|
غبـطـة المُتـخيَّـل 1
وهكذا فإنَّ عالمًا بأسره يأتي ليساهم في سعادتنا عندما تأتي أحلامُ اليقظة لتزيد
من راحتنا. ويجب أن يقال لمن يريد أن يحلم جيدًا: ابدأ بأن تكون سعيدًا. حينئذٍ
تخطُّ أحلامُ اليقظة قَدَرَها الحقيقي: إنها تصبح أحلام يقظة شعرية؛ ويصبح
كلُّ شيء، فيها وبها، جميلاً.
عندما يفرح الناسُ بعد أن يفكر أحدهم فهذا يعني أنه قد فكَّر بشكل جيد.
ينقذ الفيل هورتون، في فيلم جديد بعنوان هورتون، ذرةً عائمةً خُيِّل إليه أنها تطلب النجدة، أو كما عقلن الأمر، شخصًا أو أشخاصًا صغارًا جدًّا يعيشون فيها هم الذين يطلبون النجدة. وعندما تأتي الكنغر لتسخر من فكرة هورتون عن وجود أشخاص صغار إلى هذه الدرجة، يرد متفكرًا: "ولكن، فكِّري، ربما نحن كبار الحجم جدًّا." هذا المثال يقلب معادلاتٍ كثيرةً متفَقًا عليها، منها صفة "عقلي" التي غالبًا ما نلصقها بالواقع المنجَز على المستوى المادي، على الرغم من الخلاف الكبير على تعريف العقل. ذلك أن العقل في المثال السابق يعمل فعلاً على مستوى هورتون، الذي هو الواقع المتخيَّل، ويتوقف عن العمل "الخلاق" على مستوى الكنغر، الذي هو الواقع المنجَز. وهذا ما يجعل التتابع المنطقي للفيلم هو وصول الكنغر إلى إيديولوجيا حماية التقليد الفكري المتعارف والمتفق عليه من الفخاخ التي ينصبها له المتخيَّل. وبالفعل فإنَّ دور المتخيَّل هو دائمًا دورٌ مخرِّبٌ للمسلَّمات الفكرية و/أو الدينية. وكلما ازداد المجتمع انغلاقًا ازدادت "شيطنة" هذا الدور، حتى يصير محرَّمًا تحريمًا كاملاً في مجتمع طهراني حتى الموت، مجتمع يقضي على أفراده بأن يستنسخوا بعضهم بعضًا انطلاقًا من "نسخة أصلية" لا غبار عليها هي نسخة المشرِّع. ولكن إذا سألنا أنفسنا: من أين حصل المشرِّع على شكله، سنجد أننا ندخل في بوابة المحرَّم المنبوذ ذاته الذي هو المتخيَّل. والسؤال الأساسي هنا هو: كيف نقرأ الواقع الفعلي الذي نعرِّف به على أنه نتاج تفاعلي بين نقيضين سنسميهما الواقع المنجَز – ونقصد به كلَّ ما هو ناجز ذهنيًّا، على اعتبار أن "المنجَز المادي" أيضًا هو غير منجَز في رحاب عقل فعال – وبين الواقع المتخيَّل الذي ينقض المنجَز السابق؟
خصائص الواقع المنجَز وخصائص الواقع المتخيَّل
قبل الانتقال إلى دراسة العلاقة بين الواقعين، لا بدَّ من الإشارة إلى أهمية صفة المنجَز في تشكيل التصنيف المعتمَد هنا. ذلك أني اعتمدت بدايةً اسمَ الواقع المادي أو الموضوعي في مقابل الواقع المتخيَّل؛ ثم تبيَّن أن الأثر السلبي لنفي المتخيَّل من النطاق الديني (أو الإيماني أو الروحي) أكبر من أثر نفيه من النطاق المادي. ثم اعتمدت اسمَ الواقع التجريبي، مع توسيع مفهوم "التجربة" ليشمل، بالإضافة إلى التجربة العلمية، التجربةَ الدينيةَ التي، بناءً على ألاعيب ذهنية عدة، تُستنسَخ على أنها تجربة فردية فعلاً؛ ولكن تبيَّن أن اسم "التجربة" يتناسب مع الواقع المتخيَّل في مقابل اسم استنساخ التجربة الذي هو من الواقع المنجَز والذي اعتمدتُه كتسمية أخيرة. ذلك أن السمة الأساسية للواقع المتخيَّل هي التحرك في مجالات ومستويات عدة من اللامنجَز: فهو ينطلق من رؤية لامنجَزية الواقع المادي أو الروحي ويتحرك نحو إكمال هذا الواقع على مستوى الخيال؛ ورحلته رحلة غير منتهية على صعيد الفرد نفسه الذي حتى وإن اعتقد أنه أنجز واقعه المفترض – وهذه حالة نادرة – فإن هذا الإنجاز ذاته، واعيًا، يبقى ضمن نطاق الواقع المتخيَّل، مما يعيد إليه مرة أخرى سمة اللامنجَز، وهي السمة التي تحفظ طزاجته وتحميه من ركود المنجَز الذي هو سمة كلِّ واقع مادي أو روحي "مغلق" يعتمد التكرار لتضخيم ذاته التي يريدها على لون واحد. الواقع الفعلي الواقع الفعلي نتاج تفاعلي بين الواقعين، بحيث يؤدي استبعاد أحدهما إلى خلل أساسي فيه أو في انعكاسه على الإنسان. وهو يتحدد بسيادة خصائص واقع على واقع آخر، دون أن يعني ذلك إلغاء أيٍّ من الواقعين؛ إذ إن ذلك غير ممكن أصلاً إلا وفق عقل مغلق يبني واقعًا ذهنيًّا منجَزًا وفق معطيات مسبَّقة تحدِّدها خصائص الواقع المنجَز. فالواقع الذي يبنيه، وإنْ كان غير مادي، إلا أنه لا ينتمي إلى المتخيَّل مادام محاكاةً ذهنيةً للواقع الفعلي بعد إلغاء المتخيَّل منه. ولنضرب مثالاً الواقع المفترَض للأصولية الدينية، ممثلةً بـ"جماعة التكفير والهجرة"، الذي هو نسخة منجَزة تستبعد أية إمكانية للمتخيَّل فيها، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. فهي تتحرك من واقع منجَز فعلي تفترضه "خطأً" إلى واقع منجَز ذهني تفترضه "صوابًا"؛ وبذلك فإن واقعها الذهني، وإن كان غير مادي، إلا أن جميع الخصائص السابقة للواقع المنجَز تنطبق عليه من حيث هو معطى جماعي، مؤكَّد، ينحو باللغة نحو التقلص، تراكُمه كمِّي، استنساخي، وتاريخي. وفي حين يؤدي تحريم المتخيَّل أو محاربته وإقصاؤه، في مجتمع ديني أو توتاليتاري، إلى تقليص الإنسان إلى بُعده المادي فقط، أو إلى روبوط في الحالات القصوى، يؤدي إلغاءُ الواقع المنجَز إلى وضع الإنسان في متاهة عزلة لا تنتهي. ونقول "تحريم المتخيَّل" و"إلغاء المنجَز" لأن تحريم المتخيَّل ينطلق من الواقع المنجَز ذي البُعد الجماعي والتاريخي؛ وهكذا فإن من الممكن تعميمه وتطبيقه على أرض الواقع الفعلي. في حين أن إلغاء الواقع المنجَز ينطلق من واقع فردي يمكن تكثيفه بالجنون أو بحالات فقدان الصلة بالواقع بكلِّيته (ذُهان)؛ وهذا ما يجعله غير قابل لأن يكون حالةً عامة. الفارق السابق يسمح لنا باعتبار المشكلة الأساسية في الواقع الفعلي هي في تحريم المتخيَّل أو في تبخيسه على أقل تقدير. ويمكن لنا أخذ الوضع المتردِّي للشعر حاليًّا مثالاً واضحًا: فالشعر هو قمة المتخيَّل، من حيث قدرتُه على إبداع رؤى جديدة لكلِّ ما يراه من جزئيات وكلِّيات، وعلى ابتكار علاقات جديدة بين أشياء نظن أنها اكتملت بعلاقاتها. فعندما يقول علي جازو مثلاً: قال إنَّ السَّماءَ امرأةٌ، وإنَّها عقلٌ جميلٌ، وإنَّ العقلَ خاسرٌ فإنه لا يبتكر تشبيهات جديدة فقط، بل علائق جديدة. وهذا ما يجعل من جملته الشعرية مفتاحًا لأسئلة كثيرة وتفكُّر كثير، يُضاف إلى الهالة الشعرية الحسية، غير القابلة للتوصيف، المحيطة بها. وتراجُع الشعر، بالإضافة إلى تراجعات أخرى، مثل السعادة والشغف والفعالية الإنسانية، يجعلنا نَسِمُ واقعنا الفعلي بأنه واقع منجَز يحاول فيه الواقعُ المتخيَّل أن يقول كلماته وألوانه وصوره؛ ويجعلنا نعلن، مثلاً، أن الخرافة حتى ليست رديئة مادامت تنتمي إلى واقعها الخاص، وأن الرديء هو قسرها على أن تكون واقعًا منجَزا؛ ويجعلنا نعلن أن الحياة ليست بُعدًا واحدًا، وأنها جميلةٌ جدًّا مادمنا لم نختزلها في بُعد واحد؛ وأخيرًا، يجعلنا نعلن أن الشغف كمون، وأننا – باعتبارنا الإنسان – رائعون بما نحن عليه، دون تقديم فرائض طاعة لأحد أو لشيء. *** *** ***
|
|
|