الإنسانُ المَرميُّ في الخضم

المطران جورج خضر

 

كثيرًا ما نتأفَّف من انهيار المجتمع حولنا، من غياب الدولة أو هزالة العائلة. أي منَّا يخشى على نفسه وعلى أولاده من السقوط العميم، من ظلم الدول للدول – فهذه كلها تلحق به لأنه يسبح في هذا البحر الهائج، وعسير عليه جدًّا أن يعزل نفسه عن العاصفة. هذا يذكِّرني بهياج المياه التي غرَّقتْ عشراتِ الآلاف في جنوبيِّ آسيا وشرقيِّها. ما عسى الذين كانوا تحت المياه يفعلون إلا أن يغرقوا؟!

غير أن الإنسان، مهما كان متصلاً بهذا العالم المضطرب بثورة الطبيعة وثورة الشعوب، ليس أسيرًا إلا لثورة شهواته فيه. إنه بجسده جزءٌ من آلية العالم، بعضٌ من العناصر الكونية، مذرى كالصوف عند النداف؛ ولكنه كذلك في جسده: أعصابه تحتمل أو لا تحتمل، لأن أعصابه تأتي من فكره، وفكرُه هادئ أو يهوج.

الإنسان وسط الهدير الرهيب قد يبقى صامتًا إذ يصغي إلى الكلمة الإلهية إذا كانت وحدها نفحته. الطبيعة ليست ماسكةً بالإنسان. هي محيطة به. وفي إيماننا أن التراب الذي نُرمى فيه بعد آخر رمق ما هو بممسك بنا؛ هو حافظ أجسادنا فقط، ونحن متجنِّحون على أجنحة الروح التي تنتظر القيامة.

ليس الإنسان كائنًا محتومًا لأن خياره حر: حر من هذا المختبر الخيميائي الذي هو جسدنا، حر من الأفلاك والأبراج إذا كان لها بعضٌ من تأثير عليه عند ولادته إذ وُلِدَ في إطارها. ومهما يكن من حقيقة هذا الأمر، فلسنا نحن مرتهنين له ارتهانًا إذ نتربَّى على ما هو أفعل في النفس في ما بعد ونتلقَّى – أحرارًا – تأثير العائلة وأثر المجتمع. فالعائلة لا تحتِّم علينا سلوكَنا كما يتحكم بنا الطعامُ أو الشرابُ في أجهزتنا البيولوجية. فتثور أنت على والد سيء أو أم سيئة، وترفض تمردهما على الرب، وتصبح خيرًا من أمك وأبيك. فمَن أكل الحصرم لا تضرس أسنانُ أولاده بالضرورة.

وأنت حر من الجنين الذي كنتَه منذ اللحظة الأولى من نشوئك. ما من شكٍّ في أن هناك طبائع تأتيك من وضع الجينات التي كانت فيك منذ البدء. قد يكون هناك تهيؤ لهذا النمو أو ذاك. وفي هذا يقول علماء الحياة بأن النمو يأخذ هذا الاتجاه أو ذاك بعد أن تنزل عليه مؤثراتٌ خارجية، فتتلاقى مع هذا الذي جيء إلى الإنسان من ذويه، أي من وضعهما عند الحمل. ولكن ليس في هذا حَتْمٌ أو قَدَرٌ بيولوجي.

* * *

كذلك ليس عند الله عسف. فلا يروقه إلاَّ أن تكون حسنًا، ولا يحدك بعناصر فيك، بيولوجية كانت أم پسيكولوجية بحيث تأتي مسخًا نفسانيًّا.

بعض الناس مسوخ عند الولادة. هذا من المختبر الخيميائي الذي هو جسدنا؛ والله ليس بالضرورة صانع عجائب كلَّ حين ليجعلك على صورة أخرى. هكذا تفاعلتْ مورثاتٌ فيك وجعلتك مسخًا. والله يتعامل مع المسوخ وينقذهم على طريقته، أي بما يراه مفيدًا لهم، ولا ينقذهم بالضرورة من هذا المرئيِّ الرهيب الذي لن نألفه. هناك أسئلة شرعية بسبب مما ننتظره من الوجود. هناك تساؤلات تُمليها العاطفةُ وليس عنها جواب.

وفي ما هو طبيعي، لماذا يأتي ولدٌ مفرط الذكاء ويأتي الآخرُ أبله أو نأتي جميعًا متفاوتين؟! محاولة جوابي أنْ ليس من فرق عند الله بين مفرط الذكاء وقليل الذكاء لأن الخلاص ليس بالذكاء، ولكنه بالقلب النقي. لماذا لا تكون الطبيعة كاملةً أو كل الناس متفوقين بالجمال والعقل وبهاء القداسة؟ ليس أحدٌ يعرف في ذلك حكمةَ الله. ولكن كلَّ شيء في هذه الخليقة يسير وكأن كلَّ واحد له وجهته وكل له نفعه. فكم يتأذَّى المرء من جماله ومن عظمة عقله عندما يستخدمهما للشر. ليس ما نحسبه حسنًا هو دائمًا حسن. إلى هذا، كم من معوَّق نبغوا أو ارتفعت أخلاقُهم وجَمُلَتْ نفوسُهم. أجل، هناك عقبات لنا نتخطاها وهناك عقبات لا نريد تخطِّيها. ومهما يكن من أمر، فـ"في السماء والأرض أسرار أعظم من أن تستوعبها فلسفتـ[ـنا] كلها" (شكسپير، هاملت).

