|
لبنان
بين تعدُّدية المجتمع ووحدة الدَّولة[1] I أنواع
التعددية لا بدَّ لأية
فلسفة اجتماعية أو سياسية – بل لكلِّ فلسفة
عمومًا، سواء كانت في الدين أم في العلم أم في
الأخلاق أم في غير ذلك – من مفهومين جوهريين
هما التعدد والوحدة. وقد دارت فلسفة
أفلاطون – وهي الأصل الأقدم للفلسفات
اللاحقة في الدين والعلم والأخلاق والفن
والاجتماع والسياسة كلِّها – على هذين
المفهومين. وجاء أفلاطون بـ"نظرية المُثُل"
التي تجد مصدر الكثرة ومآلها ومعناها في مبدأ
مركزي أطلق عليه أسماء مختلفة، لكنها ذات
مدلول واحد في نظره، هي: الخير، الجمال، الحق،
الله... ومادمنا في صدد
الفلسفة الاجتماعية، فلنتناول مفهوم التعدد
أولاً، ثم مفهوم الوحدة في خصوص المجتمع. في كلِّ مجتمع
أنواعٌ من التعدد أو التنوع. هناك، مثلاً،
تنوع في العلم والمستوى التربوي. فحتى في
حال إلزامية التعليم، نجد أفرادًا يتابعون
الدراسة الجامعية وآخرين لا يفعلون؛ كما نجد
فئاتٍ يذهب أفرادُها إلى معاهد مهنية. وفي
كلتا الدراستين، الجامعية والمهنية، تنوعات
وتشعبات كثيرة. وربما غَصَّتْ مجتمعاتٌ معينة
ببعض ذوي المهن، كالأطباء والمهندسين
والمحامين، فبات بعضُهم يسعى إلى أعمال أخرى
أو إلى البحث عن عمل خارج مجتمعاتهم. وتقيم
بعض المجتمعات تمييزًا بين "ذوي الياقات
البيضاء"، أي العاملين وراء مكاتبهم أو
العاملين بقدراتهم العلمية، وبين "ذوي
الياقات الزرقاء"، أي العاملين في المصانع
والممارسين أعمالاً تنفيذية عمومًا، لا
تحتاج إلى درجات جامعية عليا أو مهارات ذهنية
مميزة. هناك أيضًا
تنوع في الطبقات الاجتماعية، مثل طبقة
الأرستقراطيين أو البرجوازيين، والطبقة
الوسطى، والطبقة الدنيا. وفي القديم، كانت
هناك طبقة العبيد، في نُظُم اجتماعية تقبل
بالعبودية، أي شراء الناس وبيعهم وتسخيرهم
للأعمال الشاقة أو التي يترفَّع عنها أبناءُ
المجتمع من أية طبقة كانوا. ومع أن الوضعين
الطبقي والمالي مرتبطان على وجه العموم، إلا
أن هناك استثناءات: فرُبَّ عائلة تحمل لقب شرف
عَرَفَ أفرادُها الفقر في أحوال معينة؛
ورُبَّ عائلة من الطبقات الدنيا حقَّق بعضُ
أفرادها غنًى ماديًّا كبيرًا (وقد يكون هذا
الغنى أحيانًا سببًا في تدرُّج العائلة، أو
فرع منها، إلى طبقة اجتماعية أعلى). وما يزال
الواقع الطبقي على أشُدِّه في بلدان مثل
الهند، حيث يرتبط ارتباطًا حميمًا بالعقائد
الدينية الهندوسية. وإذا انتقلنا
إلى التعدد العرقي، لوجدنا في معظم بلدان
شمال أفريقيا عنصرين طاغيين هما العربي
والبربري؛ وفي العراق عناصر عدة، كالعربي
والكردي والتركماني. وفي لبنان نجد أعراقًا
عربية وسريانية وأرمنية وغير ذلك. كما نجد هذا
التنوع العرقي في بلدان أوروبية مثل بريطانيا
وفرنسا وإسبانيا. والغالب أن تكون لكلِّ عرق
لغتُه، مثل الأمازيغية والكردية والسريانية
والغالية والباسكية. ومن أقوى وجوه الواقع
العرقي ضعف هذه اللغات أمام اللغة المركزية
الجامعة، كالعربية والإنكليزية والفرنسية
والإسبانية. ولطالما كان الصراع العرقي في
المجتمعات دافعًا إلى حركات انفصالية وحروب
أهلية. أما التعدد
الديني والمذهبي، فهو واقع مجتمعات كثيرة
جدًّا حول العالم. فهناك تعدد إسلامي–مسيحي
في بعض البلدان العربية والأفريقية وسواها،
وتعدد بوذي–مسيحي في بعض بلدان جنوب شرق
آسيا، وتعدد هندوسي–سيخي–إسلامي–مسيحي في
شبه القارة الهندية، ناهيك عن التعدديات
المذهبية ضمن المسيحية الأوروبية وغير
الأوروبية، وضمن الإسلام العربي وغير
العربي، وضمن البوذية اليابانية وغير
اليابانية، وناهيك بالأديان المسمَّاة "بدائية"
التي ما تزال منتشرةً بين قبائل أفريقيا
وأستراليا وأمريكا الجنوبية وسواها. وعلى
غرار التعدد العرقي، طالما أدى التعدد الديني
أو المذهبي في المجتمع الواحد إلى حروب أهلية
كانت من أعنف الحروب في تاريخ الجنس البشري.
والصراعات الدموية التي نشأت بين الكاثوليك
والپروتستانت، خصوصًا في فرنسا وألمانيا
خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، أمثلة
صارخة على هذا الأمر؛ وكذا الصراع بين
الهندوسية والإسلام الهندي الذي أدَّى إلى
نشوء پاكستان "الغربية" وپاكستان "الشرقية"،
وهي بنغلادش لاحقًا. تبقى أنواع
كثيرة من التعدد، لعل أبرزها التعدد
السياسي. ونجد حول العالم نُظُمًا سياسية
مختلفة، كالجمهوري والوزاري والاستشاري
والملكي المطلق والملكي الدستوري. ويزخر
القاموس السياسي بمصطلحات، قد يكون أحبَّها
إلى الحكام والمحكومين جميعًا مصطلحُ "الديمقراطية"،
وإنْ فسَّرْته كل مجموعة على هواها. ومن
المفاهيم السياسية–الاقتصادية مفهوم "اليمين
الرأسمالي" و"اليسار الاشتراكي"؛
ومنها في الآونة الأخيرة "النظام العالمي
الجديد" و"العولمة". وهناك أنظمة
سياسية تتيح قيام أحزاب وتكتلات، وأنظمة أخرى
تَمنع نشوء بعض الأحزاب أو تتقيد بالحزب
الواحد. وقد عَرفت بعض الأنظمة العربية
أحزابًا قومية، دينية أو عَلمانية، وأحزابًا
إصلاحية، وأحزابًا كانت تميل ذات اليمين أو
ذات اليسار، فيما طغى على العالم العربي
عمومًا نظامُ الحزب الواحد التوتاليتاري
الذي يختلط فيه السياسي والديني أحيانًا
كثيرة. لكن هَبْ أنَّ
بعض أنواع التعددية، مع ما يرافقها من مشكلات
وصراعات، كانت عديمة الوجود في مجتمع أو آخر؛
هَبْ أنَّ أبناء مجتمع معين كانوا كلهم من عرق
واحد – وهذا شبه مستحيل عمليًّا، إلا إذا
انحرفنا بمفهوم المجتمع عن معناه المقبول –؛
أو هَبْ أنهم كانوا كلهم من دين واحد أو مذهب
واحد – وهذا ممكن إذا أخذنا الانتماء بمدلوله
الاسمي –؛ فلا يتوهَّمنَّ أحدٌ أن التعددية
تزول إذ ذاك من المجتمع، لأنه مع هذا كلِّه،
يبقى للتعددية معنى راسخ لا يمكن لشيء أن
يزيله، هو المعنى العددي[3].
هكذا، فكل مجتمع تعددي، شاء أم أبى؛ وسوف يبقى
على الدوام، وتحت الظروف كلِّها، تعدديًّا،
شاء أم أبى، بمعنى تكوُّنه من أفراد، أي من
عدد. قد يكون هذا المجتمع عربيًّا خالصًا أو
كرديًّا خالصًا، مسيحيًّا خالصًا أو مسلمًا
خالصًا، سُنيًّا خالصًا أو شيعيًّا خالصًا،
لكن هذا "النقاء" العرقي أو الديني لن
يزيل عنه البتَّة سمة التعددية. التعددية
بالمعنى العددي، إذن، هي واقع كلِّ مجتمع.
وهذا هو المعنى الأصيل والأقوى لمفهوم
التعددية الاجتماعية، حيث تبقى التعدديةُ
قائمةً تحت الظروف كلِّها، ويتعذر مَحْوُها
أو تبديلها أو تعديلها. ويجدر بجميع
المنظِّرين في الاجتماع والسياسة والفلسفة
والدين إدراكُ هذه الحقيقة البديهية. وهذا
الإدراك يَستتبع أخذَ الحقيقة المذكورة في
الاعتبار من جانب المخطِّطين والمنفِّذين
والعاملين في إدارة شؤون المجتمع جميعًا. II أنواع
الوحدة لكن التعدد لا
يمكن له، ولا يجوز، أن يبقى منفلتًا من كلِّ
تنظيم أو توحيد. وما المعارف والعلوم والنظُم
المختلفة التي توصَّل إليها الإنسانُ سوى
محاولات لاكتشاف مبادئ تتوحد حولها الظواهر.
لماذا توضع ظواهر متعددة تحت اسم واحد، مثل:
جيولوجي، بيولوجي، فيزيائي، علمي، سياسي،
ديني، فنِّي، هندي، ياباني، أمريكي، فرنسي،
عربي، صيني، بوذي، مسيحي، مسلم، كاثوليكي،
أرثوذكسي، سنِّي، شيعي، ديموقراطي، جمهوري،
شيوعي، اشتراكي، إلخ؟ أليس لأن ثمة حالات
تتشابه، على تعددها وتبايُنها، في خصائص
معينة؟ لو كان واقع الأشياء واقع تعدد مطلق،
لأدَّى هذا إلى التهافت وانغلاق أبواب الفهم
والتفاهم بين الناس! ثمة حاجة، إذن،
إلى اكتشاف مبادئ نظام أو وحدة في مختلف
ظواهر الوجود، وأحيانًا إلى افتراض
مبادئ من هذا النوع، أو حتى فرضها على بعض
الظواهر. وأكتفي بمثالين عن هذه الوحدة، هما الشخصية
على الصعيد الفردي والدولة على الصعيد
الاجتماعي[4]. في تجربة كلِّ
فرد تعددية هائلة، تتعاقب فيها تياراتُ
الزمان والمكان والأشخاص والظروف والحالات.
وفي غياب عملية تنظيمية تضبط هذا التعدد في
وحدات معينة، من الطبيعي جدًّا أن يصاب
الفردُ الذي تحصل له التجاربُ بالتهافُت
النفسي. والكثير من الأزمات النفسية التي
يعانيها بعض الأفراد ترتبط بالعجز عن
تبنِّيهم أو ابتكارهم "قوانين توحيدية"
من شأنها حفظ خبراتهم المتنوعة ضمن مبادئ
تنتظمها أو توحِّدها. إن الذين
يطلقون العنان لتجارب الحياة تتقاذفهم من غير
أن يتوقفوا بين الحين والآخر للتأمل فيها
والبحث عن معناها يشبهون قومًا قال فيهم
الشاعر تي.إس. إليوت: "كانت لنا التجربة لكن
فاتَنا المعنى"[5].
هذا المعنى هو بالذات ما نقصده بالوحدة أو بـالمبدأ
التوحيدي. وهو، بالنسبة إلى الأفراد، ذو
مصادر متنوعة: فبعضهم يستمدُّه من انتمائه الديني،
وبعضهم من انتمائه السياسي، وبعضهم من
انتمائه الفكري، فيما يستمده آخرون من تأملاتهم
ومواقفهم الشخصية. حتى الذين ينادون
بالعَبَث يرون في هذه العبثية أو اللامعنى
نوعًا من المعنى. وبعضهم ممَّن يجد معاني
عظيمة للحياة مستمَدَّة من مصدر دينيٍّ أو
اجتماعي أو إنساني قد يَفقد المعنى على أثر
خبرات معينة، مثل الموت أو خيبة الأمل. وإذ
يجد الفرد نفسه متروكًا وسط تعددية هائلة من
التجارب لا ينتظمُها أو يربط بينها أي رابط
معنوي، فهو قد يلجأ إلى حلول مثل الانتحار
هربًا من مأزق لا طاقة له على احتماله. وفي
علمَي النفس والاجتماع، والعلوم السلوكية
عمومًا، دراساتٌ كثيرة لظاهرة الانتحار،
حَدَّدتْ أحيانًا دوافع هذه الظاهرة في فَقْد
المعنى أكثر من تحديدها في اللامعنى. وإذا كانت
الشخصية مبدأ الوحدة على الصعيد الفردي،
فالدولة هي مبدأ الوحدة على الصعيد الاجتماعي.
بين الأمثلة التي سُقناها على التنوع أو
التعدد الاجتماعي، ذكرنا التعدد الطبقي
والعرقي والديني والسياسي. لكن كما في حال
النفس البشرية، لا بدَّ من أن يؤدي التعدد
المطلق، أي ذاك الذي لا توحِّده مبادئ معينة،
إلى فوضى أو تهافُت على الصعيد الاجتماعي.
وهذا واقع بعض المجتمعات، حيث الأعراق
المختلفة أو الأديان المختلفة أو المذاهب
المختلفة أو الأحزاب والتكتلات السياسية
المختلفة أقوى من الدولة. ولطالما حاولتْ
إحدى هذه الفئات أن تكون "دولة في قلب
الدولة"، أحيانًا بهدف فرض المبدأ
التوحيدي الذي يلائمها؛ ولطالما حصل، باسم
الديموقراطية أو مفهوم الأكثرية، تغليبُ عرق
على بقية الأعراق، أو دين على بقية الأديان،
أو مذهب على بقية المذاهب، بهدف بثِّ الوحدة
في مجتمع معين. وليس من النادر تحقيق التوحيد
السياسي عِبْرَ اعتماد نظام الحزب الواحد، أي
حزب السلطة، وحظْر كلِّ حزب آخر، مع ما يستتبع
ذلك من هيمنة "رسمية" على الإعلام
والتعليم والجمعيات الأهلية والمرافق
الاجتماعية كلِّها. لكنْ في أنظمة سياسية
أخرى يتم التوحيد على أساس تأمين الحرية
والعدالة والمساواة للجميع، من غير إقصاء
أية فئة، عرقية أو دينية أو مذهبية أو سياسية
أو سواها، عن جسم الدولة. يمكن للوحدة
الاجتماعية أن تتحقق، إذًا، وفق نمطين
رئيسيين: أحدهما يقوم على اقتطاع عنصر معين من
عناصر التعددية الاجتماعية وبناء قاعدة
الحكم عليه. وغالبًا ما يحصل هذا الاقتطاع على
أساس أغلبية ما: عرقية أو دينية أو مذهبية أو
سياسية. لكن إحدى الأقلِّيات قد تتولَّى
السلطة أحيانًا وتفرض إرادتَها على الأكثرية.
ولئن كان هذا النوع من التوحيد – خصوصًا ذاك
الذي تبادِر إليه إحدى فئات المجتمع بحُكم
تفوقها العددي عرقيًّا أو دينيًّا أو
سياسيًّا – أبسطَ الأنواع وأكثرها مباشَرةً،
إلا أنه ليس أفضل أنواع التوحيد على الإطلاق؛
فهو يبقى بعيدًا عن هدف تحقيق العدالة، مهما
حاولت الفئة "الغالبة" وضع الفئات
الأخرى "في ذمَّتها" وادَّعتِ "التسامح"
في معاملتها. فالتسامح، في مفهوم كهذا، ناقص
جدًّا، بل مشوَّه، إذ يرتكز إلى أن صاحب القوة
أو الغلبة أو السلطة وحده في الحق أو في الحق
الكامل، وأنه "يتساهل" مع سواه ممَّن هم
في "بعض" الحق أو حتى في "انحراف"
عنه، لأن مبادئه، الدينية أو سواها، تملي
عليه "الشهامة" تجاه الآخرين أو أخْذهم
بمبدأ "العفو عند المقدرة"[6]. النمط الآخر من
التوحيد هو ذاك الذي تتحقق فيه الوحدة
الاجتماعية لا على حساب التنوع أو عبر طمس
التنوع أو إضعافه، بل وسط التنوع أو ضمن
التنوع. هذا يَستبعد أن تكون أداة التوحيد
واحدًا من عناصر التنوع. ومادمنا نتكلم على
الوحدة الاجتماعية التي تجسِّدها الدولة،
فهذا النمط التوحيدي يقضي بأن تكون الدولة آلة
إدارية، لا داعية عقيدة[7]،
لأنها إذا تبنَّت عقيدةً دينية بعينها (مسيحية
مثلاً) فَقدت ولاءَ غير المسيحيين، وإذا
تبنَّت عقيدةً إسلامية فَقدت ولاء غير
المسلمين؛ وهكذا إذا تبنَّت عقيدة سياسية،
شيوعية مثلاً أو قومية من فئة معينة. وظيفة
الدولة أن تستوعب تعددية المجتمع من غير أن
تطمسها أو أن تُبرِزَ فئة، مهما غلبت
عدديًّا، على سواها. وحتى في حال انتماء جميع
أفراد المجتمع اسميًّا إلى مذهب دينيٍّ واحد،
يجب أن تحقق الدولة وحدة المجتمع على أساس
تعدديته بالمعنى العددي الذي هو، كما قلنا،
المعنى الأصلي للتعدد. فالإكراه لا يجوز، إنْ
في الإيمان وإنْ في التفسير الديني وإنْ في
الموقف من العلاقة بين السياسة والدين. هذا النمط من
الوحدة الاجتماعية أو من النظام السياسي الذي
نزكِّيه، إذن، – وهو الوحدة في التنوع –
يهدف إلى بثِّ النظام والانسجام في الجسم
الاجتماعي. وفي غيابه تتنافر تعدديات المجتمع
وتتصارع، ويغيب السلام والأمن الاجتماعيان،
لتَبرز الفوضى والحروب الأهلية، الدينية
والعرقية وسواها. ولعل من الصعوبة القبضَ على
هذا النوع من الوحدة ومحاولة تحديده وتسميته؛
فهو نوع من وحدة الجوهر أو الروح وسط تنوع
المظاهر واختلاف الأسماء. وعندما حاول
الفيلسوف البريطاني جون لوك تحديد هذا
العنصر، قال إن "الجوهر شيء غامض يحمل
الأعراض"[8].
ولئن آثَر ديڤيد هيوم الاكتفاء بالأعراض،
أي بالتعددية المطلقة، والاستغناء عن الجوهر
الذي يوحِّدها وعن غموضه، خصوصًا لأن هذا
الجوهر لا يتكشف للحواس، وهي السبيل الوحيد
إلى المعرفة لدى هيوم، إلا أن جورج باركلي –
وهو أحد التجريبيين البريطانيين – كان قد
جَعل من مفهوم "الجوهر" لبَّ فكره،
موضحًا أن هذا الجوهر، حتى في خصوص الأشياء
المادِّية، هو حقيقة روحية. ثم انبرى
الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ليعترف
بفضل هيوم عليه في إيقاظه من "سُباته
العقائدي" لجهة عدم القدرة على البرهان
التجريبي الحسِّي عن حقائق من نوع الجوهر
وقانون السببية والانتظام الطبيعي، لكنْ
ليشدِّد، في الوقت نفسه، على تعذر قيام أيِّ
علم، وحتى أي سلوك عملي، بعيدًا عن هذه
المفاهيم التي لا بدَّ من افتراضها أو فرضها،
باسم البديهة العقلية، على الوجود. III بيت
من زجاج! رأينا أن أيَّ
تعدد من دون وحدة هو اختلال في طبيعة الأشياء،
وأن أية وحدة من دون تعدد هي هكذا أيضًا؛ كما
رأينا أن الوحدة التي تحصل على حساب التعدد هي
وحدة تعسفية تُجافي، على صعيد الاجتماع
البشري، المبادئ والقيم الأساسية لهذا
الاجتماع، وهي الحرية والعدالة والمساواة.
أما الوحدة المنشودة فهي الوحدة في التعدد.
وهذا أشبه بوحدة الجوهر أو الروح أو المعنى
وسط تعدد المظاهر والأسماء. وإذا كان التوصل
إلى هذا النوع من الوحدة أشبه بتحقيق "المدينة
الفاضلة" أو الدولة المثالية، فلا شك أن
رقيَّ الأنظمة السياسية يقاس باقترابها من
هذا المثال. الآن، إذا
نظرنا إلى المجتمع اللبناني عشيَّة الحرب
الأهلية (1975)، لوَجَدنا، في لبنان ومحيطه
العربي، نموذجَين لاختلال نظام الحكم ونأْيه
عما سميناه رقيًّا سياسيًّا. النموذج العربي
خارج لبنان كان يجسِّد، إلى حدٍّ أو آخر،
الوحدة التعسفية المفروضة قسرًا على حساب
التنوع. ففي العراق، مثلاً، غلبةٌ للمذهب
السنِّي على بقية المذاهب، ولمنطقة من البلاد
(تأتي منها الطبقة الحاكمة) على بقية المناطق،
ولعرق (العربي) على بقية الأعراق (الأكراد
وسواهم)، ولحزب واحد هو "حزب البعث العربي
الاشتراكي" على بقية الأحزاب التي لم تتمكن
من العمل إلا سرًّا أو في المنفى. غني عن القول
إنه، في نظام كهذا، يغدو القمع سيِّد
الأحكام، حيث التصفية هي الحل الأقوى في يد
السلطة للحفاظ على "الوحدة". والمؤسف أن
بعض ردود الفعل التي يشهدها العراق اليوم
تمثِّل تبادلاً للأدوار بين القاهر والمقهور
ضمن النهج الملتوي عينه[9]. ولئن عَرفت
سورية ومصر فتراتٍ من اللبرالية
والديموقراطية بتأثير من الغرب، الاستعماري
وغير الاستعماري، إلا أن الأنظمة العربية، من
سورية إلى الجزيرة إلى مصر إلى ليبيا إلى
الجزائر إلى المغرب، اتَّسمت عمومًا بالسعي
إلى الوحدة على حساب التعدد السياسي و/أو
العرقي و/أو الديني و/أو المذهبي. وهذا أدَّى
– وما يزال يؤدي – إلى حالات كثيرة من القمع
والقهر والاضطهاد والسجن والإقامة الجبرية
والنفي والاغتيال وأحكام الإعدام الجائرة
وغير ذلك من انتهاك حقوق الإنسان. وفي عقود
الخمسينيات والستينيات وبعض السبعينيات،
أدَّى إلى انقلابات عسكرية لم يكن فيها
المنتصر أفضل من المنكسر بالنظر إلى الهيمنة
التعسفية. كما حمل بعض الأفراد والفئات على
الانكفاء أو الهجرة أو اللجوء السياسي، مع
تأسيس معارضة في الخارج أحيانًا. وقد لا تكون
برامج بعض الفئات المعارِضة أفضل حالاً من
الفئة الحاكمة حيال اعتماد مبدأ الوحدة في
التنوع. أما في لبنان،
فكان الاختلال آتيًا من الجهة المضادة، أي من
التعددية الهائلة التي لا يربطها بين عناصرها
رابطٌ أو يوحِّدها مبدأ معين. كلُّ شيء في
لبنان كانت تسيِّره الطوائف، وما برحت
تسيِّره الطوائف إلى حدٍّ بعيد، هو حد انعدام
الولاء الوطني العام وإعلاء الولاء المذهبي
فوق كلِّ ما عداه. على سبيل المثال، التعليم
كان في أيدي الجمعيات الطائفية، التي تربِّي
الأجيال الطالعة وفق تطلعات وقيم ومواقف
متنافرة، بحيث لا تَجمع بين أفرادها نظرةٌ
واحدة إلى الوطن والعالم والإنسان. وعندما
وَجد بعض المنظِّرين توليفةً موفَّقة في
توحيد كتاب التاريخ، صَدَرَ هذا الكتاب بعد
جهد جهيد، بمساومة من هنا ومساومة من هناك،
حتى لفظتْه المطابعُ ميتًا في نهاية المطاف! وبلغت الطائفية
اللبنانية ذروتها في الإطباق على المرافق
والوظائف كلِّها. وراح معظم مَن يُسمَّون "رؤساء
طوائف" يدافعون عما يعتبرونه حقوقًا أصيلة
أو مكتسَبة لمن انتمى اسميًّا إلى طوائفهم (أو
بالأحرى "عشائرهم") في الحصول على هذه
الوظيفة أو تلك. ومع الوقت، قويت التجمعات
الطائفية حتى كسفت المجتمع الواحد وكوَّن
كلٌّ منها مجتمعًا. وراجت في الحرب الأهلية،
وفي أعقابها، مقولاتٌ من نوع "المجتمع
المسيحي" و"المجتمع الإسلامي" و"المقاومة
الإسلامية". وإذ راحت بعض الفئات المسيحية،
انطلاقًا من شعورها بالتقلص العددي، تعزِّز
مفهوم التعددية، وَجدت بعض الفئات الأخرى،
المتفوقة عددًا، في هذا المفهوم ما يعارض
مصالحها. ولعلها كانت تتوق إلى فرض نموذج
الوحدة التعسفية التوتاليتارية على لبنان،
أسوةً بالأنظمة التي تُلهِمها وتُمِدُّها
بالعَون. ومع خمود نار
الحروب الأهلية، غدا مصطلح "التعددية"
أكثر مدعاةً إلى القبول من فئات رفضتْه
سابقًا. لكن في غياب دراسات علمية رصينة،
فلسفية وسلوكية وسياسية ودينية وغيرها، لهذا
المصطلح ومعانيه، التي قد تكون مختلفة كثيرًا
فيما بينها تبعًا للمجموعة المذهبية أو
السياسية التي تستعمله وللدوافع إلى قبوله
بعد رفض طويل، لا يجوز البتَّة الاطمئنان إلى
أن جميع هذه الفئات باتت تتبنَّى مفهوم
الوحدة في التنوع. وبالعودة إلى
عشيَّة 1975، نجد أن الدولة كانت مرآة للتعدد
الاجتماعي، خصوصًا المذهبي، بدلاً من أن تكون
منارة للوحدة. وبما أن التعدد من غير وحدة
يؤدي إلى التهافت، فقد حصل هذا فعلاً، وكانت
أقسى نتائجه الحرب الأهلية. من هنا لا أوافق
الذين يكتفون بتسمية هذه الحرب "حرب
الآخرين على أرض لبنان". صحيح أن هؤلاء "الآخرين"،
من أنظمة عربية وغير عربية وقوى كبرى،
موَّلوا وسلَّحوا ودرَّبوا وحرَّضوا، لكنهم
فعلوا هذا كلَّه مع فئات لبنانية، مستغلِّين
هذه التعددية المطلقة بالذات – وهي التعددية
التي لا يربط بين عناصرها رابط قوي – لتأجيج
التناقض والتنافر والصدام، والسعي أحيانًا
إلى الهيمنة، أي إلى تحقيق وحدة تعسفية عبر
فرض أحد عناصر التعدد على المجتمع بأسره. إن مَثَل
المكتفين بمقولة "حرب الآخرين على أرض
لبنان" كمثَل القائلين بأن لوحًا من الزجاج
كُسِرَ لأن حجرًا أصابه! بديهي أن هذا التفسير
جزئي وخاطئ: فانكسار الزجاج لا يفسِّره
العاملُ الخارجي فقط – وهو الحجر –، بل
تفسِّره أيضًا، على وجه الخصوص، طبيعةُ
الزجاج، أي "زجاجيَّته" أو قابليته
للانكسار. لقد كان لبنان عشيَّة الحرب
الأهلية – وما يزال إلى حدٍّ بعيد جدًّا –
أشبه ببيت من زجاج. ولو كان هذا البيت من حجر
أو من حديد لما كُسِرَ بهذه السهولة أو لما
كُسِرَ أبدًا. وقد أحسنَ بعض علماء الاجتماع
عندما وصفوا المجتمع اللبناني بأنه "فسيفسائي"
أكثر منه تعدديًّا[10]،
لأن "الفسيفسائية" تشير إلى تعددية
مطلقة، في حين أن التعددية السليمة تنطوي
على مفاهيم النظام والانسجام والوحدة. IV الدين
والقومية اليوم يجد
اللبنانيون أنفسهم معلَّقين بين عالمين:
أحدهما مات والآخر لم يولد بعد. التحدي هو
الآتي: كيف تتحقق الوحدة ويبقى التعدد؟ كيف
نصون التعدديات ونجعل منها عامل استقرار
بدلاً من أن تكون عامل فوضى وصِدام؟ ما هو
نموذج الحكم المنشود الذي تكون فيه الدولة
وحدة وسط التنوع؟ لنأخذ نقطة
انطلاقنا من العامل الطائفي، بما أن له اليد
الطولى على صعيد السياسة والوظيفة والشأن
العام في لبنان. ما هو شكل الحكم اللبناني
الكفيل بتحقيق الوحدة وسط تنوع الأديان
والمذاهب؟ طبعًا، كلامنا على وحدة في التنوع
يستثني أن تتولَّى طائفةٌ معينة عمليةَ
التوحيد باسم تفوقها العددي وبما يخدم
مصالحها الشكلية. ومن الخطأ الفادح أن يظن
بعضُهم، من مسلمين في معظم الأحيان ومن
مسيحيين أحيانًا، أن المسيحية لا تَرفع
تحديًّا حقيقيًّا في وجه قيام دولة إسلامية
في لبنان لأن المسيحية، بحسب ظنِّهم، دين
يحصر اهتمامه بالآخرة، وليس دينًا ودولة
كالإسلام[11].
إن المسيحية والإسلام، وكذلك اليهودية
والهندوسية والبوذية والزرادشتية
والكونفوشية، وكلَّ دين بلا استثناء، هو،
بمعنى عميق جدًّا، "دين ودولة" في آنٍ
معًا. فالدين نظرة إيمانية شاملة إلى الوجود،
تتناول كلَّ شيء في حياة الإنسان، بما في ذلك
المجتمع والسياسة والدولة، ولا تُبقي شيئًا
خارجًا. ولئن أعلنتِ
المسيحيةُ تمسُّكها بالسماويَّات في قولها:
"ليس لنا هنا مدينة باقية"[12]،
فالإسلام يؤكِّد هذا الإعلان عِبْرَ قوله بأن
"الآخرة خيرٌ وأبقى"[13].
وهذا مصداق لقول المسيح: "مملكتي ليست من
هذا العالم"[14]،
الذي ينتزعه بعضُهم من سياقه ويدعمونه بقول
آخر للمسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله
لله"[15]،
ليستنتجوا – خطأً – أن المسيحية غير
مَعنيَّة بهذا العالم. والأحرى أن المسيحية
والإسلام والأديان كلَّها "ليست من هذا
العالم"، بل هي من السماء أو من الله، لكنها
وُجِدَتْ لهذا العالم أو من أجله، كي
تحوِّله، بل تعيده، كما تستوجب النظرةُ
الإيمانية، إلى ملكوت أو مُلك لله، عبر
الوسائل الممكنة كلِّها، بما فيها سياسة
المجتمع وإدارة الدولة ونظام الحكم. لكن إذا كانت
المسيحية دينًا ودولة، والإسلام دينًا
ودولة، واليهودية دينًا ودولة، والهندوسية
دينًا ودولة، والبوذية دينًا ودولة، وكان كل
دين، بمعنًى ما، دينًا ودولة، فلأيِّ دين
تحقُّ سلطةُ الحكم في مجتمع ما؟ إلى حدِّ
كلامنا على لبنان، حيث لا أكثرية غالبة
مذهبيًّا في قوة، من غير العدل أن يكون لمذهب
بعينه الكلمةُ الفصل في الحكم. لكنْ وإنْ كان
لبنان، أو غير لبنان، من غالبية مذهبية
معينة، وحتى لو انتمى المواطنون إلى مذهب
واحد بعينه، يبقى الحكمُ الديني غير مستحَبٍّ
نظرًا لتَعدُّد التفسيرات والاجتهادات
والمذاهب الفقهية، ولأن الإيمان لا يُفرَض
بقوانين، ولأن الحكم باسم الله يتولاَّه بشرٌ
لهم حدودهم وأهواؤهم ومصالحهم. وفي كلِّ مكان
عَرَف الحكمَ الديني – كائنًا ما كان اسم
الدين – تزخر صفحاتُ التاريخ بأخبار حكَّام
رَوَّعوا شعوبَهم وشعوبًا أخرى وقمعوها
واضطهدوها باسم الدين وتفسيراته "القويمة"،
وبأخبار حركات "تصحيحية" انقلب فيها
حاكمٌ على آخر دمويًّا، وحصلت كلها تحت شعار
"الخط القويم"! وأتذكر هنا قولاً
للفيلسوف الألماني لودڤِغ فويرباخ: "حيثما
أُقيمَ الحقُّ على السلطة الإلهية، يمكن
تبرير أشد الأمور سوءًا وظلمًا"[16].
وإذا كان الحكم باسم الله ظالمًا للبشر، فهو
بهذا يَهزم الدين وقضيته، كما يَظلم الله
لأنه يحمِّله نقائصَ الحكام وموبقاتِهم. لنذكر على
الدوام أن كل مجتمع تعددي، شاء أم أبى،
بالمعنى العددي، أي بمعنى تكوُّنه من أفراد،
وأن لكلِّ من هؤلاء الأفراد، وإن انتموا
اسميًّا إلى مذهب واحد، موقفُه من الإيمان
وفهمُه وتفسيرُه للنصوص الدينية ونظرتُه إلى
السياسة ونظام الحكم والعدالة الاجتماعية.
وهدف الدولة إتاحة أفضل الظروف أمام جميع
الأفراد الذين يتكون منهم النسيجُ الاجتماعي
لكي يحققوا ذواتِهم ويتعايشوا في سعادة
وطمأنينة وسلام. في سعي الأفراد
والشعوب نحو هذه المطالب خلال التاريخ،
تبيَّن أن أفضل الأنظمة الاجتماعية أو
السياسية الكفيلة بتحقيقها هي تلك القائمة
على قيم الحرية والعدالة والمساواة واحترام
كرامة الإنسان. وهذا عين ما يدعو إليه لا
دين بعينه بل الأديان جميعًا، التي تتلاقى
على أن أعلى ما في الإنسان كرامته؛ وهذه
آتية من كونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله.
والدولة التي تنتهج هذه القيم من دون إعلاء
دين على دين آخر، أو مذهب على مذهب آخر، أو
موقف إيمانيٍّ على موقف إيمانيٍّ آخر، أو
تفسير على تفسير آخر، هي الدولة الدينية
الفعلية. وهذه أقرب إلى جوهر الدين من الدولة
الدينية الاسمية، أي تلك التي تكتفي
بالتفاصيل والقشور، في حين تنتهك مبادئ
الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة
الإنسان حفاظًا على أسماء ومظاهر مفرغة من
محتواها. وإذا كانت "العَلمانية
القاسية" أو "المتطرفة" هي تلك التي لا
تكتفي بفصل الدين عن الدولة، بل تحاول إقصاءه
عن المجتمع، و"العَلمانية الليِّنة" أو
"المعتدلة" هي تلك التي تفصل الدين عن
الدولة لمصلحة الدولة والدين كليهما، فما
سميناه "الدولة الدينية الفعلية" يتلاقى
مع النظام السياسي العَلماني بالمعنى
الليِّن أو المعتدل[17].
وإذا استطاع نظامُ الحكم الانسجام مع جوهر
الدين فهو إنما يساهم في تحقيق أهداف الدين
بعيدًا عن التحجر ضمن شكليات لم ينتج منها سوى
الويلات خلال التاريخ، الأمر الذي يخون قضية
الدين. ثمة مسألة
رئيسية أخرى ذات علاقة بمفهومَي التنوع
والوحدة: كيف تكون الدولة في لبنان أداة توحيد
وسط ثلاث دعاوى قومية مختلفة تتوزع على معظم
الأحزاب السياسية وتنادي بالقومية اللبنانية
والقومية السورية والقومية العربية؟ صحيح أن
الحميَّة القومية، في لبنان وحول العالم،
شهدت ضعفًا أكيدًا مع بداية الألفية الثالثة
وسط دعوات العولمة وهيمنة القوة الأحادية
التي تمثلها الولايات المتحدة الأمريكية،
وبعد الخيبات الكثيرة التي عرفتْها الحركاتُ
القومية حول العالم، لكنْ تبقى التوجهاتُ
القومية للحركات السياسية في لبنان، خصوصًا
في غياب التنظير المتفاعل مع الوضع العالمي
الجديد، أسيرةَ أُطُرها التقليدية عمومًا.
وإذا كانت لكلٍّ من هذه الدعاوى القومية
جذورٌ تاريخية راسخة، فليس معنى هذا أن
تتصارع الأحزاب القومية للسيطرة على الدولة،
حينًا باسم القومية "الأقدم" في تاريخ
لبنان – وهي السورية –، أو باسم القومية
المرتبطة بالغالبية العددية السنِّية في
المنطقة – وهي العربية –، أو باسم قومية
العصور الحديثة – وهي اللبنانية. لكلٍّ من هذه
الدعاوى القومية، كما قلنا، جذورُه
التاريخية. وإذا استطاعت إحداها تولِّي الحكم
في لبنان عن طريق حزب أو آخر من الأحزاب التي
تمثلها، فالخوف من غلبة القوميين العرب،
مثلاً، أو السوريين بالنسبة إلى القوميين
اللبنانيين، آتٍ من القضاء على الكيان
اللبناني عبر تذويبه في جسم أكبر، مع ما قد
يستتبع ذلك من إخضاع للمسيحيين تحت راية
إسلامية. وخوفُ القائلين بالقومية السورية من
غلبة الدعوى اللبنانية الانعزالُ في الحاضر
والتنكر للماضي، ومن غلبة القومية العربية
إحلالُ الدولة الدينية مكان الدولة المدنية
أو العَلمانية. كلُّ فئة، بدورها، تخشى أن
يؤدي انتصارُ سواها إلى خيانة التاريخ الذي
تظنه منحازًا إليها – هذا التاريخ الذي، كما
في تعبير الشاعر تي.إس. إليوت مرة أخرى، "قد
يكون عبودية وقد يكون حرية"[18]. إن "هوية"
شعب ما تأتي لا من ماضيه فحسب، بل من حاضره
ومن مستقبله أيضًا، أي مما هو اليوم ومما
يودُّ أن يكون. لذلك يجدر أن تلطِّف الأحزاب
"الجغرافية" في لبنان – وهي تلك التي
تختلف في ما بينها حول تحديد حدوده – من
غلوائها التاريخية. فالسؤال الذي طَرَحَه
أنطون سعادة يومًا، بمنهجيته العلمية
الرصينة، "مَن نحن؟"، وأجاب عنه بأننا
"سوريون، والسوريون أُمَّة تامة"[19]،
يمكن لجوابه أن يأتي بأننا "عرب" أو "لبنانيون".
كما لا تكفي الإجابة عما كنَّاه يومًا لتقرير
ما يجب أن نكون في المستقبل القريب أو البعيد. المطران جورج
خضر، بروحانيته الأصيلة ورؤيويَّته العميقة
وثقافته الواسعة، لاحظَ هذا الأمر وعالجه في
أكثر من موضع[20].
وقد كتب أنَّ "عقْدتنا هذه الرقعة الصغيرة
التي نعوِّض عن ضيقها بتوسيع تاريخنا،
برجوعنا إلى الماضي السحيق وقد انقطع أكثر من
سبب بيننا وبينه"[21].
لقد هالَه أنَّ التاريخ يبتلع شعبنا الذي "يتعبد
له حتى الأسر، [...] وكأن هوية الجماعات لا
تُذاق إلا في الذاكرة. لا أحد منا يفتش عن هوية
يريدها مكوَّنة من تطلعاته"، إذ "الهوية
أصلاً في ما نعمله، تنشأ من الحرية"[22]. لكن إذ لا يمكن
للدعاوى القومية الثلاث جميعًا أن تمتلك
لبنان في آنٍ معًا، كما لا يجوز لإحداها
امتلاكُه عنوةً وإخمادُ الدعويَين
الأُخريَين، يبدو أن الحلَّ المنسجم مع مبدأ
الوحدة في التنوع هو ذاك الذي يُبقي هذه
الدعاوى حية لدى اللبنانيين، لكن من غير أن
تكون إحداها ملغيةً للأخرى أو مقصورةً على
فئة من اللبنانيين دون سواها. إن شرط إبقاء
هذه الدعاوى حية، إذن، هو تجريدها من "إلغائيتها"
القومية والاحتفاظ بمحتواها الحضاري.
فاللبنانيون كلهم "لبنانيون" وكلهم "سوريون"
وكلهم "عرب". ويمكن أن يظهر الوفاء لهذا
الواقع التاريخي في نظام عصريٍّ متطور للحكم
يعزِّز إنجازاتِ لبنان في الديموقراطية
والحرية والتربية والثقافة والإعلام
والاقتصاد وغير ذلك، وتنتصر فيه هذه الدعاوى
الحضارية، في سلام وانسجام، عِبْرَ نظام
تربوي تجسِّده كتبُ التاريخ والإنسانيات على
وجه الخصوص، كما تجسِّده سياسةُ الدولة
العامة وأحلافُها وولاءاتُها. صحيح أن لبنان
كيان مُحْدَث أدَّت إلى إنشائه ظروفٌ معينة،
وأنه قبل ذلك الحين كان جزءًا من كيان أكبر.
غير أن المسيرة التي اختطَّها هذا الكيان
الحديث لنفسه في المناحي المذكورة، السياسية
والاقتصادية والتربوية والإعلامية وسواها،
على ما شابَ هذه المسيرة من نقائص ومساومات
وعيوب واستئثار أحيانًا، جعلتْه طليعةَ
البلدان العربية في اعتماد قيم الحرية
والعدالة والمساواة، وجعلت منه نموذجًا في
مجالات كثيرة، يجدر بكلِّ بلد عربي أن يحتذي
به عندما يقرر هذا البلد أو ذاك أن يضع نفسه
على خريطة العالم المتحضِّر[23].
لا بل إن لبنان، كما قال أنطون سعادة، إذا كان
نورًا – وهو حقًّا هكذا –، فأحرى بهذا النور
أن يشعَّ ويَشيع في كلِّ ما حوله[24]. ثمة حاجة، إذن،
إلى لبنان الكيان، لا لأنه "أزلي"
كما يتبجَّح بعضهم، بل لأنه أثبت أنه ضرورة لا
يُستغنى عنها في المجالات التي تحقِّق
إنسانيةَ الإنسان عبر احترام حريته وكرامته.
إنه لمن قبيل الكفر أن نزعم أن أيَّ كيان غير
الله الخالق يتمتع بالأزلية، أي أنه كان في
البدء، قبل أن يكون أي شيء آخر! الأزلية صفة
الخالق وحده: "أفَمَن يَخلق كمَن لا يَخلق؟"[25] وكما أن كلَّ
شيء وُجِدَ في الزمن يخضع لأحكام الزمن، فما
ليس أزليًّا يستحيل أن يكون أبديًّا. لذلك كان
استمرارًا لمنطق الكفر نفسه نَعْتُ لبنان، أو
أي وطن آخر على وجه الأرض، بـ"الأبدية".
وحده لا نهاية له مَن لا بداية له، أي الله –
تعالى. ولئن كانت الأوطان قديمة جدًّا في
التاريخ، فهي، على قِدَمها، تبقى حادثةً في
الزمن، خاضعة لأحكامه وحركته. لذلك تخيفني
فكرة "الوطن النهائي" التي ابتكرها
نَفَرٌ من المسيحيين وأقرُّوها في مؤتمر
الطائف، أو بالأحرى "صلح" الطائف، كي
يردُّوا عنهم خطرًا طالما أخافهم، هو خطر
إلغاء الكيان اللبناني عبر ارتهانه أو إضعافه
أو تذويبه في وحدة سورية أو عربية من شأنها
تأكيد أقليتهم العددية ووضعهم "في ذمة"
سواهم والقضاء عليهم شيئًا فشيئًا. وكان أن
قَبِلَ هذا النفرُ المسيحي بـ"عروبة"
لبنان لقاء قبول مواطنيهم المسلمين بكَون
لبنان وطنًا "نهائيًّا" لجميع أبنائه. اليوم إذ تنحسر
– مع الأسف – دعاوى العروبة حول العالم
العربي باسم تجمعات مذهبية أو عرقية أو
سواها، أرى لزامًا على المفكرين الاجتماعيين
والسياسيين، وعلى المثقفين عمومًا، العمل من
أجل إعادة تحديد مفهوم العروبة؛ إذ هو
وحده الكفيل بإقامة الوحدة السليمة وسط
التنوع في العالم العربي وتأسيس كيان عربي
قوي يَتخذ شكلاً أو آخر من أشكال الاتحاد
الاقتصادي–الثقافي–السياسي. والمعنى
المنشود للعروبة يتجاوز العرقية، بحيث
يكون أكراد العراق "عربًا" لا أقل من
سواهم، وبربر المغرب "عربًا" لا أقل من
سواهم، والسريان والأرمن في بلاد الشام "عربًا"
لا أقل من سواهم، ويهود فلسطين "عربًا"
لا أقل من سواهم، إلخ؛ كما يتجاوز الطائفية
ليكون السنَّة والشيعة والمسيحيون، على
اختلاف مذاهبهم، والفئات الدينية كلها فوق
الأرض العربية "عربًا" بالتساوي. ومادمنا في ذكر
العروبة، فلا يجوز أن ننسى دَور المسيحيين
الجليل في صنع النهضتين العظيمتين فوق هذه
الأرض: النهضة العربية الأولى خلال العصر
العباسي، والنهضة العربية الثانية في العصر
الحديث، التي كانت للُّبنانيين اليدُ الكبرى
فيها. ويصف المطران جورج خضر هذه العروبة
الحضارية بأنها "عروبة بيضاء لا تتنكَّر
للتراث الشرقي القديم ولا للإنسان المعاصر
المبادر، وذلك في رقعة عربية تضيق أو تتَّسع"[26].
أجل، "تضيق أو تتَّسع" لأن الأوطان لا
يمكن أن تكون "نهائية" ولا "أزلية"
ولا "أبدية"، مهما امتدَّ ماضيها
وأوغَلَ في حقَب التاريخ "غير الجلي"[27].
ويعلن المطران خضر رفضَه أن تكون "مشكلة
الإنسان الأخيرة مرتبطة بكيان أرضي"[28]،
وأنه "يكره فكرة الوطن المسيحي"
لتَمسُّكه "إلى أقصى حدٍّ باستقلال
المسيحية عن كلِّ أرض وعن كلِّ حضارة. [...]
المسيحيون، في النهاية، غرباء، لا يتوطَّنون.
إنهم السؤال الملحاح يُطرَح على كلِّ كيان"[29]؛
إذ "المهمُّ في الأوطان مضمونُها الروحي،
قربانُها الإنساني"[30].
لذلك وَجد أن "الأهم من بحث الكيانات
العربية وتوحيدها أن نعرف مضمونها الروحي
ولون الثقافة فيها"[31].
ويرى أن حاجة الإنسان إلى وطن لا تتعدى الحاجة
إلى "مدى ينتقل فيه، إلى رمز. وقد تكون
البطولة في البقاء إذا كنَّا دائمًا واقفين
على أرض غربة"[32]. هذا النوع من
الفكر واللغة والثقافة نادرٌ جدًّا أن نجده
في مجتمعنا، وأندر أن نجده عند رجل دين. من
الطريف أن يتصدَّى دارسون أكاديميون لتحليل
الخطاب الديني والأدبيات الدينية العربية
لدى جميع الناطقين باسم الأديان والمذاهب.
فالراجح في هذا النطاق طغيان اللغة التقليدية
والمفاهيم الموروثة وغياب الثقافة العصرية.
أما جورج خضر فقد أقبلَ على الثقافة والكتابة
برسالة واعية، واصفًا مهمَّته كمن يتكلم
بضمير الغائب: "رأى أن المسيحية التي صمتت
كثيرًا بسبب الرزوح آنَ لها أن تتكلم الآن عن
نهضة بلسان عربي فصيح. وقد رَفضَ قول القائلين
أنْ أبَتِ العربية أن تتنصَّر."[33]
ولئن كان هذا الفكر موجَّهًا إلى اللبنانيين
جميعًا والعرب قاطبة، وكذلك إلى كلِّ قارئ،
فهو منطلِق من إيمان مسيحي وموقف مسيحي مسؤول.
وهو باكورة ما يمكن أن يسمَّى "فكرًا
أرثوذكسيًّا عربيًّا"، كان جورج خضر مبدعه
ومُطْلِقه، وما يزال، كما أرى، ممثله الأوحد. هناك عَلمانيون
أرثوذكس سبقوا جورج خضر وكانوا طليعة ثقافية
فكرية نهضوية في العالم العربي. ولعلَّ أبرز
هؤلاء أربعة، هم: أنطون سعادة، شارل مالك،
قسطنطين زريق، ميخائيل نعَيمه[34].
وقد تفاوَت هؤلاء في مواقفهم القومية،
فدَعوا، على التوالي، إلى: القومية السورية،
القومية اللبنانية، القومية العربية،
الإنسانية الحضارية الجامعة المستقلة عن
القوميات، وإنِ ارتبطتْ بالموروث اللغوي
الثقافي. هذا التنوع في مواقف الأرثوذكس
القومية جعل المطران خضر يصرِّح مرارًا،
خصوصًا إبَّان الحرب الأهلية في لبنان، أن
الأرثوذكس "كنيسة، لا قبيلة"[35]. إلى المفكرين الأربعة
المذكورين، لمعتْ أسماءٌ كثيرة لمثقفين
ومفكرين وأدباء وشعراء وصحافيين ومناضلين
أُرثوذكس في الوطن والمهجر، ناصروا القضايا
العربية وناهضوا الاستعمار. لكنْ يميِّز
هؤلاء جميعًا عن جورج خضر أنهم كانوا
عَلمانيين، لا رجال دين؛ إنهم أُرثوذكس
ومفكرون، أو مفكرون صادَف أن كانوا من
الطائفة الأرثوذكسية[36].
أما هو فكان مفكرًا أُرثوذكسيًّا، بل، كما
قلنا، مبدع ما يمكن أن يسمَّى "الفكر
الأرثوذكسي العربي". وهو، في فكره هذا، لم
ينحرف طبعًا عن لاهوت كنيسته الذي وَجد أروع
تعبير عنه لدى تلك المجموعة من المفكرين
المعروفين بـ"آباء الكنيسة"، وبرز منهم
أنطاكيون سوريون يمكن لنا اعتبارهم، بحسب
مقولة العروبة الحضارية، عربًا قبل التعريب،
إذ نشأوا على أرض أصبحت لاحقًا عربية. وخوفًا
من طمس أية روافد تراثية من هذا النوع، الأمر
الذي يؤدي إلى تغريب بعض المجموعات الدينية
وسواها عن جسم العروبة، رأينا المطران خضر
يدعو إلى "عروبة بيضاء لا تتنكر للتراث
الشرقي القديم". وإذ نتأسف لأن الفكر "الآبائي"
الشرقي لم يجد طريقه بعدُ إلى الإحياء العصري
المنهجي عبر نقله إلى العربية ودراسته على
أيدي اختصاصيين[37]
(علمًا أن الاختصاص اللاهوتي المحض في هذا
المجال لا يجدي بانفصال عن الفيلولوجيا
والفلسفة والإنسانيات عمومًا)، تكفي الإشارة
إلى أن ما خَلَّفه جورج خضر من كتابات غزيرة
متنوِّرة يؤكد أن الفكر الآبائي لم ينقطع،
وأن "صاحبنا" واحد من كبار آباء الكنيسة
المعاصرين. V مفهوم
الوطن والمواطَنة لا التعدد
المطلق من دون وحدة، إذن، كما رأينا في مثَل
لبنان، ولا الوحدة التعسفية على حساب التعدد،
كما رأينا في مثَل البلدان العربية خارج
لبنان – لا هذا ولا ذاك يشكِّل فلسفةً لنظام
سياسي سليم. لكننا نجد هذه الفلسفة، كما
رأينا، في مفهوم الوحدة في التعدد. وإذْ
يبقى ضروريًّا جدًّا أن يعالَج هذا المفهوم
على أيدي المثقفين، ولاسيما المشتغلون في
الفلسفة الاجتماعية والسياسية، فإننا نتمسك
بنموذج الوحدة الذي أعطيناه على صعيدَي الدين
والقومية. ونكرر أن الدولة العَلمانية التي
دعَونا إليها هي الدولة الدينية "الفعلية"،
تمييزًا لها عن الدولة الدينية "الاسمية".
فهي لا تتبنى اسمًا دينيًّا معينًا لئلا
تستعدي عليها المواطنين المنتمين إلى أسماء
دينية أخرى، ولئلا تَفرض أيَّ إيمان أو أية
تفسيرات دينية خاصة على مواطنيها، وإنِ
انتموا اسميًّا إلى مذهب واحد، ولئلا تحمِّل
الله وأنبياءه ورُسُلَه أوزار الحكَّام
ومحدودياتهم؛ لكنها، في الوقت نفسه، تنتهج
مبادئ الحرية والعدالة والمساواة واحترام
كرامة الإنسان، "لأن هذا"، في أية حال،
"هو الناموس والأنبياء"[38]. أما نموذج
الوحدة القومية فيما يخص لبنان، فهو إبقاء
الدعاوى الحضارية السورية والعربية
واللبنانية جميعًا حية، تربويًّا وثقافيًّا
وإعلاميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا، لكنْ
بعيدًا عن رفع القومية أو الأُمَّة أو الوطن
إلى مقام الألوهية بإغداق صفات عليها من نوع
"الأزلية" و"الأبدية" و"النهائية"!
حقًّا لقد حقَّق لبنان إنجازاتٍ نهضوية،
ثقافية وتربوية وإعلامية واقتصادية وسياسية،
جعلتْه طليعةً في العالم العربي ونموذجًا
يُحتذى به في مجالات كثيرة. إلا أنه،
لاتِّباعه الحرية المطلقة وإطلاقه عنان
التعدديات من غير ضوابط تؤلِّف فيما بينها،
قَوَّى نزوعَ بعض الفئات، الدينية وسواها،
إلى التملص من سلطة الدولة المركزية
وقوانينها والتصرف كما لو كانت "دولة في
قلب الدولة". وهذا من شأنه أن يبقينا في
التعددية الفوضوية المطلقة التي تحيل
الدولةَ دولاً أو دويلاتٍ وأن يُحِلَّ "شريعة
الغاب"، مهما بدت الشرائع الخاصة جليلةً في
أعيُن أصحابها وبمثابة حكم القانون، وأن
يُضعِفَ مفهوم الوطن والمواطَنة. ما يحتاج إليه
لبنان لتحقيق الوحدة في التعدد على الصعيد
السياسي هو دولة مركزية قوية تجسِّد مفاهيم
الوطن والمواطَنة. الإيمان الديني لا
يشكِّل قضية على هذا الصعيد. وهذا يفسِّر قول
الإنجيل بـ"إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله
لله". وفي القرآن آيات عدَّة تشير إلى هذا
الأمر، منها: "فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء
فليكفر"[39]،
و"لا إكراه في الدين"[40].
وفي إحداها يخاطِب الله – تعالى – نبيَّه
ورسوله محمدًا بقوله: "أفأنت تُكرِهُ
الناسَ حتى يكونوا مؤمنين؟"[41]
المطلوب، لحسن عمل الجسم الاجتماعي، قوانين
تضمن الحرية والعدالة والمساواة وتردع
تعديات الناس بعضهم على بعض، بصرف النظر
تمامًا عن تنوعات إيمانهم وتجاربهم الدينية.
ولئن كانت لهذا الإيمان آثارٌ إيجابية في
تعزيز مفهوم المواطَنة الواحدة وسط مواقف
المواطنين المختلفة من الدين والإيمان،
فليبذل ذوو الإيمان ورُعاتهم كلَّ ما في
وسعهم لتربية هذا الحسِّ الديني النبيل في
ذواتهم ولدى الرعية. بكلام آخر، إذا كان
الإيمان الديني يعزز احترام القوانين
المدنية والسِّلم الاجتماعي بجعله المؤمن
مواطنًا صالحًا يحترم القوانين ويحفظ الوعود
والعهود أكثر من سواه، فهذا، في أية حال، يقع
ضمن مسؤولية المؤمنين ورُعاتهم. لكن يبقى أن
ما يعني المواطن من مواطن آخر ليس دينه
وإيمانه، بل احترامُ حريته وكرامته وعدم
التعدي عليه. إن مفهوم
المواطَنة في لبنان لا يمكن له أن يتعزز وسط
تطلُّع بعض فئاته الطائفية خارج حدود بلدهم
لاستلهام مواقف قد تعرقل سياسة الدولة
المركزية، وإنْ باسم الدين أحيانًا؛ كما لا
يمكن لهذا المفهوم أن يتعزز وسط دعاوى قومية
مختلفة يشدُّ كلٌّ منها في اتجاه شدًّا لا
يمكن أن ينتج عنه سوى تمزيق الجسم الاجتماعي.
لذلك كان من أشد أمور الإصلاح السياسي
إلحاحًا إصدارُ قانون جديد للأحزاب، يقام على
القضايا الاجتماعية الإصلاحية، ويؤخَذ فيه
الكيانُ اللبناني كأمر مفروغ منه، وتُمنَع
تلك الأحزاب "الجغرافية" التي تقوم
دعواها الأساسية على رسم حدود لبنان، وتلك
التي تشكِّك في شرعية الكيان اللبناني، كما
تُمنَع الأحزابُ "الطائفية" التي تقتصر
عضويةُ أفرادها على دين واحد أو مذهب واحد[42].
إن مثال الوطن المنشود لا يمكن له أن يتحقق
قبل إلغاء الأحزاب والتجمعات الفئوية
والطائفية، مع كلِّ امتيازاتها وحساباتها
ومحسوبياتها. لقد أرهَقَنا
الدينُ وأدعياؤه في لبنان، حتى كادت عبارةُ
"الدين" تقتصر على مدلولات سلبية لكثرة
ما استغلوها لمآرب خاصة. إذا سُئلتُ عن أنبل
كلمة في القاموس لأجبت: "الدين"، وعن
نقيضها لأجبتُ أيضًا: "الدين"! ذلك أن
الدين، بحسب استخدام الناس له، أي بحسب
تمسُّكهم بجوهره الصحيح أو بقشوره التي
أقحمها منحرفوهم عليه لخدمة مصالحهم
الإلغائية، هو مصدر خير كما هو مصدر شر.
أعطِني "دينًا" – لا سمح الله – خاليًا
من الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة
الإنسان والمحبة والسلام، وأعطِني من ناحية
أخرى نظامًا تحت أيِّ اسم، لكنْ نظامًا
قائمًا على هذه القيم، فلا شك أني أرفض الدين
"الاسمي" وأختار ذاك النظام الآخر دينًا
فعليًّا! وهنا أعود إلى
المطران خضر، داعيًا جميع الناطقين باسم
الأديان إلى الاقتداء به في نَفْيه صفة "القبَلية"
عن الجماعة الإيمانية، وفي تمييزه بين "أهل
الله" الذين هم "قلَّة عزيزة" و"أهل
الدين" الذين هم "كُثُر"[43]،
وفي نقده الكنيسة، أو المؤسسة الدينية
عمومًا، بمعناها الاسمي أو الشكلي، إذ رأى
"استمرار البلادة والجهل والخنوع وانعدام
الشخصية في صفوفها، كأنها المكان الأمثل لدحر
العبقرية وإطفاء الموهبة"[44]،
وفي إعلانه عن تحرره من "هذه الديانة
الكَذوب" التي كانت "حقًّا أفيونًا
للشعوب"[45]. التحدي الأكبر
الذي يواجه اللبنانيين اليوم هو خَلْق الوطن
اللبناني والمواطن اللبناني: وطن يكون فيه
الناس، بجميع أديانهم وطوائفهم ومواقفهم من
الدين والإيمان والشؤون الأخيرة، وبكل
أُصولهم العرقية والإثنيَّة، مواطنين
متساوين أمام القانون في الحقوق والواجبات
والكرامة الإنسانية. وإذا كان لبنان قَطَعَ
شوطًا على هذه الطريق، لكن ما تزال تعترض
طريقَه عراقيل، فإن تخطِّي هذه العراقيل لن
يحصل إلا بخطوة، لا بل بقفزة، جريئة. وهي "قفزة"
لا يأخذها الرافضون عادةً ولا المتردِّدون،
بل تؤخذ عنهم. والتردد حيال قفزة جريئة من هذا
النوع آتٍ من خوف المترددين، إنْ هم تحولوا
إلى "مواطنين"، أن يَفقدوا ما يظنونه "امتيازات"
تأتيهم من وضعٍ قبَليٍّ يتيح لهم الانحراف عن
قوانين الوطن الواحدة واتِّباع نهج غامض
يتولَّون مَلء فراغاته، كلما دعت الحاجة، على
النحو الذي يخدم مصالحهم. وهذا يعني إبقاءَ
لبنان ضمن شريعة الغاب، والنأيَ به عن حكم
القانون، وفقدانَ الإرادة لتأسيس وطن
والمشاركة في المجتمع المدني بصفة مواطنين. إن لبنان بعد
الحرب الأهلية لا يمكن له، ولا يجوز، أن يستمر
في أخطاء كانت سائدة قبل هذه الحرب، لا بل
كانت من الدوافع إليها. وأقسى تلك الأخطاء ما
كان يعرقل تحقيق مُثُل المجتمع المدني والوطن
العصري، فيمنح الطوائف كل الامتيازات التي
تعطِّل حياة المواطنين الموحَّدة ضمن روابط
المواطَنة فوق أرض الوطن. وإذا كانت بعض
الفئات لا تستطيع التملص من الماضي، بل تحاول
التشبث بعقلية الامتيازات الطائفية وعرقلة
نشوء الدولة المدنية، فالحل المطلوب ثورة "من
فوق"، تُفرَضُ على الجميع فَرْضًا للخروج
من الظلمة إلى النور تحت قيم الحرية والعدالة
والمساواة واحترام كرامة الإنسان – هذه
القيم التي تجسِّدها وترعاها دولةٌ مركزية
قوية تكون مثال الوحدة في التعدد على الصعيد
الاجتماعي. كثيرةٌ هي
الوسائل لإيجاد دولة من هذا النوع وبسْط
سلطانها، ولن نبحثها في هذه الدراسة[46].
لكن يجدر بنا أن نختم بذكْر بعض صفات الحاكم
الذي يستطيع إحداث القفزة الجريئة المنشودة
من "المزرعة" إلى "الدولة"، من
الفوضى إلى النظام، من شريعة الغاب إلى حكم
القانون. ففي مقالات افتتاحية ثلاثة نشرها
المطران خضر حديثًا في صحيفة النهار،
تساءل: "متى يصبح لبنان مدينة الله؟"[47]
ورفضَ أن تأتي هذه المدينة، التي يجب أن
نبنيها فوق أرضنا كلِّها، "على الجبال وفي
السواحل"، من "حلف الطوائف الذي يبدو في
الأفق"، لأنه يقتل الوطن[48].
وكان، في المقال الأول من هذه السلسلة[49]،
عَرَضَ صفاتِ الحاكم المرجو لنهضة لبنان،
قائلاً إن "الأقدر على المحبة والفهم هو
الأقدر على المسك بالسلطة التي هي مقام
الخدمة"، وإن "السلطان الصالح، العادل،
المحب أيقونةُ الله أمامنا". وأضاف أن
الحاكم الصالح هو مَن "اعتَبر الله حاكمًا
له". فهذا لا يطلب شيئًا لنفسه ولا لعائلته
ولا لطائفته؛ وهو لا يطلب غير رضى الله، بل
يذلِّل نفسه أمام ربِّه من غير أن يذلَّ الناس.
كما يبتعد عن الفئوية ويكون للجميع ولا يتحزب
إلا للحق. فالحق وحده يحرره من كلِّ شهوة؛
وبهذه الحرية يتمكن من انتهاج "سياسة طاهرة".
ويختم المطران مقاله متوجهًا إلى الحاكم
المنشود: "كنْ في السياسة بسيطًا ببساطة
الله وشفَّافًا مثله. ومُتْ عن الأُمَّة كما
مات الفادي. ففي هذا قيامتك وقيامة الذين
استَعبدتَ نفسك لهم بالإخلاص. اضربِ
الكبرياءَ والتحكم والمجد الباطل ليكون الله
وحده هو العزيز." إن الصفات التي
افترضها مفكرون مثل أفلاطون وكونفوشيوس
والفارابي في الحاكم الصالح – وهي أن يكون
مشبعًا بالمعرفة والحكمة وسموِّ الأخلاق
والتواضع والصدق والعدل والمحبة – تكتمل
بفضيلة الزهد التي تكلَّم عليها المطران
خضر والتي تلامِس القداسة وتجعل الحاكم
واحدًا من "أولياء الله": "الحلول
الأساسية هي تلك التي تأتي من النفس الزاهدة."[50]
والحاكم المقصود ليس شخصًا واحدًا فحسب، بل
هو آلة الحكم بأكملها، من حكومة وإدارة وقضاء
وقوى أمنيَّة وممثلين للشعب. إن "عَدوى"
الحاكم الصالح – العارف، الحكيم، النبيل،
المحب، الزاهد – يجب أن تنتقل إلى هؤلاء
جميعًا. ***
*** *** [1]
هذا النص، الذي كُتِبَ أصلاً
كمشاركة في كتاب تذكاريٍّ مخصَّص للمطران
جورج خضر، هو الفصل الأول من كتاب د. صعب
الأخير هموم حضارية: في الثقافة والسياسة
والنهضة المنشودة. [2]
د. أديب صعب أستاذ الفلسفة في
معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي في
البلمند، حيث درَّس، لسنوات طويلة،
الفلسفة القديمة والوسيطة والحديثة وتاريخ
الأديان وفلسفة الدين. له "رباعية" في
الفكر الديني صدرت عن "دار النهار" في
بيروت بين 1983 و2003 تحت العناوين الآتية: الدين
والمجتمع، الأديان الحية، المقدمة
في فلسفة الدين، وحدة في التنوع،
إضافة إلى مجموعات شعرية وعدد كبير من
الدراسات والمقالات. [3]
أثَرْتُ مفاهيم الوحدة والتعدد
والوحدة ضمن التعدد في كتابي الدين
والمجتمع الصادر في العام 1983، يوم كانت
بعض قوى "الأمر الواقع" في تلك المرحلة
من الحرب الأهلية في لبنان تحظِّر عباراتٍ
من نوع "التعدد". ويجب أن أعترف بأن
المعنى الأصلي الذي أعطيتُه للتعدد، أي
المعنى العددي، هو ثمرة تحليل وموقف
شخصيين، لا ثمرة قراءات. انظر: أديب صعب، الدين
والمجتمع، بيروت: دار النهار، 1983 (طب 2:
1995). وتجدر الإشارة إلى أن كل ما ورد في
الدراسة الحالية ينطلق من مفهوم الوحدة
في التنوع كما عالجتُه بدءًا من هذا
الكتاب. [4]
أديب صعب، المرجع المذكور، طب 1:
ص 88-90 وطب 2: 80-82. [5]
T.S. Eliot, “The Dry Salvages” (verse 93), in Four Quartets, قارن مع
ما يقوله الفلاسفة الرواقيون، وعلى الأخص
ماركوس أوريليوس، حول فحص الذات. [6]
أديب صعب، وحدة في التنوع،
بيروت: دار النهار، 2003، ص 27-33. انظر أيضًا:
أديب صعب، "فلسفة للحوار الديني"، الحياة،
السبت 3 تموز 2004، ص 14. [7]
أديب صعب، الدين والمجتمع،
طب 1: ص 8 وطب 2: 16. [8]
للاطِّلاع على آراء لوك وهيوم
وباركلي وكانط في هذا المجال، انظر الفصول 2
و4 و8 من: أديب صعب، المقدمة في فلسفة الدين،
بيروت: دار النهار، 1994 (طب 2: 1995). [9]
يبدو أن كلاًّ من الشيعة
والأكراد يحاولون اليوم تحقيق أكبر
المكاسب السياسية الممكنة في العراق، كما
فعل السنَّة حتى الاجتياح الأمريكي. ومع
طرح دستور جديد للبلاد والتصدِّي للأمور
الطارئة، يبدو كأن مقولة "العروبة"
تخص السنَّة العرب وحدهم. [10]
حليم بركات، "المجتمع
اللبناني: فسيفسائي أم تعددي؟"، مجلة مواقف،
العدد 1، بيروت، تشرين الأول/تشرين الثاني
1968، ص 108-125. [11]
أديب صعب، وحدة في التنوع،
الفصل الرابع: "الدين والدولة" والفصل
الخامس: "الدولة الدينية الفعلية"، ص
41-54. [12]
رسالة بولس إلى العبرانيين 13: 14. [13]
سورة الأعلى (87): 16-17. قارن مع:
سورة الأعراف (7): 169، سورة يوسف (12): 57، سورة
الرعد (13): 26، سورة النحل (16): 30. [14]
إنجيل يوحنا 18: 36. [15] أناجيل متى 22: 21، مرقس 22: 17، لوقا 20: 25. [16]
Ludwig Feuerbach, The Essence of
Christianity, [17]
أديب صعب، الدين والمجتمع،
طب 1: ص 119-128 وطب 2: 106-113. [18]
T.S. Eliot, “Little Gidding”
(verses 162-163), in Four Quartets, p. 55. [19]
أنطون سعادة، مبادئ الحزب
السوري القومي الاجتماعي، بيروت، 1970، ص
7-11. انظر شرحًا مفصلاً لهذا المبدأ في:
أنطون سعادة، المحاضرات العشر. [20]
ما يزال المطران جورج خضر يكتب،
منذ ما يزيد على ثلاثة عقود، مقالاً
أسبوعيًّا افتتاحيًّا لصحيفة النهار،
يتناول فيه شؤونًا سياسية راهنة من منظار
روحيٍّ يتجاوز المواقف الدينية "الرسمية".
وقد أعيد نشرُ هذه المقالات في مجموعات
صدرت عن "دار النهار": الرجاء في زمن
الحرب (1987)، مواقف أحَد (1992)، لبنانيات
(1997)، الحياة الجديدة (2001). وتجدر دراسة
هذه الكتب دراسةً منهجيةً كنموذج لخطاب
سياسي ودينيٍّ في آنٍ معًا، عميق في
رؤيويَّته وفريد في تَنوُّره. [21]
جورج خضر، لو حكيتُ مسرى
الطفولة، بيروت: دار النهار، 1979، ص 20. [22]
المرجع نفسه. [23]
وَجَدَ شارل مالك فرادة لبنان في
عناصر مثل جباله وقراه وعاداته، في حين أن
لبنان يتشارك في هذه العناصر مع عدد من
بلدان الجوار والبلدان المتوسطية. والأحرى
أن ما يميز لبنان آتٍ من مسيرة الحرية فيه.
انظر: شارل مالك، لبنان في ذاته، بيروت:
مؤسسة بدران، 1974. [24]
جاء هذا في خطاب أنطون سعادة عند
عودته إلى لبنان في العام 1947 بعد اغتراب
قسريٍّ دام تسع سنوات. انظر: سعادة في أول
آذار، بيروت: مطابع لبنان، 1956، ص 83. [25]
سورة النحل (16): 17. [26]
جورج خضر، لو حكيتُ مسرى
الطفولة، ص 38. [27]
صاغ أنطون سعادة المبدأ الرابع
من مبادئ حزبه الأساسية على النحو الآتي:
"الأُمَّة السورية هي وحدة الشعب السوري
المتولدة من تاريخ طويل يرجع إلى ما قبل
الزمن التاريخي الجلي." انظر: أنطون
سعادة، مبادئ الحزب السوري القومي
الاجتماعي، ص 20-30. [28]
جورج خضر، المرجع السابق، ص 35. [29]
المرجع نفسه، ص 35-36. [30]
المرجع نفسه، ص 37. [31]
المرجع نفسه، ص 38. [32]
المرجع نفسه، ص 70. [33]
المرجع نفسه، ص 37. كتاب لو
حكيتُ مسرى الطفولة هو بمثابة سيرة
ذاتية، ثقافية فكرية روحية، يعبِّر فيها
المطران جورج خضر عن نفسه بلسان شخص يسميه
"صاحبي". [34]
انظر: أديب
صعب، "الأثر الإنجيلي والأنكلوسكسوني في
فكر الأُرثوذكس العرب"، دراسة لمؤتمر
نظَّمتْه جامعة البلمند وكلِّية اللاهوت
للشرق الأدنى، وقُدِّمت في البلمند يوم
الجمعة 21 أيار 2004؛ وهي معَدَّة للنشر في
كتاب يصدره منظِّمو المؤتمر. [35]
تردَّدتْ هذه العبارة مرارًا في
مقالات المطران جورج خضر الافتتاحية في
صحيفة النهار خلال الحرب الأهلية.
انظر، مثلاً، كتابه: الرجاء في زمن الحرب،
بيروت: دار النهار، 1987. [36]
حاول بعضهم ردَّ نزوع الكثير من
الأُرثوذكس نحو القوميتين السورية
والعربية إلى توزُّعهم الجغرافي في المشرق
العربي وحرصهم على صَون وجودهم. لكن مهما
كان من أثر لذاك التوزع وهذا الحرص، فهما لا
يبدِّلان أبدًا من شرعية هذه الأفكار
والمواقف. ويجدر التحرِّي عن جوِّ الكنيسة
الأُرثوذكسية الأنطاكية الاجتماعي القومي
السياسي وأثره في مواقف هؤلاء. [37]
لا نجد في العربية مجموعات "آبائية"
كاملة منقولة من أصولها اليونانية مع شروح
ومقدمات مستفيضة، كما هي الحال في
الإنكليزية والفرنسية والألمانية؛ وتقتصر
الترجمات العربية على كتب قليلة، نُقِلَ
بعضُها عن ترجمات إنكليزية أو فرنسية. [38] إنجيل متى 7: 12. جاء هذا في موعظة الجبل التي اختصرها يسوع بالآتي: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء." [39]
سورة الكهف (18): 29. [40]
سورة البقرة (2): 256. [41] سورة يونس (10): 99. [42]
المضحك في بعض هذه الأحزاب
حاليًّا أن قادتها يتشدقون بقانون انتخابي
وقوانين اجتماعية أخرى تحقِّق ما يسمونه
"الانصهار الوطني"! لكن كيف يتحقق "انصهار"
من هذا النوع ما لم تقدِّم أحزابُهم أولاً
– وهي نموذج مصغَّر للوطن – المثالَ
الصالح على هذا الانصهار؟! [43]
جورج خضر، لو حكيتُ مسرى
الطفولة، ص 32. [44]
المرجع نفسه، ص 48. [45] المرجع نفسه، ص 45. [46]
من هذه الوسائل إصلاح التعليم
الديني الذي اقترحناه في الدين والمجتمع
(1983)، وتابعنا بحثه في الكتب الثلاثة
اللاحقة: الأديان الحية (1993)، المقدمة
في فلسفة الدين (1994)، وحدة في التنوع
(2003). [47]
جورج خضر، "مدينة الله"، النهار،
السبت 4 حزيران 2005. [48]
جورج خضر، "السياسة"، النهار،
السبت 2 تموز 2005. [49] جورج خضر، "شهوة السلطة"، النهار، السبت 12 شباط 2005. [50]
جورج خضر، لو حكيتُ مسرى
الطفولة، ص 102.
|
|
|