|
فونيس القويّ الذاكرة
في حديث إذاعي بُثّ من الإذاعة الفرنسية، وصدر في كتيّب عن دار غاليمار عام 1967، أجاب بورخيس محاوره جورج شاربونيي بالآتي: "كتبتُ أقصوصة فونيس، لأني أمضيت ليالي طويلة من الأرق. ومثل كل الناس أردتُ أن أنام. ولم أستطع. كي ينام المرء، عليه أن ينسى قليلاً الأشياء. يومذاك، لم أقوَ على النسيان. كنتُ أغمض عينيّ، وأتخيّلني مُغمض العينين في فراشي. لكني كنت أظل أتخيّل الأثاث والمرايا، والمنزل بكامله. ولأتخلّص من كل ذلك وضعتُ فونيس التي هي نوع من المجاز للأرق، لصعوبة أو لاستحالة الاستسلام للنسيان. لأن النوم هو هذا الاستسلام للنسيان الكلي. نسيان المرء هويته. نسيان ظروفه. فونيس لم يستطع ذلك. لذا، مات أخيراً من الإرهاق. وقد ساعدتني هذه الأقصوصة على الشفاء. فقد أودعتُ كل أرقي في بطلها. ولا أعني أنني نمتُ جيدًا ما إن أنهيتها، وإنما بدأت أشفى". إلاّ أن بورخيس استدرك فقال: "إنه لا يعلم حقيقة، إن كان هذا هو التفسير الوحيد للأقصوصة. فالكاتب، أظن، لا يبدأ بفكرة مجرّدة، بل بصورة تتراءى له. وسابقًا قال كيبلنغ: من المسموح للكاتب أن يختلق أسطورة، وليس عليه أن يعرف مغزاها. إنه يطرح رموزًا. وعلى القارئ والنقد أن يستخرجا ما وراء تلك الرموز. الكاتب ينقل حلمه بأمانة، وليس على طريقة المؤرخ أو الصحافي. فأمانته تسلك طريقًا أخرى. لا أعتقد - والحديث الآن لبورخيس - أن سرفانتس أو دانتي مثلاً، كانا على معرفة تامة بعملهما قبل أن يخطّا سطرًا واحدًا". وعليه، نرى كقرّاء (ربما) في فونيس، نوعًا من سيرة ذاتية ذهنية (ويلاحظ ذلك في بعض أقاصيص المؤلف). طبعًا ثمة فرق كبير بين ذاكرة المؤلف وبطله الأسطوري. لكن المعروف عن بورخيس أنه كان يملك ذاكرة قوية ويتباهى بها. ولما ضعف بصره في الخمسين من عمره، كان يبني أقاصيصه وقصائده في تلك الذاكرة، ثم يمليها على مساعده. كما طه حسين أو المعرّي في أدبنا العربي أو ميلتون الذي أملى الفردوس المفقود على ابنتيه وامرأته. إن العالم الذي كان يتأمله فونيس، هذا العالم الحي في ذاكرته، حيث لا شيء يُنسى، حيث كل شيء حاضرٌ أبدًا، لا يختلف كثيرًا عن عالم بورخيس. حتى اللغات التي كان يُتقنها فونيس، كانت هي نفسها التي كان يُتقنها بورخيس. وأقاصيصه خير مثل. فهي تزخر بكل أنواع المعرفة والمراجع. وما ساعده أكثر على ذلك، هو توليه في فترة أمانة المكتبة العامة في بوينوس آيرس فكانت طعامًا سائغًا لذاكرته النهمة. ويبقى سؤال: هل مات فونيس من الأرق، أم من ثقل العالم، هذا الثقل الذي لا يقوى على تحمّله سوى إله، أم من سبب آخر. ونأتي الآن إلى أريوستو والعرب. لنعلّم أولاً أن قصائد بورخيس هي امتداد لأقاصيصه. الفرق في الوزن والقافية. فبورخيس قبل كل شيء