَّ نتقلص مثل اسفنجة تعصرها يد الإله المبجلة. وحين لا يعود بإمكاننا تمثل الجسد ببراعته المستحيلة يمكننا على الأقل أن نتذكر أشكال الماضي سوية. الخطوة الأولى التي سأمشيها في اتجاهك تتصرف بخبث لا أفهمه، إلا أني أصر، وجسدي يتسق مع ذاته مثل حتمية غرق في منتصف مستنقع، على أنها ستكون مصيبة في خطأها، واسعة في ضيقها، وحرة في حتميتها. كما لا يمكن لفم بشري أن يتلفظ بكلمات عاشقة حين يلتصق بصاحبه رعب كينونته الذائبة، لا يمكن لفم بشري أن يهمس في أذني الملتصقتين بجمجمتي خوفًا إنه سيختار النطق عندما تتفتت الأرض تحت قدمي صاحبه بكلمات لا منطق فيها؛ لذا لن يكون من سيخبرني كيف تتكشف المياه الطحلبية عن إنسان رشيقٍ لامعٍ بشرًا. على الأقل سيكون قد اختبر الرذيلة ببراءة نحلة مميتة قبل أن يطلب من عدمه تشكيله كجوهر أزلي بلاشكل. لأجل هذا اليقين، هذا اليقين الملبد بألف شك، سأنهمك في إقصاء الأشكال الهندسية، المتواليات المؤكدة، والوجوه المكتملة أو التي في طريقها إلى الاكتمال. وعندما يقترب هذا الإقصاء من نهايته عليّ أن أبني بعض التشكيلات الهزيلة التي يمكن لريح خفيفة أو للمسة جرذ أن تطرحها أرضًا، إذ عليّ ألا أكون صاحبة الضربة الأخيرة للريشة. ولكن النية، النية الملعونة، والقصد سيرتفعان جدارًا بين المشيئة واللامشيئة، جدارًا يعادي والريح ولمسة الجرذ مشيئتي. نعم، يمكن أن تنقضي هذه الحياة وأنا أخطط دروبها، وأنا أحاول أن أجعلها تأخذ شكل البحر دون أن أتأكد من إمكانية ألا تلتهمني حشراتها المائية قبل أن أصل. ويح الواصلين كيف رموا شباكًا تجعل حلمهم وهاجًا كوحش مبجل. ويحهم وهم يلتهمون، بجلودهم الشفافة، البهجة الصغيرة التي يفرح بها ساكنوا الأرض، أولئك المتعبون من تفاصيل صغيرة، الفرحون بمثلثات الموج، والحزانى أمام الموت العفوي لأشكالها على رمل الشاطئ. أيها الوحش المليء بالثغرات والبهجة، المليء بالنعاس اللذيذ الذي يعتاش من رغباتنا؛ أيها الوحش الذي إن وضع في ميزان العقل تضاءل حتى يصبح جوهرة تسرق بصري؛ إني أراك في نومي وفي يقظتي، أدرسك كتلميذة مجتهدة، وحتى حين يتعطل عقلي واستسلم لغفوة شاعرية تعيش من نسغ عقل آخر آخذك معي كي تتأكد أني أمر حتى من الفجوات الإبرية في جلدك، أمر دون أن أترك أثرًا فيك ودون أن تضيء أسئلتي بعينيك المتألقة. * * * يُخرج الثعبان أقلامه وألوانه كلها، يقضمها ندمًا كطفل ارتكب المستحيلات أمام العيون المحدقة فيه ليحظى باعتراف بسيط، اعتراف واضح بسيط، في حين تشيح الأبصار عنه نحو أشياء أقل ما يقال عنها إنها أدنى، أدنى بكثير من الخط الأول. وهاهو البشري يبول على شجرة كانت في أزمنته الأولى علامة حرية وهاهي الآن صورتان متباعدتان مشوهتان: مثال وواقع. نحن لن نخطئ، يا أحبائي، لن نخطئ في اختيار الحبل الذي نمده بين المخلوقين؛ سنختار ذلك الثعبان بالذات، ذلك الثعبان النادم أبدًا، الهوة المثالية بين الإدراك والعمى. غيرنا اختلق خيارات أخرى، وغيرهم يستطيع وضع تلك الخيارات في ميزان الصح والخطأ أما نحن فلن نفعل لأننا نعرف أن الصح والخطأ هما جلد