|
الشيطــانُ رمـزٌ إلى حُـريَّـة الإنســان
لقاء مع فـراس السـوَّاح
يرى المفكر السوري فراس السواح أن الفلسفة تتلخص في كونها حكمة شخص بعينه، وهي نابعة برأيه من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري، في حين يرى أن الدين هو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونت على صياغتها مغامراتٌ فكريةٌ وخبراتٌ روحيةٌ كابدَها عددٌ كبيرٌ من الأفراد والأجيال المتتابعة.
ويعتبر السواح أن ظاهرة الأديان، التي أسَّس لها أفرادٌ مميزون وطبعوها بطابعهم، هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ "دين الإنسان"، لا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألف الأول ق م، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند، مشيرًا إلى أن الأديان كلَّها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة". ح.س. * * *
حسن سلمان: شهدتْ مسيرتُك الفكرية منعطفَين أساسيين تنقَّلتَ خلالهما بين الفلسفة ودراسة الأسطورة وتاريخ الأديان، لتستقرَّ في النهاية على المحور الثاني. فما الذي دفعك في البداية إلى دراسة الفلسفة؟ ثم ما سبب لجوئك فيما بعد إلى دراسة الأسطورة والدين؟ فراس السواح: يولد الإنسان ومعه دافعٌ طبيعي إلى التساؤل. هذا الدافع يخبو لدى معظم الناس تحت ضغط الشروط المادية للحياة اليومية، بينما يبقى متأججًا لدى القلَّة. وأنا من هذه "القلة" التي بقيت أمينةً على التساؤل، حتى بعدما رأت أن الأسئلة الكبرى لا جواب عنها، وتحوَّل لديها السؤالُ إلى ما يشبه الجواب! ومَن يبقى "أمينًا على السؤال" يبحثْ حوله عن "المتسائلين" من أمثاله، لعلَّه يجد لديهم ما يُعينُه على حيرته العقلية والروحية. وهذا ما دفعني في سنوات الفتوة الأولى إلى دراسة الفلسفة، بعد أن تبيَّن لي أن الفيلسوف لا يُجيب عن أسئلة متفرقة منعزلة، وإنما على عدد من الأسئلة الأساسية التي تقود الإجابةُ عنها إلى تشكيل نظرة كلِّية إلى العالم والإنسان والحياة. على أني ما لبثت أن ضقت ذرعًا باختلاف الفلسفات وتعارُضها، وتبيَّن لي أن تاريخ الفلسفة قد ترك لنا من الفلسفات عددًا مساويًا لعدد مَن ظهر من الفلاسفة، وكل فلسفة تدَّعي لنفسها امتلاك الحقيقة وتهدم ما بنتْه الفلسفات السابقة، وكل فيلسوف يعمل على تفنيد مَن سبقوه ليقع بعد ذلك ضحيةً للتفنيد ممَّن يأتون بعده! وفي اختصار، فقد تركتْني دراسةُ الفلسفة في حيرة لا تقل عن حيرتي قبل دراستها، وتلاشى حلمي في فلسفة إنسانية متَّسقة، تعمل عقولُ البشر على بنائها في تعاوُن وتناغُم وتجاوُز مبدع، بحيث يكمل كلُّ جيل من حيث انتهى الجيلُ السابق – وهو حلم مُغرِق في الرومانسية على كلِّ حال! خيبة الأمل هذه دفعتْني في اتجاه دراسة تاريخ الأديان. ح.س.: في السياق ذاته، تقول في أحد الحوارات معك: "الفلسفة هي نتاج فكري لشخص بعينه، سواء كان ديكارت أم كانط أم هيغل أم ابن رشد؛ أما الدين فيمثل حكمة ثقافة بأكملها. فإذا أردنا فهم الإنسان علينا أن نفهم أدبياته الدينية قبل أدبياته الفلسفية." حبذا توضيحك هذه الفكرة. ف.س.: الدين والفلسفة صنوان من حيث إثارتُهما للأسئلة الأساسية وادعاؤهما تقديم أجوبة نهائية عنها. ولكن ما يميز الدينَ عن الفلسفة هو أن الفلسفة حكمة شخص بعينه، تحكم نظرتَه شروطٌ ذاتيةٌ خاصة، من تكوين نفسي فردي وتربية ومحيط اجتماعي ووسط فكري وما إلى ذلك. أما الدين فهو حكمة شعب وثقافة بكاملها، تعاونتْ على صياغتها مغامراتٌ فكريةٌ وخبراتٌ روحيةٌ كابدَها عددٌ كبير من الأفراد والأجيال المتتابعة. الدين، من حيث نشأتُه وأصلُه، لا ينطلق من أفكار شخص بعينه في زمان أو مكان محدد. فديانات العالم القديم – مصرية وسورية ورافدية ويونانية إلخ – لا "مؤسِّس" لها؛ وسؤالك لشخص ما من ذلك العصر عن "البدايات" الأولى لديانته، أو عن عهد "مؤسِّس" تلك الديانة، قد يبدو له بلا معنى، لأن ديانته موجودة منذ البدايات الأولى لظهور الإنسان. وينطبق هذا على العديد من الديانات القديمة التي مازالت حية إلى اليوم، مثل الهندوسية في الهند والشنتوية في اليابان. فالهندوسي اليوم، مهما أعمل تفكيرَه وتأمَّل في الماضي، لا يستطيع أن يحدِّد تاريخًا ما لظهور الهندوسية كديانة تامة التكوين أو أن يعزو تأسيسها إلى شخص بعينه. إن ظاهرة الأديان التي أسَّس لها أفرادٌ مميزون وطبعوها بطابعهم هي ظاهرة حديثة نسبيًّا في تاريخ دين الإنسان، ولا تعود بتاريخها إلى ما قبل أواسط الألف الأول قبل الميلاد، عندما ظهر زرادشت في فارس وبوذا في الهند. ومع ذلك، فإن بوذا أو زرادشت، لو بُعِثَ حيًّا بيننا اليوم، لَما استطاع التعرف إلى تعاليمه الأولى في الديانة المنسوبة إليه! فلقد تعاونت بعدهما عقولُ أتباعهما على إغناء الموروث القديم وتطويره والإضافة إليه. وتبدو حركيةُ الدين في شكل أوضح عندما ينتقل إلى خارج بيئته الأصلية التي وُلد فيها: فبوذية شري لنكا اليوم هي غير بوذية الصين، وهذه غيرها في كوريا أو اليابان. هذه الخاصية الحركية للدين تنسحب أيضًا على ما اصطُلِحَ على تسميته بـ"أديان الوحي" أو "الأديان السماوية". فكتاب التوراة يشف عن مستويات متراكِبة من الخبرة الدينية، بحيث نرى أن دين إبراهيم هو غير دين موسى، ودين عصر القضاة مختلف عن دين عصر الملوك؛ وهذا ينطبق على دين ما قبل السبي [البابلي] ودين ما بعده. وفي النهاية، نجد أن يهودية اليوم لا تقوم على أسُس توراتية بقدر قيامها على أسُس تلمودية. فإذا انتقلنا إلى المسيحية، وجدنا أنها مدينة لتعاليم بولس الرسول أكثر منها لتعاليم يسوع الأصلية. كما عبَّر الدين الإسلامي عن حركية لا تقل عن غيره من الأديان، وذلك من خلال المذاهب الفقهية ومدارس علم الكلام والصيغ المتنوعة للطوائف والمذاهب الإسلامية والطرق الصوفية. وهذا يقودني إلى القول بأن النص المقدس لا يتحكم في مسيرة الفكر اللاحق عليه بقدر ما يقع هو نفسه تحت سلطة ذلك الفكر، من خلال تفسيره وتأويله وفرض معاني جديدة عليه نابعة من سياق التطور التاريخي. فبينما يبقى النص قابعًا وراء ستارة من القداسة السكونية فإن الواقع يتجاوزه من خلال فكر دينامي يُعلن الإذعان له. ح.س.: يرى بعضهم أن كتابك مغامرة العقل الأولى[1]، الذي يُعتبَر أحد نماذج نقد الفكر الديني، يكمِّل بشكل أو بآخر ما قام له المفكر صادق جلال العظم في كتابه نقد الفكر الديني[2]. فما رأيك في ذلك؟ ف.س.: إن كلمة "نقد" في الثقافة العربية تمتعت بتاريخ طويل من السمعة السيئة! وهي تعني اليوم، في أذهان الكثيرين، إظهار الجوانب السلبية للظاهرة المدروسة انطلاقًا من حكم مسبَّق عليها. أما من حيث الأصل، فإنها تعني الدراسة الموضوعية للظاهرة من أجل تبيان ما لها وما عليها. كتاب صادق جلال العظم ينطبق عليه المعنى الأول للكلمة: فهو ينطلق أصلاً من موقف مُعادٍ للدين. أما أنا فأنطلق من موقف متعاطف مع الدين، موقف مَن يود فهم الظاهرة الدينية، لا إطلاق حكم قيمة عليها. وأنا في ذلك أستعمل منهجًا فينومينولوجيًّا [ظاهراتيًّا] يقوم على الوصف الموضوعي دون التوصل إلى أحكام. وقد كان كتابي مغامرة العقل الأولى بمثابة الخطوة الأولى في هذا المنهج الذي لم أحِدْ عنه فيما بعد، وبلغ حدَّ النضج في كتابي دين الإنسان[3]. ح.