هو رجل أدب. وأدبه وُلد من الأدب عينه مثل غصن زاهٍ وشاذ. وهو تحديد يكاد يختصر كل تحديد أو تأويل. وعليه، نرى أن أريوستو والعرب بُنيت على ملحمة أورلاندو - أو رولون - الساخط Orlando Furioso لأريوستو. وهذا الأخير بنى ملحمته أيضًا على ملحمة أورلاندو العاشق لمواطنه ماتيو ماريا بواردو (1441-1494). كما بنى ملحمته هذا الأخير أيضًا على أنشودة رولان La chanson de Roland الملحمة الشعرية الوطنية الفرنسية في القرن الثاني عشر. ويُعدّ لودوفيكو أريوستو (1474-1533) من كبار شعراء ايطاليا الذين برعوا في نظم الملاحم والمقطوعات الغنائية. قضى شبابه في بلاط "فيرّارا"، ثم في خدمة كاردينال "إشت"، ودوف "فيرّارا". نظم أولى ملاحمه أورلاندو الساخط عام 1532 ليمجّد أسرة "إست" مقلّدًا فيرجيليوس. تبدأ ملحمة أريوستو بتنازع فارسين من أقوى وأشجع فرسان شارلمان، على اجتذاب قلب أنجليكا ابنة امبراطور "كاتاي". وكان جاء بها أورلاندو الى فرنسا، على أمل أن يستميلها إليه. لكن فارسًا آخر نسيبًا له، في معسكر شارلمان، هو "رينو دو مونتوبون" أُغرم بها أيضًا. ومضى ينافسه على التقرّب منها. في هذه الأثناء، كان شارلمان يستعد لشن حرب ضد العرب. فأوكل أنجليكا التي كانت في رعايته، إلى دوق "بافيير". لكن الأميرة تمكّنت من الفرار، فوقعت أسيرة في أيدي القراصنة الذين أطلقوها في إحدى الجزر طعامًا للدّلافين. فلمحها الفارس "روجيه" على ظهر الهيبّوغريف (وهو حيوان خرافي مجنّح)، فهبّ لنجدتها. وفي الوقت الذي كادت أنجليكا تكلف بهذا الفارس المنقذ، حصلت منه على الخاتم السحري الذي يجعل المرء غير مرئي - وكان سلّمها إياه على غفلة منه. فأغرتها نفسها إذ ذاك بالعودة إلى وطنها. وفي طريقها صادفت في ضواحي باريس الفارس العربي ميدورو، وهو يتألم من جراحه، فعُنيت به. وكان حبها الكبير. أما أورلاندو الذي كان يبحث عن أنجليكا بعد فرارها، فقد انتهى إلى الغابة التي لجأ إليها العاشقان. وشاهد اسميهما متشابكين على أغصان الأشجار والصخور. فجُنّ جنونه وانطلق عاريًا والغضب يتآكله، وراح يدمّر الحقول. هذا في أسطورة الملحمة. أما في الحقيقة، فأورلاندو كان ضابطًا في جيش شارلمان الذي توجّه لغزو اسبانيا سنة 778، وقُتل في معركة وقعت عند ممر "رونسيفالس" أو "رونسيفو". وهي بلدة في وادٍ مشجّر من جبال "البرينييه". قتله "الفاسكون" (الباسك) سكان تلك المنطقة بعد دحرهم جيش شارلمان وتقطيع أوصاله. لكن الأسطورة تنقل المعركة إلى أرض أخرى، وتجعل الأعداء هم العرب، وتبالغ في الأحداث وفي شجاعة البطل أورلاندو. أورد ذلك تمهيدًا لاستيعاب هذه القصة التي تحفل بالأسماء والأحداث المأخوذة من الملحمة. هـ. ف. ص. * * * أتذكّره (لا يحق لي أن أتلفظ بهذه الكلمة المقدسة؛ فقط شخص واحد على الأرض له الحق بذلك، وهذا الشخص قد مات) وفي يده زهرة الآلام الداكنة، يُحدّق إليها كما لم يفعل أحد، حتى ولو حدّق إليها من غسق النهار إلى غسق الليل، مدى الحياة كلها. أتذكّره بوجهه المقطّب، وجه الهندي، "المبتعد" بغرابة خلف سيكارته. أتذكّر (أخال) يديه النحيلتين كيدَي عامل جدل. أتذكر، على مقربة منه، إناء "الماتيه" المزخرف بشعار جمهورية الاوروغواي الشرقية؛ أتذكر حصيرة صفراء اللون على شرفة المنزل، ومشهد بحيرة باهت. أتذكر بوضوح صوته، الهادئ، الحاد، والأخنّ لريفي قديم، بدون الصفير الإيطالي للحروف كما في أيامنا. لم أره أكثر من ثلاث مرات؛ والأخيرة كانت في 1887. ويبدو لي مشروعًا ناجحًا جدًا، أن يكتب عنه شيئًا ما كل من عرفه؛ وستكون شهادتي ربما الأوجز، وبلا شك الأضعف، ولكن ليس الأقل تجردًا، في المجلد الذي سوف يصدر. وإن وضعي البائس كأرجنتيني، سيحرمني من الانزلاق إلى المديح - وهو نهج إلزامي في الأوروغواي، حين يتعلق الأمر بأحد أبنائها. "يا له من أديب، جُرَذ مدينة، ابن بوينوس آيرس": ألفاظ مهينة لم يتفوّه بها فونيس، لكني أعرف تمامًا أني كنت أمثّل في نظره هذه الآفات. كتب مرة بدرو لياندرو إيبوتشي (كاتب أرجنتيني) أن فونيس كان سابقًا للإنسان المتفوّق؛ كان "زارادشت همجيًا وبدائيًا"؛ ولا جدال في ذلك، إنما يجب ألاّ ننسى أيضًا أنه كان ريفيًا من بلدة "فراي بنتوس"، تحدّه بعض الصفات التي لا شفاء منها. الذكرى الأولى في مخيلتي لفونيس جدّ واضحة. أراه في مساء يوم من آذار أو شباط عام 1884. في ذلك العام، جاء بي والدي إلى "فراي بنتوس" لتمضية الصيف. وفي أحد الأيام كنت عائدًا من مزرعة سان فرنسيسكو برفقة ابن عمي برناردو آيدو، على ظهر جوادينا، ونحن نُنشد الأغاني. لكن تلك النزهة لم تكن السبب الوحيد لسعادتي. فبعد يوم قائظ، حجبت السماء عاصفة هائلة أردوازية اللون، كانت ريح الجنوب تزيد من هياجها، وجُنّت الأشجار، فتملّكني الخوف (مع الأمل) من أن يفاجئنا المطر في أرض مكشوفة. وأخذنا نُسرع كأننا في سباق مع العاصفة. ودخلنا إلى شارع ضيّق يتوغل بين طَوارين عاليين من الآجُرّ. وفجأة أظلمت السماء؛ وبلغ سمعي وقع خُطىً مسرعة، وشبه خفية فوق رأسي؛ فرفعتُ نظري، وأبصرتُ فتىً كان يعدو على الطوار الضيق والمتصدّع، كأنه يعدو على جدار ضيق ومتصدّع. أتذكر بنطلونه الفضفاض، وحذاءه القماشي؛ أتذكر السيكارة في الوجه الجامد، منتصبة قُبالة السحابة الضخمة التي لا تُحدّ. وعلى نحو فجائي صرخ له برناردو: "كم الساعة يا إيرينيو؟" وبدون أن يستطلع السماء، وبدون أن يتوقف، أجاب: "الساعة الثامنة إلاّ أربع دقائق، يا سيد برناردو خوان فرنسيسكو". وكان صوته حادًا وساخرًا. وبما أن من طبعي