ثعابننا الضيق يبذره مثل مدينة لا يتوقف نموها حتى بموته. نحن لن نفتح أفواهنا لنقول شيئًا تافهًا عن الحق والباطل إذ لن تعنينا الأزمنة التي لا نعرفها إلا من سبات الشك فيمن استلقوا بين ذراعي الله قبل أن يصبح إلهًا، ولن تعنينا الأزمنة الأخرى تلك التي تكبر بلاحد منذ أن تناسل الآدميان الأولان هربًا من وحدتهما، من خوفهما، من الجهل الأحمق الذي وضعه الخالق حكمًا للعبة؛ لن تعنينا إلا تلك الشرارة الأولى، "الشرارة-اللحظة" التي انقاد فيها "الكاتب-الرسام" إلى اللعبة: هل أراد؟ هل قرر؟ هل انبطح فجأة على النار يحميها من نظرات الكسالى المائية؟ ما بعدُ ليس لنا به شأن. * * * ابتكر أونامونو من نظرية لأوليفر ويندل هولمز تقول إنه عندما يتبادل اثنان الحديث يكون هناك ستة أشخاص: ثلاثة للمتحدث الأول: ما هو عليه، ما يظن أنه عليه، وما يظنه الآخر عنه؛ وثلاثة مثلها للمتحدث الآخر؛ نظريةً أخرى تقول بوجود أربعة أوضاع للبشر الحقيقين وللبشر المتخيلين اثنان منهما ايجابيان: 1 - يريد أن يكون، 2 - يريد أن لا يكون؛ واثنان سلبيان: 1 - لا يريد أن يكون، 2 - لا يريد أن لا يكون. ووصل بهذه النظرية إلى استنتاج أن من الممكن استخراج كائن شاعري من شخص يريد أن لا يكون في حين لا يمكن ذلك من شخص لا يريد أن يكون. إذًا، الشخصان: من يريد أن لا يكون، ومن لا يريد أن يكون، ليسا الكائن ذاته؛ فالأول كائن يريد، وهو هنا الشخص الثاني من ثلاثية أحد المتحاورين: ما يظن أنه عليه - حتى لو كان ظنه أنه عدم خالص -. أريد أن أنقض عهودي كلها، لا يعجبني شيء، وتخرج عينيَّ من محجريهما أمام كل شيء. تكاد الأوراق الصفراء المتساقطة من شجرة تلهبها ريح شهوانية أن تقتلني وأكاد أصبح قيئًا أمام قصيدة رائعة. أجل، الصورة المثلى التي ليس من الضروري أن تكون شيئًا عظيمًا في نظر الآخرين هي أبدًا شيء عظيم في خيال من يستطيع أن يطأ أرض "الإرداة-العدم"؛ كثيرون من وهبوا أرواحهم لنا، كثيرون. كتب غوته في مذكراته أنه إن كان من حلم وهبه السعادة فهو أكليل الغار المصنوع زينة للشاعر. نحن لا نعرف كم قضى من الوقت جالسًا تحت شجرة، تلك الشجرة ذاتها التي لم تنقسم بعد، وهو يتأمل صورته المكللة بإكليل الغار بينما يمر الوقت ثقيلاً وخفيفًا في نفسه؛ ولا نعرف هل أختاره الشعر عندما نطق هذه الصورة في ذهنه قبل أن تصبح كلمات ناجزة كتبها في سنواته الأخيرة أم أنه هو من اختار الشعر تشبهًا بصورة أخرى أكثر وضوحًا وخفية معًا: المجد. نعم، نعم، نعم. المجد هو الصليب الذي يحمل خيباتنا حين يضيق بها الصدر، وهاهي تخرج من فم البشرية مثل كرنفال ساحر لا تُحتمل الحياة بدونه. أحبائي، أيها المتساقطون حول الضوء مثل الذباب، أيها المستسلمون بإرداة من حديد لكونكم حبر هذا الكرنفال الرائع، أيها المتضَّامون بعضكم إلى بعض مثل باقة ورد على مائدة جوعى؛ يدي تعرق وشفتاي تتمزقان من ضحك لامرئي لكنه أكثر سطوعًا من حجر الفلاسفة. أحبائي، على ذلك الحبل، في بطن ثعبان بريء نادم، سنشعل نارًا من حجري صوان متماثلين: نريد أن لا نكون، ولا نريد. *** *** *** |
|
|