|
صَـبْرُ أيُّـوب
يختصر القرآنُ قصةَ عذاب أيوب الصدِّيق وخلاصه من محنته في خمس آيات وَرَدَتْ في سورتين فقط. لكن هذه القصة القصيرة تتحول في كتب التفسير إلى رواية مطوَّلة تحفل بالأحداث والأخبار والتفاصيل. في هذا السرد المسترسل، يأخذ كلُّ حدث من أحداث هذه القصة بُعدًا جديدًا بين رواية وأخرى، وتبدو سيرةُ أيوب أشبه بمجموعة قصص متداخلة يصعب تحديدُ مصدرها الأصلي. ويستعيد أهلُ الأخبار قصصَ "الضُّر" الذي مسَّ أيوب والآلام التي كابدها صابرًا، إلى أن عافاه الله وجعله "ذكرى للعابدين". ويصوِّر الرسامون خلاص النبي الصابر في "مغتسل بارد" انبعث له بعدما بلغ البلاءُ منتهاه. ذُكِرَ اسمُ أيوب أربع مرات في القرآن الكريم: ففي سورة النساء 163، يرد الاسمُ بين طائفة من أسماء الأنبياء الذين أوحى الله إليهم؛ وفي سورة الأنعام 84، إشارة إلى أنه من ذرية إبراهيم. وتأتي قصة النبي بما يشبه المثل في آيتين من سورة الأنبياء: وأيوب إذ نادى ربَّه أنِّي مسَّني الضرُّ وأنت أرحم الراحمين. فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضُرٍّ وآتيناه أهلَه ومثلَهم معهم رحمةً من عندنا وذكرى للعابدين. (83-84) في المقابل، تذكر سورة ص دورَ الشيطان في هذا الحدث، كما أنها تشير إلى نذر أقسم أيوب أن يفي به: واذكر عبدنا أيوب إذْ نادى ربَّه أنِّي مسَّني الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب. اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ. ووهبنا له أهلَه ومثلَهم معهم رحمةً منَّا وذكرى لأُولي الألباب. وخُذْ بيدك ضِغْثًا فاضربْ به ولا تحنثْ إنَّا وجدناه صابرًا نِعْمَ العبدُ إنَّه أوَّابٌ. (41-44) في تفسير سورة الأنبياء، ينقل الطبري رواياتٍ طويلةً تتحدث عن هذا "الضُّر" الذي مسَّ أيوب، وكان "امتحانًا من الله له واختبارًا". تقارب هذه الرواياتُ حينًا الأخبارَ التي وردت في سفر أيوب من العهد القديم، وتبتعد عن هذه الأخبار في كثير من الأحيان؛ والثابت أنها تأخذ هنا قالبًا إسلاميًّا خالصًا في خلاصة معانيها، في معزل عن هوية مصادرها الأصلية. يبدأ إمام المفسِّرين عرضَه برواية تُنسَبُ إلى وهب بن منبِّه؛ وبحسب هذه الرواية، كان أيوب "نِعْمَ العبد"، وكانت صلواتُه تبلغ جبريل وميكائيل والملائكة المقرَّبين من العرش الإلهي، حتى [...] صارت الصلاةُ على ذلك العبد من أهل السماوات، فإذا صلَّتْ عليه ملائكةُ السماوات هبطتْ عليه بالصلاة إلى ملائكة الأرض. أثارت هذه الصلواتُ حسدَ إبليس، فصعد إلى السماء وقال: يا إلهي، نظرتُ في أمر عبدك أيوب، فوجدتُه عبدًا أنعمتَ عليه فشكرَك، وعافيتَه فحمدَك، ثم لم تجرِّبه بشدة ولم تجرِّبه ببلاء. وأنا لك زعيم [أي زاعم] لئن ضربتُه بالبلاء ليكفرنَّ بك ولينسينَّك وليعبدنَّ غيرك. تبدأ هنا المبارزةُ بين إبليس وأيوب. ففي الجولة الأولى، يقضي "الشياطين والعفاريت وعظماؤهم" على إبل أيوب ورعاتها، وهي مصدر رزقه. وفي الجولة الثانية، تتلف هذه القواتُ كلَّ ما مَلَكَه العابد التقي من أراضٍ خيِّرة في الشام. وفي كلِّ مرة، يحاول إبليس أن يدفع أيوب إلى الشكِّ والكفر، فيرد النبي بالتسبيح: الحمد لله، حين أعطاني، وحين نزع منِّي. عريانًا خرجتُ من بطن أمي، وعريانًا أعود في التراب، وعريانًا أُحشَرُ إلى الله. وفي الجولة الثالثة، يخسر أيوب أولاده، فيتمزَّق ألمًا عليهم ويأخذ بالبكاء، غير أنه لا يكفر. يعود إبليس مرة أخرى "خازيًا ذليلاً"، ويستعد لشنِّ حملته الأخيرة على غريمه. يختبر أيوب البلاءَ الأكبر: تكسو الثآليلُ جسمَه، ويتقرَّح بدنُه، ويتقطع لحمُه، وينتن جلدُه، فيطرده أهل القرية من داره، ويجد نفسه ملقيًّا على كناسة لا تقربها إلا زوجته. التجربة الكبرى يرى الناس في ابتلاء أيوب دليلاً على غروره وكذبه وريائه. فكيف يصيبه ما أصابه إنْ كان بغير ذنب؟! وكيف يتركه ربُّه على هذه الحال لو كان بارًّا تقيًّا؟! يجد النبي المبتلى نفسَه متهمًا حتى من أقرب الناس إليه، وهم "ثلاثة من أصحابه اتبعوه على دينه، فلما رأوا ما ابتلاه الله به، رفضوه من غير أن يتركوا دينه". تختصر هذه الرواية الخطب الطويلة التي وردت على ألسنة بلدد الشوحي وأليفاز التيماني وصوفر النعماتي في سفر أيوب، وهم في رواية الطبري بلدد وأليفز وصافر. وفي ردِّه على صحبه، لا يجدِّف أيوب ولا يكفر بتاتًا، إلا أنه يرفض اتهامه بارتكاب المعاصي، ولا يملك في النهاية سوى أن يسأل ربَّه: ربِّ، لأيِّ شيء خلقتَني؟ لو كنتَ إذْ كرهتَني في الخير تركتَني فلم تخلقني! يا ليتني كنت حَيْضةً ألقتْني أمي، ويا ليتني مِتُّ في بطنها فلم أعرف شيئًا ولم تعرفني! ما الذنب الذي أذنبتُ لم يذنبه أحدٌ غيري؟! وما العمل الذي عملتُ فصرفتَ وجهك الكريم عني؟! لو كنتَ أمتَّني فألحقتَني بآبائي، فالموت كان أجمل بي! وينهي أيوب كلامه مع صحبه بما يشبه اليأس: ذهب رجائي، وانقضت أحلامي، وتنكَّرت لي معارفي. دعوتُ غلامي، فلم يجبني، وتضرَّعتُ لأمَّتي فلم ترحمني، وقع عليَّ البلاء فرفضوني. أنتم كنتم أشدَّ عليَّ من مصيبتي [...]. ولكنَّ لي ربًّا جبارًا تعالى فوق سماواته، وألقاني هاهنا، وهِنْتُ عليه. لا هو عذرني بعذري، ولا هو أدناني فأخاصم عن نفسي. يسمعني ولا أسمعه، ويراني ولا أراه، وهو محيط بي، ولو تجلَّى لي لذابت كليتاي. يهتف الهاتف ويقول لأيوب: أنا هذا قد دنوت منك... لا ينبغي لي أن يخاصمني إلا جبَّار مثلي... أردتَ أن تخاصمني بغيِّك؟ أم أردتَ أن تحاجيني بخطئك؟.. أين كنتَ منِّي يوم خلقتُ الأرض فوضعتُها على أساسها؟ هل علمتَ بأيِّ مقدار قدَّرتُها؟ أم كنتَ معي تمرُّ بأطرافها؟ أم تعلم ما بُعد زواياها؟ يستغفر المبتلى الصابرُ ربَّه ويضيف: علمتُ منك في بلائي هذا ما لم أكن أعلم... إنما كنت أسمع بسطوتك سمعًا، فأمَّا الآن فهو بصر العين. إنَّما تكلمتُ حين تكلمتُ لتعذرني، وسكتُّ حين سكتُّ لترحمني... قد وضعتُ يديَّ على فمي، وعضضتُ على لساني، وألصقتُ بالتراب خدِّي... فاغفرْ لي ما قلتُ، فلن أعود لشيء تكرهه مني. جراد الذهب قيل لأيوب: "اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشرابٌ" (ص 42). وفي حديث يُنسب إلى الحسن: فركض برجله، فنبعتْ عينٌ، فاغتسل منها، فلم يبقَ عليه من دائه شيء ظاهر إلا سقط، فأذهَبَ [أي أزال] الله كلَّ ألم وكلَّ سقم، وعاد إليه شبابُه وجمالُه أحسن ما كان وأفضل ما كان. ثم ضرب برجله، فنبعت عينٌ أخرى، فشرب منها، فلم يبقَ في جوفه داءٌ إلا خرج. فقام صحيحًا، وكُسِيَ حُلَّة، فجعل يتلفَّت ولا يرى شيئًا ما كان له من أهل ومال إلا وقد أضعفه الله له، حتى والله ذُكِرَ لنا أن الماء الذي اغتسل به تطاير على صدره جرادًا من ذهب، فجعل يضمُّه بيده، فأوحى الله إليه: "يا أيوب، ألم أُغْنِكَ؟" قال: "بلى، ولكنها بركتك، فمَن يشبع منها؟!"