الشرود، لم أُعر الحوار الذي سردته الآن أي اهتمام، لو لم يردّده ابن عمي، وقد أثاره (أظن) نوع من الزهو المحلي، والرغبة في التظاهر بعدم اكتراثه لذكر اسمه الثلاثي. قال لي إن الفتى الذي عبر الطوار فوقنا، يُدعى إيرينيو فونيس، وهو مشهور ببعض الأطوار الغريبة. فهو مثلاً، لا يعاشر أحدًا، ويستطيع أن يحدّد الوقت دائمًا مثل الساعة. وأضاف ابن عمّي، أن إيرينيو هو ابن كوّاءة البلدة ماريا كليمونتينا فونيس، وأن أباه مهاجر إنكليزي يُدعى اوكونور، بحسب قول البعض، وكان طبيبًا في مصنع للحوم المقددة، بينما زعم آخرون، أنه كان مروّض خيل أو كشافًا من مقاطعة "سالتو". أما ايرينيو فكان يقيم مع والدته، عند أطراف ملكية "آل لورييه". في 85 و86 أمضينا الصيف في مونتيفيديو. في 87 عدت إلى "فراي بنتوس". ومن الطبيعي أن استعلم عن أحوال كل معارفي. وأخيرًا عن الكرونومتري فونيس، فأخبرت بأن جوادًا غير مروض طرحه أرضًا في مزرعة سان فرنسيسكو، وأنه بات مقعدًا بلا أمل. أتذكر ما أثاره فيّ هذا الخبر من انفعال سحري مزعج. في المرة الوحيدة التي أتاحت لي رؤيته، كنت عائدًا وابن عمي من هذه المزرعة، ونحن نمتطي جوادينا، وكان هو يمشي على مكان مرتفع، فاتخذت هذه الحادثة، كما رواها لي ابن العم برناردو، شكل حلم ساعدت على صوغه عناصر من الماضي. أٌخبرت بأنه لا يغادر فراشه أبدًا، ويظل شاخص البصر إلى شجرة التين في آخر الفناء أو إلى بيت العنكبوت. في الغسق، كان يسمح بأن يدنى من النافذة. كان ينفخه الكبر إلى حد التظاهر بأن الضربة التي صعقته كانت مفيدة له. رأيته مرتين خلف شعرية النافذة التي كانت تعزز صورته أسيرًا أزليًا: في المرة الأولى، كان هادئًا مغمض العينين، وفي الثانية، كان هادئًا أيضًا، ومستغرقًا في تأمل غصن دقيق عطر من السانتونين. في ذلك الحين، كنت بدأت دراسة اللاتينية دراسة منهجية، تخلو من التباهي. وكانت حقيبتي تحوي De Virus Illustribus لـ"لومون" (فقيه لغوي فرنسي) وthesaurus لـ"كيشيرات" (فيلسوف فرنسي)، ومذكرات يوليوس قيصر ومجلدًا ناقصًا من التاريخ الطبيعي لـ"بلينيوس" (عالم بالطبيعيات روماني)، كان يتجاوز (ولا يزال) معلوماتي اللاتينية المتواضعة. ولكن في بلدة صغيرة، لا شيء يبقى سرًا. فما إن علم ايرينيو، في مزرعته الصغيرة في الضواحي، بوصول هذه الكتب النادرة، حتى بعث إلي برسالة مزخرفة تفرط في المجاملة. وذكّرني فيها بلقائنا العارض للأسف، "في السابع من شباط عام أربعة وثمانين". وممتدحًا الخدمات الجلى التي "أسداها عمي "دون غريغوريو آيدو" المتوفي في ذلك العام نفسه، إلى وطنينا كليهما في معركة "ايتوثا ينغو" المجيدة، ثم طلب مني أن أعيره أحد تلك الكتب مصحوبًا بقاموس "كي استوعب جيدًا النص الأصلي، لأني ما زلت أجهل اللاتينية". ووعد بإعادتهما في حالة جيدة، في وقت قريب. كان خطه رائعًا، جد رفيع، وكان رسم الحروف بحسب ما أوحى "اندريه بللو": ابدال حرف "i" بحرف "Y" وحرف "j" بحرف "G" في البداية، ظننت طبعًا أن ثمة دعابة. لكن أبناء عمي أكدوا لي عكس ذلك، لكونه من أساليب ايرينيو الغريبة. ولم أعرف هل يجب أن أعزو إلى التبجح، أم إلى الجهل، أم إلى الحماقة، فكرة أن اللاتينية الصعبة لا تستلزم سوى القاموس؟ ولكي أُخيب أمله أرسلت إليه مؤلف كيشيرات Gradus ad Parnassum ومجلد بلينيوس. في الرابع عشر من شباط تلقيت برقية من بوينوس آيرس تدعوني إلى العودة سريعًا، لأن والدي في وضع صحي سيئ. ربي عفوك، فتأثير أن أكون المتلقي لبرقية عاجلة، والرغبة في اطلاع فراي بنتوس بأكملها، على التناقض بين الشكل السلبي للنبأ وبين الظرف الحاسم، والإغراء بإضفاء درامية على حزني، في التظاهر برواقية ذكورية، كل ذلك ربما صرفني عن أي احتمال للحزن. وعند اعداد حقيبتي للعودة، لاحظت فقدان الـGradus والمجلد الأول من التاريخ الطبيعي. وكانت الباخرة "ساتورنو" ستبحر في اليوم التالي، صباحًا. في تلك الليلة، بعد العشاء، قصدت منزل فونيس. وأدهشني أن يكون الليل ليس أخف وطأة من النهار. وفي المزرعة المتواضعة، استقبلتني والدة فونيس. قالت لي أن ايرينيو في الحجرة الداخلية، وألا أفاجأ إن وجدتها مظلمة، لأن ايرينيو عادة يمضي ساعات طويلة بدون أن يُشعل شمعة. واجتزتُ الفناء المبلط، والممشى الصغير، حتى وصلت إلى الفناء الثاني. كانت ثمة كرمة. وبدت لي الظلمة مطبقة. وفجأة سمعت صوت ايرينيو العالي والساخر. ذلك الصوت كان ينطق باللاتينية، ذلك الصوت (الآتي من الظلمات) كان يقرأ في لذة واضحة، خطبة أو صلاة، أو رقية. كانت مقاطع الألفاظ الرومانية تصدي في أنحاء الفناء الترابي، وقد خالها رعبي مستغلقة ولا نهائية، ومن ثم، في الحوار العظيم تلك الليلة، عرفت أنها كانت تشكّل المقطع الأول من الفصل الرابع والعشرين من المجلد السابع لـالتاريخ الطبيعي، وموضوع هذا الفصل: الذاكرة، وكلماته الأخيرة: ut nihil non usdem verbis redderetur auditum[1]. وبدون أدنى تبدل في صوته، دعاني إلى الدخول. كان يدخن في فراشه. وأحسب أنني لم أتبين وجهه حتى الفجر، وأحسب أيضًا أنني أتذكر توهج سيكارته الخاطف، ورائحة الرطوبة التي كانت تفوح من الحجرة بشكل مبهم. فجلست، وأخذت أسرد قصة البرقية ومرض أبي. وأصل الآن إلى النقطة الأصعب في حكايتي. حيث أنها (من الأفضل أن يعرف القارىء ذلك مسبقًا) لا موضوع لها سوى هذا الحوار الذي مضى عليه نحو نصف قرن. لن أحاول أن أنقل كلمات إيرينيو فاستعادتها الآن تتعذر عليّ. أفضل أن أوجز في صدق الكثير من الأمور التي أخبرني بها. إن الأسلوب