الدنيا عاصفة. وقد نجا بعضٌ من الـ"تسونامي" الذي عصف ببعضٍ من أرضنا. لا أحد يعرف لماذا أو كيف نجوا! هناك دائمًا مَن ينجو من ظلم المجتمع أو تعسف الدولة أو من تذمر زوجته أو من خيانة الرجل. هناك مَن يخلص من السرطان ومن حوادث سير مريعة. أعرف إنسانًا كان نائمًا في سريره، وجاء جهازُ مخابرات وأطلق على وجهه عدة رصاصات ولم يُصَبْ بأذى! (ورأيت على صورة شمسية ثقوبَ الرصاص على وسادته بشكل دائرة.) لماذا لم تُصِبْ طلقةٌ واحدة؟ أهذا من غباوة المخابرات أم من رحمة الله؟! أم أن الرحمة الإلهية جعلت في هؤلاء الجنود غباوةً محمودة؟!

* * *

أخذت أقرأ منذ أيام مقاطع من شبلي الشميِّل، ولم أرَ مثل سخفه عندما كان يذكر الدين! كان رجلاً أميًّا في هذا الموضوع، وكأنه لم يقرأ في الدين شيئًا، أو كأنه أراد أن يصبح سجين الفكر الإلحادي المستورَد الذي ظنه غاية في الذكاء. وصرت أقرأ لهذا الرعيل الذي رافق الشميِّل. وهم يتفاوتون في الجهل، ونحن جعلناهم "روادًا" لكونهم تكلَّموا على الحرية والديموقراطية والاشتراكية وما إليها، ولم يستطيعوا أن يخرجوا من هذا الذي ظنوه في الفكر الفرنسي تفوقًا عقليًّا على البسطاء الأتقياء في بلدنا.

كان يكفي أن تقرأ بعض الكتب في اللغات الأجنبية لترى نفسك حصيفًا – وإذا بك مستكبر سطحي تدغدغك فلسفة هزيلة. لماذا تأتي هكذا تافهًا في بلاغة، وغيرك أعمق منك إنسانيًّا، ولو كان دونك قراءة. هناك تحزُّب عقلاني يبدو في هذه المرحلة أو تلك، وليس فيه تحرك وجداني عظيم. هاهنا أيضًا ليس عندنا شيء محتوم.

عندنا اليوم علماء كبار ملحدون – وقرأت لهم – ولكن عندنا علماء مؤمنون. لا يعرف أحد لماذا اعتنق بعضُهم الكفر واعتنق بعضُهم الإيمان. لا أحد يعرف تحرُّك العقل؛ فهو ليس محتومًا. نحن نؤمن أن المؤمن تنزل عليه نعمةُ ربه. والنعمة حرة بحرية الله. وستبقى هذه الدنيا على حريتها في اختيار الجحود وفي اختيار اليقين الإلهي.

لكن المؤمن مهيأ لرؤية الخطأ ورؤية القباحات وهبوب رياح عاصفة في مجتمعه ودولته والحياة السياسية كلِّها. وقد نهبط إلى أسفل دركات الممكن. وأحيانًا نقارن. غير أن العارفين بالأمور يقولون لنا إن العنف ساد العصورَ كلَّها؛ وما من شك في أن عدد السنين التي كان العالمُ فيها في حروب أضخم بكثير من تلك التي عمَّ فيها السلام. وحِسْباني أن الأمانة الزوجية كانت في عصر أدركتْه عادةٌ اجتماعيةٌ راسخةٌ قائمةٌ على قناعة دينية أكثر من قيامها على حبٍّ زوجيٍّ لاهب.

ولعل الخوف في مجال هذه الفضيلة وتلك هو الذي يفسِّر بقاءَ الناس على الفضيلة. لكن الأشرار كانوا دائمًا، والضعفاء والخائفين من العقاب كذلك، والله كان عندهم المعاقِب الأكبر. وفي جوٍّ كهذا يكون الدين خفيفًا والبِرُّ ظاهريًّا. يبقى أنْ ليس من تفسير واحد آحادي لكلِّ ما يظهر وأننا قادرون على أن ننشأ كلَّ يوم خلائق جديدة، غير مصبوبين من مورِّثات، ولا محكومين من نجم، ولا من عادات في الطفولة ألِفْناها تقيِّدنا إلى النَّفَس الأخير.

* * *

الإنسانُ حرية. وأن يكون جالسًا في السماء إلهٌ يحمل سجلاًّ يعيِّن فيه متعسفًا مَن يخلص ومَن لا يخلص ضربٌ من الحماقة عندنا لا بعدها حماقة! وأن تكون من طائفة "الناجين" أو من طائفة "الهالكين" لأن أمَّك ولدتْك على ملَّة من الملل هو أشد ما وصل إليه الإنسانُ من عبودية للنصوص أو من تفسير أحمق لها. لا شيء حتميًّا يصل بك إلى السماء أو الجنة أو يصل بك إلى جهنم النار. فقد تكون على بهاء الله أنَّى تكون، ولا يحتاج الله إلى دين يجعلك عليه لتنجو. فهو يأخذ أحبَّاءه إلى الملكوت لأنه استطاب وجوههم – ووجوههم من البر الذي في نفوسهم. فليس أحد معيَّنًا سلفًا لمصير أبدي، ولا يدخل أحد باب الملكوت بسبب من جهد، مهما كان عظيمًا؛ ولكنا داخلون بسبب من الرحمة فقط. وهذا تعليم آبائنا بلا منازع.

وأنت تنجو في العاصفة من العاصفة كما تنجو من تخبطات نفسك ومن دولتك وعائلتك وبيئتك. أنت تنجو فقط بمحبتك. وهي فيك القوة التي توحي إليك أنك لا تأتي من عمى الأقدار، ولكن من رأفات ربِّك.

*** *** ***

عن النهار، السبت 29 كانون الثاني 2005

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود