|
استحالة المستحيلات
كم هو محزن إحالة "المستحيل" للمطلق، بالكيفية التي نتناول تراثًا أسطوريًا وبشكل مأساوي، وقد باتت المستحيلات الثلاث مقدسة في أبجديات يومياتنا، منذ قرون نتناولها كمسلّمات وبديهيات وركائز حكم وأمثولة حياة... وبتنا وعبر أعلى جاهزية عند أول لحظات الإخفاق لطبيعة فقدت روح المبادرة وشغفها كما فقدت مكانتها العلمية والإنتاجية بين الحضارات، فباتت اللحظات المتتالية ترديد لمعزوفة المستحيل وربما تدخل لوحة تزين جدار المؤامرة، دونما إعادة قراءة لأبعادها التعبوية في تكريس مفاهيم اللاطموح، اللافهم، اللاتحليل، واللانقد!! ولنا أن نتساءل: أحقًا دخلنا طور غيرِ المتحول الذي أبدًا لايمتلك حرية التغير!؟ * * * يجرحني ما صاغه الشاعر الحلي صفي الدين (ت750هـ - 1349م) حيث قال:
لما
رأيت بني الزمان وما بهم خـل وفي للشدائد اصطفي فعلمت أن المستحيل ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي... فأصابني الجزع لنفي الإحالة والتحقق ومشروعية الحلم، بل الركون الى استيلاد المئات والبلاييين عبر أماسينا ونهاراتنا المزحومة بلانهائيات من المستحيلات والممنوعات والمحرمات... * * * الكلمات عندما تخرج من بئرنا العميق تعبر ذبذبات فتشكل طاقات جمع وترتيب، وفيها من الجاذبية المدهشة ما يفوق الاستيعاب، كما الأوركسترا بوصفها لوحة صانع وفاعل ومحرك ومحرض، فتبدو الكلمات كأنها لعبة موسيقى، تتسارع حينًا، وتبطئ حينًا آخر، في عشبة جلجامش تتآوه من متعة آلام المهمة. ولكن بمجرد أن تبدأ، سرعان ما أن تنتهي كل الأزمنة في: الآن، عبر كشف الأزل بي أي: أنا وأنت... عبر حقيقة هذا الوجود. فعلى هذا الكوكب هناك الكثير من المعلومات كما هنالك الكثير من التضليل والأوهام وطاقات التحطيم، وقد بتنا مكبلين للأموات، ووقعنا تحت تأثير استحواذهم وكل هذا الهوس الذي يشيعونه في دواخلنا السحيقة وفي أذهاننا! * * * إن إحالة وعينا للإستحالة يضعنا أمام مسؤوليات كبرى تجاه من باتوا في شيفراتنا الوراثية أو تجاه من سننجبهم، وكل شيء بحساب دقيق، ويظل موئلاً للكلمات والموجات والأفكار... فالذبذبات ترفعنا حتى وإن عاند غالبيتنا واستكان دفيء وكسل الإستحالة في كثافة هبوط الصُرر المرقوعة. ولكن إن اتبعنا الحدوس المتصاعدة في طبيعتنا الإنسانية، عبر مونولوجها التطوري وجدلها العقلي مقابل ما نرثه ونصغيه وفيما استمد مسلماته عبر تاريخانيته، قد يسمح لنا بالتطور والنمو... فما من إستحالة أبدًا للخلّ الوفي مثلاً، لو كان الواحد فينا يمتلك جاهزية وانفتاحًا بذاته كي يكون هو بذاته خلاً وفيًّا لذاته أولاً وللذات الأخرى أيًّا كانت هذه الأخرى، خارج مفهوم فواتير ومنطق "المقابل" و"الثمن" المدفوع لقيم العطاء. المؤلم أن استحالة الخلّ الوفيّ باتت الذريعة، وقد امتلأت "الصرة التاريخانيّة" بكلام قد شتت يوميات حاضرنا - الآن - من مبادرات نقيّة كحبة مطر بلورية... ملغية موسقة السلوك وسمو المشاعر رفعة المحبة غير المشروطة، محيلة كل لفتة ولمسة وعطاء إلى سلسلة متطلبات واشتراطات وأثمان، فيمضي زمننا محمولاً بخبرات عدمية كعاهرة تبيع ما ليس لها بثمن، أي انكشاف المادة في لحظات روحنتها الاستثنائية، محيلة إياها إلى نداءات صماء عمياء بكماء!! * * * وكما الخلّ الوفيّ استحال بالمطلق التراثي، حتى باتت فرديتنا تضنّ على حالها، كمحاولة محمولة بالتحدّ لمحاصرة "المستحيلات" وإطلاقها من وكرها المعتم. وفي حقنا الطبيعي بالذكاء والإكتشاف والتنقيب وممارسة الروح النقدية، فإن دخول "الغيلان" منطق المستحيل وقد باتت أيضًا محاصرة لفظيًا نصيًّا في دائرة مغلقة من التفسيرات الضيقة، كما نلحظ في العديد من المراجع التراثية، فإن ما يثير الدهشة أن ما ترمز إليه هذه الغيلان موجودة متغلغلة في مظاهر مثل جهلنا وحماقاتنا، وتعبرنا هذه الغيلان كي تندس شراييننا، وتلهو طولاً وعرضًا عبر شبكة أعصابنا، تتغول قبائل ومذاهب ومدارس ومؤسسات وأفكار وسلوكيات يومًا بعد يوم وقد أوقعتنا في الكوارث والمصائب عصورًا وقرون. * * * أما الحكايات الجميلة للطيور المدهشة التي تخرج من بين الأحزان والنسيان واليأس فإنها تسكن في الصرّة المرقّعة وهي مستحيل ثالث ولا تعني كمفردة لغوية عربيًا سوى "الهضبة" تبدو في يومياتنا كوابيس تطبق أنفاس أحلامنا لتلك "الشعثاء" التي تسرق طفولتنا، فنولد عواجيز، وقد هرمنا نطفًا في أرحام أمهاتنا... فيصرخ همسي: أيا رحم الكون، أيا أمي الارض. أيقظي العنقاء من جوفكِ ومن خلايانا... فما مستقبل العالم برمته إلا لهبًا غافيًا بين أيدينا... والمستقبل ليس إلا انتباهة اللحظة، أي الآن... ...... كم أشتهي عناقًا عميقًا وممحاة برائحة الماندلينا... ففي الغرابة تنشغل خلية في قلبي لاستنشاق أوكسجين بأعلى إدراك.. ممحاة كي يتنفس أفقي وضوحًا، ويجرؤ على العناق بكل جاذبية مجموعتنا الشمسية ودرب التبانة أيضًا... مد وجزر كي يطبق على صمت العقيق، وقد عبرني ضوء، فارتخت الكراهية في القفص الصدري... فكم أحمل معي الكثير من الألم، إنما بلا ضغينة... أعترف بنقرات "الكي بورد"، فما الجمل القصيرة إلاّ جراحات مفتوحة، تسترد أنفاسها وتخيط نسيجها بملح مكتنز باليود... ثمة وقت يتدفق حريرًا وكتان، ويعسوبات شفيفة تعوم فوق رذاذ ماءك العذب، عناق بين القبول والرفض وأرجوحة حكاوي، داخل صرّة كم أشتهي تمزيقها، كي تفوح رائحةُ الماندلينا من ممحاتي وتمسح من عين الشمس كل هذا الرماد... كي نتعانق بكل حريرية... لا توجد مخاوف ولا كوابيس في الخلايا التي تضخ الطاقة الحرة ولا في العناقات ولا حتى رائحة المستحيلات... ياللحلم بقلب معادلات المستحيل، والكائن فينا رهين ملايين المحابس يتأبط ذراع أبي العلاء المعري وكثير من رفقاءه ورفقائنا المكلومين على قارعة رصيف العري، ينتظرون مبادرة خلّ وفيّ، بمحبة غير مدفوعة الثمن... قادرون نحن على الخبرة الحزينة والولادة من فم مفتوح مزحوم بأقسى بكاء وبكل التفاصيل المورفولوجية والبنيوية والسيمائية... فإن التحول من... و... إلى، تحور مؤلم عبر جزيئات مفككة تفتقد الجاذبية... تحولات لربما سارة إلى حد ما ربما تصير فكرة برمائية تسبح عبر المحيطات أو تعبرنا تلك المحيطات، كي تبتسم قارة ترغب بالإنسحاب التدريجي كي تنام في حضن النار في جوف كوكب يتخلّق كي نولد من جديد، ولكن! هذه المرة من نسل هابيل! أما مواجهة وجهنا المظلم، فإن ذلك مؤلم - وليس بمستحيل - نظرًا لأن المخاوف جحيمية، والتحول برده قارس فمتى... يحين آوان رسم "الخلّ الوفي" دونما نهم العائدات وقائمة الاشتراطات، والشبهات... كالحكايات المموسقة تُفتحُ بكلمة وتُختتمُ بكلمة... كطيور الحسون، تمتطي زوايا أعينها كي يصير صوتها أنقى وأحلى من السكر... فالطبيعة الإنسانية كما يقول ستيوارت مل ليست آلة لتقوم بالأعمال كما تبرمج أذهانها بدقة وعبر هذه الصُرر المحمولة المملوءة بالغبار، ودونما خيارات إعادة نقد واعتبار لمعنى الجوهر من بين كل هذا الرماد والغبار والتراب، إنما جوهر الإنسان جديلة معقدة أقرب ما تكون للشجرة التي تنمو وتتطور من عدة نواح بالاعتماد على تطور طاقتها الكامنة - الروحية الداخلية- والتي تحمل بذرة حياتها وتأوهات عشقها اللذيذة وسط ما نعتقده بحيرة صمت وما هي بالخرس... فاعذب رسائل الهوى والغرام تلك التي تحملها نحلة مغناج ورياح تهب من كل الجهات فتصير حليب البرية وطقسًا للإنتباهة... الدوائر في العالم في ازدياد، وفكرة الأبدية والتقاويم تنصب الرموز، كما يخرج التحقق من بحيرة اليأس كما الولادة ولهب يتزاحم في الكهوف وفي أحشاء أمنا الأرض شوق لهذه الهياكل... أتَرى ترتفعُ العنقاءُ مِنْ نيرانِ الخسارةِ والخيانة والخرس وفراغِ الإمكانياتِ... أترتفع من بين جنائزها ميتة وحيّة عبر آلامها، لابثة في مكانها، بغية اليقظة من المستحيل؟ خارج رمادِ يأسِنا وجنائزنا وحرائقنا، أتجيءُ أحلامنا بولادات جديدة من نسل هابيل!؟ هكذا، المُسْتَهْلكُة بالنيران، فقط لِكي تَكُونَ متجددةَ ثانية، مَمرّات التحويلِ والتمثيل للأعماق التي ترتعش خوفًا حزنًا... إنّ مرحلةَ التحويلَ مذهلة للكينونة الأسطورية هاهنا... فهي تدخل الحريق بذاتها كقديسة ترتشف الحزن بالكامل تعيشه بكل كينونتها بين لهب الألم الشديد كي تموت، تتحول بشكل ممجد وبانتصار مِنْ الرمادِ ذاته للعَيْش ثانيةً... استثارة لأولئك الذين يَشْعرونَ أنهم قد استهلكوا كليَّاً بالرَدِّ العاطفيِ العميقِ إلى الحزنِ قبل العودة ثانية، بمعنى، أنْ يَكُونَ التجدد والتحول ومواجهة الغيلان بالتجربةِ الروحية العميقة... فأين ومتى سينتهي الماضي وأين ومتى سيبدأ الحاضر!؟ متى تخرج من بين شفاهنا وعيوننا ثمة تحولات وقابليّات تردم كل تلك المستحيلات من مسامعنا ومن أعماقنا السحيقة... *** *** *** [1] كاتبة وإعلامية.
|
|
|