غير المباشر بعيد وضعيف، وأنا أدرك أنني أضحي بفعالية حكايتي، وأدرك أيضًا أن قرائي يتخيلون الفترات المتقطعة التي أرهقتني تلك الليلة. بدأ إيرينيو في اللاتينية والاسبانية بسرد حالات الذاكرة المذهلة الواردة في التاريخ الطبيعي: قورش، ملك الفرس، الذي كان يستطيع أن ينادي كل جندي من جيوشه باسمه، ميتريداتس الفرثي، الملقب بالملك الأكبر، الذي كان يقيم العدالة في امبراطوريته باثنتين وعشرين لغة، سيمونيدس، مبتكر تقنية تقوية الذاكرة، ومترودوروس الذي كان يمارس فن تكرار ما يسمعه مرة واحدة بدقة. وكان ايرينيو، وبصدق واضح، يتعجب من اعتبار تلك الحالات مثارًا للتعجب. قال لي، إنه قبل ذلك المساء الماطر الذي ألقاه فيه جواد أبقع عن ظهره، كان كمثل سائر المسيحيين: أعمى، أصم، طائشًا، ونسّاء (حاولت أن أذكّره بمعرفته الدقيقة بالوقت، وبحفظه أسماء العلم، لكنه لم يُصغ إلي). قال إنه عاش طوال تسعة عشر عامًا كأنه في حلم. كان ينظر فلا يرى شيئًا، كان يصغي فلا يسمع، وكان ينسى كل شيء، تقريبًا كل شيء. وعند سقوطه عن الجواد، فقد وعيه وحين أفاق كان الحاضر، وحتى أقدم الذكريات وأتفهها، فوق طاقته تقريبًا على الاحتمال، من فرط غناها وصفائها. بعد وقت قصير، أدرك أنه مقعد. ولم يكترث كثيرًا لهذا الوضع. واعتبر (أو أحس) أن عدم الحركة كان ثمنًا بخسًا. فإدراكه الحسي وذاكرته الآن معصومان عن الخطأ. نحن يمكننا، بنظرة واحدة، أن نرى ثلاثة أقداح على طاولة، أما فونيس فكان يرى كل الفسائل، والعناقيد والثمار التي تحتويها كرمة. كان يتصور أشكال الغيوم الجنوبية، في فجر الثلاثين من نيسان عام ألف وثمانمئة واثنين وثمانين، وكان يستطيع أن يقارنها في ذاكرته بعروق ورق اسباني في كتاب نظره ولو مرة واحدة، وبخطوط الزبد التي خلفها مجذاف في "النهر الأسود" عشية معركة "كبراتشو". تلك الذكريات لم تكن بسيطة، كل صورة مرئية كانت ترتبط بأحاسيس عضلية، حرارية الخ. كان في إمكانه أن يُعيد تشكيل كل أحلامه، بما فيها أحلامه التهويمية. فقد استعاد مرتين أو ثلاثًا مسار يوم كامل، وبدون أي تردد. ولكن كل مرة كانت تتطلب يومًا كاملاً. قال لي: "لدي وحدي من الذكريات أكثر مما لدى البشر كافة، منذ أن صار العالم عالمًا". وقال أيضًا: "إن أحلامي هي أشبه بيقظتكم". وأيضًا قال، عند الفجر: "إن ذاكرتي، يا سيدي، كمستوعب قمامة". وإذا كان في وسعنا أن نحدس كليًا، أشكال دائرة على سبورة، ومثلث قائم الزاوية ومعيّن، فإنه كان في وسع ايريتيو أن يحدس السبائب المشعثة في عرف مهر، ورؤوس ماشية على حد سكين، ونارًا متغيرة باستمرار، ورمادًا لا حصر له، والوجوه المتعددة لميت في ليل عزاء طويل، ولا أعلم كم نجمة كان يرى في السماء. تلك هي الأشياء التي أخبرني بها