أيوب في المغتسل البارد، مخطوط فارسي، القرن السادس عشر، مجموعة خاصة، لوس أنجلس. قبل الله توبة عبده وشفاه، وردَّ عليه أهله وماله "ومثلَهم معهم" (ص 43)، أي ضعفهم، وقال له: "وخُذْ بيدك ضِغْثًا فاضربْ به ولا تحنثْ" (ص 44)، ومعناه في تفسير الجلالين المبسَّط: "وخُذْ بيدك ضِغْثًا" هو حزمة من حشيش أو قضبان؛ "فاضربْ به" زوجتك – وكان قد حلف ليضربنَّها مائة ضربة لإبطائها عليه يومًا –؛ "ولا تحنثْ" بترك ضربها. فأخذ مائة عود من الأذخر أو غيره فضربها به ضربةً واحدة. في تفسيره، ينقل الطبري عن الحسن روايةً تقول إن الشياطين أشارت على إبليس أن يهاجم أيوب من قبل امرأته، مثلما أُخرِجَ آدم من الجنة من قبل امرأته. تمثَّل الشريرُ لزوجة أيوب في صورة رجل، ووسوس إليها، فذكَّرها بما كانت فيه من النِّعم، ثم أتاها بشاة صغيرة، وقال لها: "ليذبح هذا إليَّ أيوب ويبرأ." سمعت المرأة الكلام وقالت لزوجها: "اذبح هذه السَّخْلة [ولد الشاة] واسترح." فصدَّها وقال لها: "والله لئن شفاني الله لأجلدنَّك مئة جلدة! أمرتِني أن أذبح لغير الله، طعامك وشرابك الذي تأتيني به عليَّ حرام." [...] ثم إن الله رحمها بصبرها معه على البلاء أن أمَرَه تخفيفًا عنها أن يأخذ جماعةً [أي رزمة] من الشجر فيضربها ضربةً واحدةً تخفيفًا عنها بصبرها معه. وفي خبر مصدره قتادة: أمرَ بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبًا – والأصل تكملة المئة – فضربها ضربةً واحدة، فأبرَّ نبيُّ الله، وخَفَّف الله عن أمَتِهِ، والله رحيم. تتردَّد الرواية في صيغ مختلفة، وألطفها رواية للسدي تقول إن جبريل أتى أيوب وقال له: خذ مائة عود من أعواد سنابل القمح، واجمعها حزمةً، واضربْ بها رحمةً ضربةً واحدةً خفيفةً لطيفة، فتخلص من اليمين. في البداية والنهاية، يذكر ابن كثير واحدة من هذه القصص، ويضيف معلِّقًا: وهذا من الفرج والمخرج لِمَنِ اتَّقى الله وأطاعه، ولاسيَّما في حقِّ امرأته الصابرة المحتسبة، المكابدة الصدِّيقة، البارَّة الراشدة. وقد استعمل كثيرٌ من الفقهاء هذه الرخصة في باب الأيمان والنذور، وتوسَّع آخرون فيها حتى وضعوا كتاب الحيل في الخلاص من الأيمان، وصدَّروه بهذه الآية الكريمة، وأتوا فيه بأشياء من العجائب والغرائب. الفضَّة النقية تتكرَّر صورةُ أيوب أمام "المغتسل البارد" في نسخ قصص الأنبياء المزوَّقة. ففي مخطوط من محفوظات المكتبة الوطنية الفرنسية يعود إلى العام 1581، يظهر أيوب بجسمه السقيم أمام زوجته في حديقة تتوسَّطها شجرةٌ كبيرة، مما يعيد إلى الذاكرة صورةَ آدم وحواء في الجنة. وفي أعلى القسم الخلفي من المنمنمة، يقف جبريل على الطرف الأيمن، بينما يقف إبليس على الطرف المقابل، وكأنهما يتابعان من بعيد حوار أيوب مع زوجته.
أيوب وزوجته، قصص الأنبياء، 1581، المكتبة الوطنية الفرنسية. وفي مخطوط من مكتبة توپكاپي يعود إلى العام 1578، يظهر النبي وهو يستحم في العين، رافعًا ذراعيه في اتجاه ملاك يحمل له لباسًا جديدًا.
جبريل حاملاً حلَّة الجنة، قصص الأنبياء، 1578، مكتبة توپكاپي، اسطنبول. وفي رواية نقلها الشوكاني: دعا أيوب، فجاء جبريل وقال له: "قم." فقام، فنحَّاه عن مكانه وقال: "اركض برجلك هذا مغتسلٌ باردٌ وشراب." فركض برجله، فنبعت عين، فقال: "اغتسل." فاغتسل منها. ثم جاء أيضًا فقال: "اركض برجلك." فنبعت عينٌ أخرى، فقال له: "اشرب منها." وألبسه الله حلَّة من الجنَّة. وفي رواية السدي، أخذ جبريل بيد أيوب العليل [...] ومشى به نحو اثنتي عشرة خطوة وقال: "اركض برجلك اليسرى." فركض بها، فظهرت له عينُ ماء حار، ثم قال له: "اركض برجلك اليمنى." فركض بها، فظهرت له عينُ ماء بارد، فقال له جبريل: "اغتسل من الحار واشرب من البارد." فلما اغتسل وشرب، عاد إليه حسنُه وجمالُه، وصار جسدُه كالفضَّة النقية. ثم أتاه جبريل بحلَّة من الجنَّة وألبسه إياها وتوَّجه بتاج من الجنَّة، فصار أيوب يزهو كالشمس المضيئة. فعند ذلك صلَّى ركعتين شكرًا لله تعالى على نعمته ورضاه.
أيوب وجبريل، زبدة التواريخ، 1583، متحف الفنون التركية والإسلامية، اسطنبول. وفي مخطوط آخر من العام 1575، يعتمر أيوب تاج الإسلام، وهو العمامة البيضاء، ويجلس بلباسه الجديد أمام زوجته في حديقة مزهرة، بينما يقف جبريل في الجوار مراقبًا الحدث. وترفع المرأة يمناها في اتجاه النبي في حركة ترمز إلى فعل المخاطبة.
شفاء أيوب، قصص الأنبياء، 1575، مكتبة توپكاپي، اسطنبول. وتقول الرواية التي نقلها أهل الأخبار كلهم أن الزوجة عادت تحمل الطعام إلى زوجها السقيم، فلم تتعرف إليه وقد عاد إليه حسنُه وجمالُه، [...] فدعاها أيوب فقال: "ما تريدين، يا أمَة الله؟" فبكت وقالت: "أردتُ ذلك المبتلى الذي كان منبوذًا على الكناسة، لا أدري أضاع أم ما فعل؟" فقال أيوب: "ما كان منك؟" فبكت وقالت: "بعلي." قال: "فهل تعرفينه إذا رأيتِه؟" فقالت: "وهل يخفى على أحد رآه؟" ثم جعلت تنظر إليه وهي تهابه، ثم قالت: "أما أنَّه أشبه خلق الله بكَ إذ كان صحيحًا." قال: "فإنِّي أنا أيوب الذي أمرتِني أن أذبح لإبليس، وإنِّي أطعتُ الله وعصيتُ الشيطان، ودعوت الله سبحانه، فردَّ عليَّ ما ترين." *** *** ***
|
|
|