س.: ما الفرق بين الأسطورة والدين؟ وأيهما سبق الآخر؟ وكيف يتبادلان التأثير؟ ف.س.: إن النظرة الفاحصة إلى تاريخ أديان الإنسان تكشف لنا عن بنية موحدة للدين، أنَّى التقينا به كظاهرة ثقافية رائدة ومتى. وهذه البنية تقوم على عدد من المكونات الأساسية التي لا نستطيع التعرف إلى هذه البنية من دونها، وهي: المعتقد والطقس والأسطورة. يتألف المعتقد من عدد من الأفكار الواضحة والمباشرة، تعمل على رسم صورة ذهنية لعالم المقدسات، وتوضح الصلة بينه وبين عالم الإنسان. وغالبًا ما تصاغ هذه المعتقدات في شكل صلوات وتراتيل. ولكن الأفكار وحدها لا تصنع دينًا إلا عندما تدفعنا إلى سلوك وفعل، فننتقل من التأمل إلى الحركة، من التفكير في العوالم القدسية إلى اتخاذ مواقف عملية منها، فنتقرب منها أو نسترضيها، نسخِّر قواها لمصلحتنا أو ندرأ غضبها عنَّا. وهذا هو الطقس. فإذا كان المعتقد حالة ذهنية فإن الطقس هو حالة فعل من شأنها إحداث رابطة: فمن خلال الطقس نقتحم على المقدس "حرمته"، إذا صحَّ التعبير، ونفتح قنوات اتصال معه. أما الأسطورة فهي، من حيث الشكل، قصة تحكمها مبادئ السرد القصصي، من حوادث وحبكة درامية وعقدة وشخصيات وما إليها، وغالبًا ما تجري صياغتُها في قالب شعري يساعد على ترتيلها في المناسبات الطقسية وتداوُلها شفاهًا. أما من حيث مضمونُها، فإنها تُعنى برسم صورة للآلهة، توضح شخصياتها ووظائفها ومهماتها وعلائقها بعضها مع بعض ومع عالم الإنسان ومع الطبيعة. فالأسطورة، والحال هذه، تعمل في خدمة الدين وتعمل على توضيح عقائده عن طريق السرد القصصي. ح.س.: يرى بعضُهم صعوبةً في التمييز بين مصطلح "الأسطورة" وبين مصطلحات أخرى، مثل "الملحمة" و"الخرافة". فما هو برأيك معيار التفرقة بين هذه المصطلحات؟ ف.س.: هنالك عدة أجناس أدبية شبيهة بالأسطورة، منها الخرافة والحكاية البطولية والحكاية الشعبية والملحمة وحكايات الجن... ولعل الوقت يطول بنا إذا حاولتُ في هذا المجال الضيق تقديم تعريف بهذه الأجناس؛ لذا سوف أكتفي بإيراد المعيار الأساسي الذي نستطيع من خلاله التمييز بين الأسطورة وغيرها، وهو معيار القداسة. فالأسطورة حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معانٍ ذات صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان. ويؤمن أتباعُ كل دين بصدق الأحداث التي تقصها أساطيرهم وبصحة ما تحاول تقديمه لهم من مضامين. فالأسطورة ترتبط بنظام ديني معين وتتشابك مع معتقدات ذلك النظام وطقوسه؛ وهي تفقد مقومات وجودها كلَّها إذا انهار ذلك النظامُ الديني الذي تنتمي إليه، فتتحول إلى حكاية دنيوية تنتمي إلى نوع آخر من الأنواع الأدبية الشبيهة بالأسطورة. ح.س.: تكلمت في كتابك دين الإنسان على مسألة وحدة الخبرة الدينية. والسؤال هو: ما الفرق بين هذا الرأي وبين ما ذهب إليه فلاسفةُ الصوفية من القول بـ"وحدة الأديان"؟ ف.س.: في كتاب دين الإنسان حاولت، انطلاقًا من مقاربة ظاهراتية [فينومينولوجية] البحث عما هو مشترك وعام بين أديان الإنسانية عبر تاريخها، مبتدئًا من أبعد مرحلة في التاريخ أمكن لنا عندها تبيُّن وجود حياة روحية للإنسان، وهي مرحلة إنسان نياندرتال، وذلك من أجل الكشف عن البنية الجوهرية للدين والتوصل إلى تعريف جامع له تنضوي تحته الأديانُ كلها، من أكثرها بساطة إلى أكثرها تركيبًا وتعقيدًا. وقد توصلت إلى نتيجة مُفادها أن الأديان كلَّها تقف على قدم المساواة، وتتمتع بدرجة واحدة من المشروعية، حيث لا وجود لأديان "حقيقية" وأخرى "زائفة"، ولا لأديان "بدائية" وأخرى "متطورة". ذلك أن المفهوم الحديث للتطور، الذي سيطر على الفكر الحديث منذ أواسط القرن التاسع عشر، لا ينطبق على حياة الإنسان الروحية والعاطفية. قد يكون المنكاش الحجري أكثر بدائيةً من المحراث المعدني، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من الجرار الحديث، وقد يكون السهم الذي يُطلَق من أنبوبة النفخ أكثر بدائيةً من السهم الذي يُطلَق من القوس، وهذا بدوره أكثر بدائيةً من البندقية الحديثة؛ ولكن مَن يستطيع القول بأن الأديان المتأخرة، التي يمتلئ تاريخُها بالتعصب والاضطهاد وملاحقة الهراطقة والحروب الشاملة، هي "أكثر تطورًا" من الأديان "البدائية" التي تتسم بالتسامح مع جميع المعتقدات؟! أما عن الصوفية التي أشرتَ إليها في سؤالك، باعتبارها نموذجًا لوحدة الأديان، فإنها – لعمري – كذلك! فالصوفي، سواء كان تاويًّا أو هندوسيًّا أو بوذيًّا أو يهوديًّا أو مسيحيًّا أو مسلمًا، قد اخترق بخبرته الروحية المباشرة الأُطُرَ الشكلانية للدين المؤسساتي كلَّها، وأقام في الحقيقة التي تشترك فيها الأديانُ كلها. ح.س.: تشير في كتابك الأسطورة والمعنى[4] إلى وجود نزعة توحيدية واضحة في أديان الشرق القديم، التي يقوم معتقدُها على الإيمان بإله واحد أعلى خَلَقَ بقيةَ الآلهة. لكنك تقول في عدة محاضرات ألقيتَها: "إما أن تكون كلُّ الديانات سماويةً أو تكون وضعيةً كلُّها." هل يعني ذلك أنك تساوي بين المعتقدات السماوية والمعتقدات الوثنية؟! وما هو الأساس الذي تعتمده في ذلك؟ ف.س.: لا يوجد في أية ديانة توحيدية مفهومٌ عن إله منفرد يشغل وحده الحيز الماورائي للوجود. فالإله الخالق، عندما أظهر العالمَ إلى الوجود وقرَّر الدخول في تاريخه، خلق مع البشر على الأرض كائنات أخرى في السماء، هي الرهط الذي يحيط به وينفذ أوامره ويكون بمثابة الصلة بينه وبين العالم المادي وكائناته، وجعل لكلٍّ من هذه "الملائكة" مهمة ووظيفة. هذا التصور القائم لعالم الألوهية هو الذي تقوم عليه الدياناتُ التي ندعوها بـ"الوثنية" أيضًا. فالإله الأزلي القديم، عندما قرر خلق العالم، خلق في الوقت نفسه مجموعةً من الآلهة الأصغر ومنَحَها القوة والسلطان على مظاهر الكون المتنوعة. إن الإله المتربع على سدة الكون في المعتقدات الوثنية يمثل جوهر الألوهية المطلقة؛ أما بقية الآلهة "المخلوقة" فمنه تستمد الوجود والقدرة: إنها أشبه بالشرارات المنبعثة من جذوة نار أزلية متقدة. وهذا، في رأيي، يجعل الحدَّ الفاصل بين معتقد "التوحيد" ومعتقد "الشرك" على غير ما نشتهي من الوضوح! أما فيما يتعلق بالشق الثاني من السؤال فأقول: إذا كان الوحي حقيقةً قائمةً بين الله والناس، فلماذا كان على الله أن ينتظر حتى هذا الوقت المتأخر من تاريخ البشرية لكي يعلن عن نفسه من خلال ثلاثة أديان يحتكر كلٌّ منها لنفسه معرفة الله الحق؟! إذا كان الوحي حقيقة، فقد كان هذا الوحي متصلاً دون انقطاع، والبشر جميعًا عرفوا الله عبر تاريخهم الديني – كل ثقافة بما يتناسب ووضعها في سياق الارتقاء الثقافي. في هذا الموضوع يقول محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم إن كلَّ المعبودات التي توجَّه إليها البشر، في كلِّ زمان ومكان، لم تكن في واقع الحال غير "مجالٍ" لأسماء الله، وإن التوجه إليها بالعبادة لم يكن إلا طريقًا إلى معرفة الله الحق، لأن الله قال في كتابه العزيز: "وقضى ربُّك ألا تعبدوا إلاَّ إيَّاه" [سورة الإسراء 23]، ولم يقل "وأمَرَ ربك ألا تعبدوا إلا إياه". فكل "عبادة"، والحال هذه، لغير الله مآلُها في النهاية إليه: "فإن للحق في كلِّ معبود وجهًا يعرفه مَن يعرفه ويجهله مَن يجهله. فما عُبِدَ غير الله في كلِّ معبود." [ابن عربي، الفصوص] هذا ما أعنيه بقولي بأن الأديان كلَّها إما أن تكون سماويةً أو تكون وضعية. ح.س.: في كتابك الرحمن والشيطان[5]، ثمة مفهوم ملتبس عن الحرية التي تقول إنها "الأمانة" التي حملها الإنسان، في حين أبَتِ السماوات والأرض والجبال حملَها [سورة الأحزاب 72]؛ ثم تقول في موضع آخر إن الشيطان هو "رمز الحرية في الإنسان"، وهو الذي يعطيها المعنى. كيف تحدد العلاقة بين أقانيم ثالوث الرحمن والشيطان والإنسان؟ ف.س.: يقوم الوجود على تناقُض الأضداد وتعاوُنها. كل شيء يُنتج نقيضَه ويتعاون معه على إنتاج حالة تكامُل وتوازُن واستقرار: النورُ يقابل الظلام، والجافُّ يقابل الرطب، والحرارةُ تقابل البرودة، والحركةُ تقابل السكون، والسماءُ تقابل الأرض، والذكرُ يقابل الأنثى، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. وعلى المستوى الأخلاقي، فإن الخير يقابل الشر. وكما هي الحال في جميع المتعارضات، فإنه لا خير بلا شر، والعكس صحيح، لأن كلاًّ منهما يعمل على إظهار الآخر. وقد قام الفكر الديني الثنوي، الذي تمثل له الغنوصية والزرادشتية والمانوية، بتجسيد النوازع الخيرة والنوازع الشريرة في النفس الإنسانية في إلهين: واحد يحض على الخير وآخر يوسوس بالشر؛ وعلى الإنسان أن يستعمل حريته من أجل الاختيار في سلوكه بين الطريقين. فهو الكائن الحر الوحيد، الكائن الذي لا توجِّهه الغرائز الطبيعية، وإنما ضمير يعي وجود الخير والشر في العالم. وقد سارت الديانات التوحيدية بعد ذلك على النهج نفسه، لكنها استبدلت بشخصية إله الشر شخصيةَ الشيطان أو إبليس. وهذا معنى قولي إن الشيطان هو رمز إلى حرية الإنسان. لأنه من دون الشيطان لا يوجد خيار، ومن دون الخيار لا توجد حرية، ومن دون الحرية يتحول الإنسان إلى كائن "طبيعاني" غير عاقل، شأنه شأن بقية كائنات الأرض. *** *** ***
التقى به: حسن سلمان [1] راجع: فراس السواح، مغامرة العقل الأولى: دراسة في الأسطورة، طب 1: دمشق، 1978. [2] راجع: صادق جلال العظم، نقد الفكر الديني، طب 7: دار الطليعة، بيروت، 1994. [3] راجع: فراس السواح، دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني، طب 1: دمشق، 1994. [4] راجع: فراس السواح، الأسطورة والمعنى: دراسات في الميثولوجيا والديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 1997. [5] راجع: فراس السواح، الرحمن والشيطان: الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات المشرقية، طب 1: دمشق، 2000.
|
|
|