ايرينيو. ولم يخامرني الشك فيها لا يومذاك ولا بعده. ويومذاك لم يكن ثمة وجود لا للسينما ولا للفونوغراف، ومع ذلك، فلا يستبعد ولا يصدّق حتى، ألا يكون أحد اختبر طاقة فونيس. والحقيقة أننا اعتدنا جميعًا أن نُرجىء إلى الغد كل ما نستطيع ارجاءه، ربما لأننا ندرك في أعماقنا أننا خالدون، وأن كل إنسان عاجلاً أو آجلاً، يقوم بكل الأعمال، وسيعلم كل شيء. وتابع صوت فونيس كلامه من قلب الظلمة. قال لي إنه في 1886 تصور نظامًا جديدًا للعد. وفي بضعة أيام تعدى رقم الأربعة والعشرين ألفًا. لم يدون ذلك، لأن ما كان يفكر فيه مرة واحدة، لا يمكن أن يمحي من ذاكرته. وأظن أن حافزه الأول على هذا العمل استياؤه من أن عبارة "الثلاثة والثلاثين شرقيًا"[2]، كانت تستلزم رمزين وثلاث كلمات، بدلاً من كلمة واحدة ورمز واحد. وفي ما بعد طبّق هذا المبدأ الغريب على أرقام أخرى، فبدلاً من "سبعة آلاف وثلاثة عشر" كان يقول (مثلا) "مكسيم بيريث"، وبدلاً من "سبعة آلاف وأربعة عشر"، كان يقول "السكة الحديدية". وكانت ثمة أرقام اخرى: "لويس ميليان لافينور"، "اوليمار"، "كبريت"، "العصي"، "الحوت"، "الغاز"، "القِدر"، "نابوليون"، "اوغسطين دو بيديا". وبدلاً من "خمسمئة" كان يقول "تسعة". كل كلمة كان لها رمز خاص، ضرب من الدمغ، وجاءت الكلمات الأخيرة شديدة التعقيد. حاولت أن أشرح له أن تلك الرابسوديا من الكلمات غير المترابطة، كانت مناقضة تمامًا لأي نظام عددي. قلت له إن قولنا "ثلاثمئة وخمسة وستين" يعني ثلاث مئات، وست عشرات، وخمسة آحاد، ليس سوى تحليل لا وجود له في "الأرقام": "الزنجي تيموتاوس"، أو "غطاء من لحم"[3]. غير أن فونيس لم يستمع إليّ أو لم يشأ أن يستمع. في السابع عشر افترض جون لوك (ودحض) لغة مستحيلة يكون لكل شيء فيها بمفرده، لكل حجر، لكل طائر، وكل غصن، اسم خاص، فونيس فكر مرة في لغة مماثلة لكنه عاد فنبذها، إذ بدت له مفرطة في شمولها والتباسها. والواقع أن فونيس لم يكن يتذكر فقط كل ورقة في كل شجرة في كل غابة، بل كل مرة من المرات التي رآها فيها أو تخيلها. قرر في حين، أن يختصر كلاً من أيامه الماضية إلى سبعين ألف ذكرى، يحددها في ما بعد بالأرقام. وثناه عن ذلك اعتباران: إدراكه أنها مهمة لانهائية، وأنها غير مجدية. لقد تصور أنه إلى ساعة موته، لا يكون انتهى من تصنيف ذكريات الطفولة. إن المشروعين اللذين أشرت إليهما (معجم لانهائي لسلسلة الأرقام الطبيعية، وفهرس ذهني عديم الجدوى لكل صور الذاكرة)، هما مشروعان جنونيان، لكنهما يكشفان عن عظمة متلعثمة، ويسمحان لنا بأن نستشف أو نستنتج عالم فونيس الدواري. وهذا الأخير، لنتذكر، كان عاجزًا عن الأفكار العامة والأفلاطونية. لم يكن من الصعب عليه فقط أن يدرك أن الرمز العام "كلب" يشمل مجموعة أفراد مختلفة الأشكال والأحجام، بل كان يضايقه أن يكون كلب الساعة الثالثة وأربع عشرة دقيقة (في رؤية جانبية) يحمل الاسم نفسه لكلب الثالثة وأربع دقائق (مرئيًا من الأمام). وكان انعكاس وجهه بالذات في المرآة، ويديه بالذات، يدهشه في كل مرة. ويروي جوناثان سويفت أن امبراطور "ليليبوت" كان يستشف حركة عقرب الدقائق، كذلك كان فونيس يستشف دائمًا التطور البطيء للتحلل، وتسوس الأسنان، والتعب. كان يلاحظ تقدم الموت، والرطوبة كان المشاهد الوحيد والبصير لعالم متعدد الأشكال، آني، ودقيق على نحو يكاد لا يطاق. لقد أرهقت بابل، ولندن، ونيويورك، وبسطوع شرس، خيال البشر، ولكن لا أحد في أبراجها المكتظة، في طرقها المسرعة، أحس بحرارة ووطأة واقع لا يعرف الكلل، كالذي يخيم ليل نهار على التعيس ايرينيو في ضاحيته الفقيرة في جنوب اميركا. كان يشق عليه كثيرًا أن يخلد إلى النوم. النوم شرود عن العالم، وفونيس، حين يتمدد على فراشه، في العتمة، كان يتخيل كل شق، وكل حلية معمارية في مجمل الأبنية المحيطة به. (وأكرر إن أقل ذكرياته أهمية، كان أكثر دقة وحياة من احساسنا بمتعة جسدية أو عذاب جسدي). ومن ناحية الشرق، في بقعة لم تُفرز بعد، كانت ثمة أبنية جديدة، غير معروفة. كان فونيس يتخيلها سوداء، متراصة، شيدت من ظلمة متجانسة، إلى هذه الناحية كان يدير وجهه لينام. وكان من عادته أيضًا أن يتخيل نفسه في قاع النهر، يرجحه التيار ويطويه. لقد أتقن فونيس، وبدون أي جهد، الانكليزية والفرنسية والبرتغالية، واللاتينية. إلا أنني أشك في قدرته على التفكير. فالتفكير يعني تناسي التباينات، يعني التعميم، التجريد. بينما في عالم فونيس المزدحم ليس سوى التفاصيل، المباشرة تقريبًا. وتسلل ضوء الفجر المتردد من الفناء الترابي. وإذ ذاك أبصرت وجه الصوت الذي كان يتحدث طوال الليل. كان ايرينيو في التاسعة عشرة من العمر، ولد في 1868، بدا لي كنصب تذكاري من البرونز. أقدم من مصر، وسابقًا للنبوءات والأهرامات. وخلت أن كلا من كلماتي (وكلا من حركاتي) ستبقى حية في ذاكرته التي لا ترحم، وما كان يربكني هو خوفي من الافراط في الحركات غير المجدية. توفي ايرينيو فونيسي في 1889، من احتقان رئوي. من مجموعة: Ficciones, Emecé editores, BA التقديم والترجمة: هنري فريد صعب *** *** *** عن ملحق النهار الثقافي. الثلاثاء، 2 حزيران (يونيو)، 2009. [1] إذا لم تكن الكلمات ملائمة للمستمع فسترتد إلى قائلها. [2] تعني هذه العبارة فريقًا من ثلاثة وثلاثين مواطنًا من جمهورية الاوروغواي الشرقية، أبحر إلى "لاأغراسيادا"، بهدف إطلاق الحملة الأخيرة التي ستؤدي إلى استقلال الأوروغواي. [3] عبارة سمعها المؤلف في الأوروغواي، في مسالخ "سالتو الشرقية".
|
|
|