أسئلة عنيفة عن اللاَّعنف!

 

مصطفى علوش

 

حكمة اللاعنف: أوضح غاندي أن اللاعنف ليس عجزًا أو ضعفًا، وذلك لأن "الامتناع عن المعاقبة ليس غفرانًا إلا في وجود القدرة على المعاقبة فعليًّا". وهو كذلك لا يعني عدم اللجوء إلى العنف مطلقًا: "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إخصاء عرق بشري بأكمله."

* * *

 

جمهور الثقافة عدده قليل عندنا بالقياس إلى جمهور الرياضة، لكنه جمهور مهم، لاسيما أننا نعيش عربيًّا في زمن لا يهتم كثيرًا للقراءة، لأسباب كثيرة لسنا الآن في صدد تحليلها – هذا الجمهور يتابع ويناقش حين يتاح له المجال. ومع أهمية بعض الأسئلة التي تُطرَح على المحاضرين، إلا أن بعضها الآخر يأتي في سياق منفصل عن موضوع المحاضرة، وكأن بهذا المتلقي قد انتهزها فرصة للكلام – أيِّ كلام – ليقدم أحيانًا "مداخلة" مطوَّلة لا علاقة لها بموضوع الندوة!

جاءنا مؤخرًا فيلسوف فرنسي اسمه جان ماري مولِّر، وألقى محاضرة في المركز الثقافي الفرنسي بعنوان "غاندي: حكمة اللاعنف"، ارتكز في جوهرها على أفكار غاندي، "أبي الهند". كانت تلك المحاضرة من أمتع المحاضرات الفكرية بسبب محتواها الغني، وضرورة طرحه، وتبنِّيه إنْ أمكن، لاسيما أننا نعيش في زمن عنيف وتربَّينا على ثقافة عنيفة، مساحة التسامح فيها ضئيلة جدًّا بالقياس إلى مساحات الخوف والرعب. لا بل يمكن لنا القول إن طرح اللاعنف كـ"إستراتيجية لحلِّ النزاعات" ضرورة إنسانية لا بدَّ منها.

المهم أن هذا الفرنسي الجميل أنهى كلامه، وفُتِحَ المجالُ لأسئلة الجمهور ومداخلاته. وللأمانة، طُرِحَتْ أسئلةٌ مهمة؛ وبعض المداخلات كان أيضًا مهمًّا، لاسيما تلك المداخلة التي تناولت التناقض بين مفهوم الدولة واللاعنف. لكن بعض الحاضرين اعتقدوا أن هذا الهادئ العميق هو "الأمين العام للأمم المتحدة"، وبدؤوا بطرح أسئلة ومداخلات تتعلق بالمذابح التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة على يد المحتل الإسرائيلي، وكاد بعض المتحمسين أن يحمِّلوه مسؤولية ما يحصل في العراق لأنه يدعو إلى إستراتيجية اللاعنف في حلِّ النزاعات البشرية، وهي إستراتيجية مجربة أثبتت قوتها ونجاعتها في الهند (وهذا المثال الإنساني الكبير لا يمكن لأيِّ مبصر في هذا العالم أن ينكره!). والأغرب أن إحدى الحاضرات أدانت المحاضر ضمنًا باعتباره يدعو إلى اللاعنف، بينما العالم يمور بالعنف والمذابح؛ ويبدو أنه كان على المحاضر أن يتسلح بعدد من الصواريخ ليقنع تلك المرأة العنيفة!

تكمن المشكلة في أن هذا النمط من الجمهور لا يميز بين رغبته في طرح الأسئلة والمداخلات وبين موضوع المحاضرة، وكأن هذا الجمهور، المحتقن أصلاً، قد انتهزها فرصة للتنفيس عن همومه وأزماته، حتى ولو كان ذلك على حساب الأمانة للمنهج والانسجام مع موضوع المحاضرة. طبعًا أجاب جان ماري مولِّر، الذي يشغل موقع مدير دراسات في "معهد أبحاث حل النزاعات باللاعنف" في فرنسا، عن تلك التساؤلات والمداخلات بكثير من اللباقة والانسجام و"اللاعنف" أيضًا؛ لا بل إن دفء أفكاره ونبضها الإنساني قد جعلانا نصغي، فندرك مدى السلام الداخلي الذي يعيشه هذا الفيلسوف–الإنسان، وكلماته جاءت لتجعلنا نصل إلى بعض شواطئه المليئة بالفكر والسلام. ولا غرابة، لأن غاندي هو مصدره وموجِّهه، ومحرِّره أيضًا.

ومن أفكار المحاضرة أنه ذكر أن الأمل هو الذي يضفي على حياته معنى. كما طالبنا بإحداث قطيعة نهائية مع النموذج الذي يطمح للتوصل إلى العالمية عن طريق الغزو والهيمنة. كما طالب الأفراد والمجتمعات بفرز العناصر التي تبرِّر العنف في ثقافة المجتمع الذي تنتمي إليه، والتحلِّي بالشجاعة لإحداث قطيعة نهائية مع تلك الأفكار العنيفة؛ كما طالب حَمَلة مختلف الثقافات الإنسانية بالبحث عن العناصر التي تدعو إلى الطيبة والخير والتسامح في ثقافاتهم، وتمييزها والوفاء لها وتبنِّيها كليًّا. ورأى أنه إذا قام كل شعب بهذين العملين – القطيعة مع العنف والإخلاص لما هو إنساني وطيب وخيِّر – فإن البشر سيتلاقون حتمًا في القيم ذاتها. وذكر أيضًا أن اللاعنف يجب أن يكون حجر الزاوية من هذه الثقافة العالمية.

ترى، بعد هذا كلِّه، ألا يحق لنا أن نطالب بعض جمهورنا، على الأقل، بمزيد من التدقيق فيما يطرحون من أسئلة وأفكار. ونقول مع غاندي: "ليس في حياة الأفراد ولا في حياة الشعوب خطأ لا يمكن إصلاحه، فالرجوع إلى الصواب يمحو جميع الأخطاء."

*** *** ***

عن موقع بلدنا، الخميس 18 حزيران 2008

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود