السـمكة الوحيـدة
فتحـي عبد السـميع
البـاب
حتى لو انفتح الباب
ماذا سأفعل؟ –
أنا الذي بلغت الشيخوخة
محدقًا في المقبض
السـمكة الوحيـدة
كلهم يرجعون إلى بيوتهم
بصيد ثمين
البحر خاشع أمامي
ماذا ينقصني كي أكون صيادًا؟
صنارتي جيدة
وقاربي متين
لماذا إذن أعود إلى عتمتي
بلا سمكة؟
الصبر؟
من خَبِرَ الصبر مثلي؟ –
أنا الذي وقفت أكثر من ربع قرن
أمام أفران الجنوب
دون زفرة واحدة
الحظ؟
ربما
غير أنهم يصطادون
بلا حظ
وبلا صبر
وبلا صنارة
وبلا بحر
لماذا لا أريد أن أصدق
أنني السمكة الوحيدة
وأنهم لا يفعلون شيئًا
سوى العودة بي إلى بيوتهم كل مساء؟
جميـزة
إلى حورس
وحدها توتِّر لانهائيةُ الصحراء
وتأخذ بنهارات البدن المنهوك
ترقد حاضنًا ما تبقَّى من أحلامك
غير مصدِّق
أن الطريق الذي كشَّر لك
عن صخوره المسنونة
يفضي إلى ذلك الظل البنفسجي
تتسلَّل أغصانها إلى أغوارك
وأنت تشتهي أن تفيض:
يركلون أوانيهم
ويقلبون الكثبان رأسًا على عقب
كلَّما تذكروا
أن رمحًا لم يخترق صدري
وتكره أن تفيض:
ملعونة أمي
جرَّدتني من ثديها
وزيَّنتْه لقاتل زوجها
وسارق عرشي
ترقد أيها المُطارَد الصغير
بينما تأخذك الجميزة في حنوها
وتتأمل كيف تعبث الدويبات بانفعالاتك المكتومة
وكيف يسيل لهاثك صانعًا بحيرة صغيرة
يتزاحم حولها اللوتس والبوص
ترقد ولا تعرف
أن الجميزة الحنون
ليست سوى أمي
بـاب الزنـزانة مفتـوح
لا أصدق!
باب الزنزانة مفتوح
والحراس يهنئونني
يطلبون السماح
ويرجونني أن لا أنسى حلاوة الخروج
لا أصدق!
الحرية ترقص عارية
أمام تخت شرقي
وأنا لم أمت بعد
لم أمت!
أفكر فيما سيحدث للحياة
عندما أعطي ظهري للسجن:
لكأنهم لم يمنعوا عني الطعام والشراب
لكأنهم لم يجلدوني
لكأنني لم أسمع استغاثات زوجتي
في الحجرة المجاورة
لكأنني لم أعترف لهم
بالجرائم التي لم أرتكبها
باب الزنزانة مفتوح
لكن رائحة متجهمة
تتحجر في فراغه المستطيل
الحراس يجذبونني فرحين
وأنا أتشبث بالجدران –
كيف لم أشعر بحنانها من قبل؟ –
الحراس يتركونني أمام بوابة السجن
ويدخلون ملوحين لي
أرتمي على البوابة المغلقة
وأخبط بكل قوتي
أنظر للفضاء الشاسع المقمر
وأعاود الطَّرق والاستغاثة
أفكر فيما سيحدث
لو أعطيت ظهري للسجن
وخطوت فوق الرمال الناصعة:
سوف تنطلق صفارات الإنذار
وتستقر عدة طلقات في أعلى مؤخرتي
وسيشهد السجناء
أني هربت
وأنهم أحضروا جثتي
من خارج السجن
عينـان بلا جسـد
أمشي
ولا أثر لي فوق التراب
أمشي
وللمطر وقع المسامير
أسلِّم على جاري
– وأنا أحرك مفتاح الباب –
فلا يرد
لا يشعر أبدًا
بأني أحرك المفتاح
وأدخل دافعًا الباب بكعبي
لا يشعر أبدًا
بأن شقتي ليست مهجورة
جاري معذور
أشعر أني بلا جسد
عيناي وحدهما
تجعلانني أعتقد بأني حي
فكيف يقتنع الجار
بأن شقتي مسكونة
لمجرد أن بها حدقتين؟
حتى الماء الذي يتسرب
من عقب الباب
لا يمكن أن يقود مخيلته
إلى أن في الشقة رجلاً يبكي
ينبغي أن لا أغضب من جاري
وأن لا أتمنى قتله
ينبغي التسليم بأن الشارع
أمينٌ في تسجيل بصمة كل عابر
وأن المطر
لم يكن له في يوم من الأيام
وقع المسامير
ينبغي أيضًا
أن لا أيأس من الدنيا
وأن أعتني بعينيَّ
كما يعتني جاري
بالنبتة التي في شرفته
لا شك أنهما ستكبران
وسوف يصير لهما شوك
وأزهار
أليس لبعض الناس
أجساد هزيلة
وأعين تُخشى؟
كم حكت جدتي
عن أعين يصطف في شبكيِّتها
ألف فارس وفارس
وأخرى تمتد في شبكيِّتها
أودية
وأنهار
وبيوت
من
يدري؟
ربما صار لي مثل هذه الأعين:
أنظرُ للمطر
فتقف كل قطرة في مكانها
أنظرُ للشارع
فيقف رافعًا صورتي
فوق كومة أسماء الذين عبروا
أنظرُ إلى جاري فيبادرني بالتحية
***
*** ***