|
رَمزيَّة التحوُّل في
سورَة الكهف موجز في الخيمياء
القديمة
من الأمثلة
التي تخيَّرتُها على التحول النفسي رمزٌ
يلعب دورًا كبيرًا في التصوف الإسلامي، وأعني
به "الخضر" الذي يظهر في السورة الثامنة
عشرة من القرآن، سورة الكهف. يستأثر بالسورة
كلِّها سر الولادة الثانية أو الجديدة، و"الكهف"
هو مكان هذه الولادة: ذلك التجويف السرِّي
الذي يُغلَقُ فيه على المرء حيث تتم حضانتُه
وتجديدُه. ويصف القرآن الكهف بالقول [الآية 17]: وترى الشمسَ إذا طلعت تَزاورُ عن
كهفهم ذات اليمين وإذا غَرَبت تَقرضُهم ذات
الشمال وهم [أهل الكهف السبعة] في فجوة منه [في
وسطه]. و"الفجوة"
هي المركز الذي ترقد فيه الجوهرة وتجري
فيه الحضانةُ أو طقس الذبيحة أو التحويل.
وإننا لنجد خير تمثيل لهذه الرمزية في
المحاريب الميثرائية [نسبة إلى ديانة ميثرا[1]]
وفي الصور الخيميائية التي تتحدث عن "جوهر
التحويل" الذي يُرى دائمًا بين الشمس
والقمر. ثم إن تصوير فعل الصَّلْب كثيرًا ما
يتبع النموذج نفسه. كذلك نجد لدى أقوام
الناڤاهو Navajo
[هنود من أمريكا الشمالية] ترتيبًا
رمزيًّا مماثلاً في احتفالات التحول أو
الشفاء. إن مجرد كون هذا المكان المركزي أو
التحويلي كهفًا كان قَصَدَهُ أولئك السبعة
لكي يناموا فيه لا يحتاج منَّا إلى إعمالِ
فكرٍ حتى نعلم أنهم مقبلون على اختبار يطيلون
فيه عمرهم إطالةً تقف بهم على حافة الخلود.
فلما استيقظوا علموا أنهم ناموا تسع سنوات
وثلاثمائة [الآية 25].
للقصة
المعنى التالي: كل مَن يدخل الكهف – أي الكهف
الذي لدى كلِّ إنسان مثلُهُ في نفسه، أو في
الظلمة التي تقبع خلف الواعية [= الوعي] consciousness – يجد نفسه في
سيرورة تحوُّل غير واع. وعندما يتوغل في أعماق
الخافية [= اللاوعي] unconscious،
يعقد صلةً مع محتوياتها، مما قد ينتج عنه
تغيُّر خطير في الشخصية، إيجابي أو سلبي.
وغالبًا ما يُفسَّر التحويل بمدٍّ في عمر
الإنسان زيادةً على عمره العادي أو الطبيعي
أو بخلود فعلي. يذهب إلى التفسير الأول كثيرٌ
من أهل الخيمياء[2]،
والثاني نجد مثالَه في أسرار إلفْسِس[3]. في
أثناء النوم، يتحول النيامُ السبعة، الذين
يدل عددُهم المقدس على أنهم آلهة، ويحصلون
بهذا التحول على شباب أبدي. وهذا يساعدنا، منذ
البداية، على أن نعلم أننا هنا حيال قصة
أسرارية. ثم إن المصير الذي آل إليه هؤلاء
الروحانيون، على نحو ما هو مدوَّن في القصة،
يستولي على قلب السامع، لأن القصة تعبِّر عن
سيرورات نفسية موازية لها موجودة في خافية
السامع، ما تلبث حتى تعود فتتحد بواعيته، لأن
استعادة الحالة الأصلية تساوي استعادة
جِدَّة الشباب.
تأتي
في أعقاب رواية هذه القصة بعضُ ملاحظات
أخلاقية تبدو وكأن لا علاقة لها بها. لكن هذا
الخروج عن السياق إنما يبدو كذلك في الظاهر
فقط. والحق أن هذه الملاحظات البنَّاءة هي ما
يحتاج إليه مَن لا يستطيعون أن "يلدوا
أنفسهم" ثانية، وعليهم أن يكتفوا بالمسلك
الأخلاقي، أي بالتمسك بالشريعة التي غالبًا
ما يكون التمسكُ بها عِوَضًا من التحول
الروحي. ثم تعقب هذه الملاحظات البنَّاءة
قصةُ موسى وخادمه يشوع بن نون [الآيات 60-82]: وإذ قال موسى لفتاهُ: لا أبرحُ حتى
أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حُقُبًا. فلما بلغا
مجمعَ بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في
البحر سَرَبًا. فلما جاوزا قال لفتاهُ: آتِنا
غداءَنا لقد لقينا من سفرنا هذا نَصَبًا. قال:
أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت
وما أنْسانيه إلا الشيطانُ أن أذكره واتَّخذ
سبيله في البحر عجبًا. قال: ذلك ما كنَّا نبغِ
فارتدَّا على آثارهما قَصَصًا. فوجدا عبدًا
من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلَّمناه
من لدنَّا علمًا. قال له موسى: هل أتَّبعك على
أن تعلِّمني مما عُلِّمتَ رُشْدًا. قال: إنك
لن تستطيع معي صبرًا. وكيف تصبر على ما لم
تُحِطْ به خُبرًا. قال: ستجدني إن شاء الله
صابرًا ولا أعصى لكَ أمرًا. قال: فإن
اتَّبعتَني فلا تسألني عن شيء حتى أُحدِثَ لك
منه ذكرًا. فانطلقا حتى إذا ركبا السفينة
خَرَقَها قال: أخرقتَها لتُغرِقَ أهلَها لقد
جئتَ شيئًا إمْرًا. قال: ألم أقل إنك لن تستطيع
معي صبرًا. قال: لا تؤاخذني بما نسيتُ ولا
ترهقني من أمري عُسرًا. فانطلقا حتى إذا لقيا
غلامًا فقتله قال: أقتلتَ نفسًا زكيَّة بغير
نَفْس لقد جئتَ شيئاً نُكْرًا. قال: ألم أقل لك
إنك لن تستطيع معي صبرًا. قال: إن سألتُك عن
شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغتَ من لَدُنِّي
عُذرًا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية
استطعما أهلها فأبَوا أن يضيفوهما فوجدا فيها
جدارًا يريد أن ينقضَّ فأقامه قال: لو شئتَ
لاتخذت عليه أجرًا. قال: هذا فراق بيني وبينك
سأنبِّئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا.
أمَّا السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر
فأردتُ أن أَعيبَها وكان وراءهم ملكٌ يأخذ
كلَّ سفينة غَصبًا. وأما الغلام فكان أبواه
مؤمنَيْن فخشينا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا.
فأردنا أن يُبدِلَهما ربُّهما خيرًا منه
زكاةً وأقربَ رُحمًا. وأما الجدار فكان
لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنزٌ
لهما وكان أبوهما صالحًا فأراد ربُّك أن
يبلغا أشُدَّهما ويستخرجا كنزَهما رحمةً من
ربِّك وما فعلتُه عن أمري ذلك تأويل ما لم
تستطع عليه صبرًا. هذه
القصة توسِّع قصة النيام السبعة ومشكلة
الولادة الثانية وتوضِّحها. إن موسى هنا هو
الذي يبحث، هو الإنسان صاحب السؤال. وفي سفره
يصحبه "ظلُّه" أو "فتاه" أو "الإنسان
الدون" (الروحاني والجسداني في هيئة شخصين
اثنين). ويشوع هو ابن "النون" – وهو اسم
للحوت أو "السمك" بعامة –، مما يُشعِرنا
بأن أصل يشوع يرتد إلى أعماق المياه، إلى ظلمة
عالم الظل. و"مجمع البحرين" هو برزخ
السويس، حيث يدنو البحران الغربي والشرقي
قربًا من بعضهما؛ بعبارة أخرى، هو "المكان
الوسط" الذي مرَّ معنا في الافتتاحية
الرمزية. لكن الرجل و"ظلَّه" لم يتعرَّفا
معناه في المرة الأولى؛ فقد نسيا "حوتهما"،
وهو مصدر طعام متواضع. كذلك يشير الحوت إلى
"أبي" الظل، الإنسان الجسداني، الذي
يأتي من عالم الخالق المظلم. ذلك أن الحوت
يعود إلى الحياة، ويقفز من السلَّة راجعًا
إلى حيث موطنُه من البحر. بعبارة أخرى، إن سلف
الحيوان وخالق الحياة ينفصلان عن الإنسان
الواعي؛ وهذا الانفصال حادثةٌ تبلغ مقدار
فقدان النفس الغريزية. وهذه السيرورة علامة
على "الفُصام"، المعروف جدًّا في
پسيكوپاثولوجيا [علم النفس المرضي] العُصاب،
ومتصل دائمًا بأحادية موقف الواعية. لكنْ،
بالنظر إلى أن الظاهرات العُصابية ليست غير
مبالغات في السيرورات الطبيعية، لا عجب أن
نجد ما يماثلها تمامًا في نطاق الحالات
الطبيعية أو المعتادة: إنها ظاهرة "ضياع
الروح"، المعروفة جدًّا لدى البدائيين،
كما وصفتُها فيما تقدَّم من القسم المتعلق
بضمور الشخصية؛ وفي اللغة العلمية، هو "هبوط
في المستوى الذهني". سرعان
ما يعرف موسى وفتاهُ بما قد حدث. لقد قعد موسى
على الأرض، وقد نال منه التعب والجوع. كان
واضحًا أنه قد شعر بالحاجة إلى الطعام. والتعب
من أكثر الأعراض دلالة على فقدان الطاقة أو
الليبيدو[4]. تمثل
السيرورةُ كلها لشيء نموذجيٍّ جدًّا، وأعني
به العجز عن التعرف إلى لحظةٍ حاسمةِ الأهمية
– وهو موضوع نصادفه في أشكال ميثية متنوعة
جدًّا. يدرك موسى، عن غير وعي منه، أنه وجد ينبوع
الحياة ثم أضاعه منه بعد ذلك – الأمر الذي
يمكن لنا اعتبارُه كشفًا كبيرًا. والحوت الذي
كان اعتزم موسى وخادمُه أن يأكلاه هو محتوى من
الخافية، الذي بواسطته يُعاد إنشاءُ الصلة مع
الأصل. فهو "المولود ثانية"، الذي أفاق
على حياة جديدة. لقد حدث هذا، كما يقول
المفسِّرون، من خلال الاتصال بـ"ماء
الحياة": بانسراب الحوت ثانيةً في البحر،
يعود ثانيةً فيصبح جزءًا من محتوى الخافية،
وتتميز ذُريتُه بأن لها عينًا واحدة ونصف رأس. لقد
تكلم الخيميائيون أيضًا على سمكة غريبة في
البحر: "السمكة المستديرة التي ليس لها عظم
ولا جلد"، وترمز إلى "العنصر المستدير"،
أصل "الحجر الحي"، ابن الفيلسوف filius philosophorum. ولـ"ماء الحياة"
مُوازٍ في الماء الدائم في الخيمياء. وهذا
الماء مُعظَّمٌ لأن "منه جُعِلَ كلُّ شيء
حي"، ناهيك عن أنه يملك خاصيَّة حلِّ جميع
الأشياء الصلبة وتجميد جميع السوائل. يقول
مفسِّرو القرآن إنه في البقعة التي اختفى
فيها الحوت تجمَّد البحرُ وتحوَّل أرضًا
صلبة، حيث مازالت تُرى آثارُه إلى اليوم. وفوق
الجزيرة التي تشكلتْ على هذا النحو، كان يجلس
الخضر، في "المكان الوسط". ويقول تفسيرٌ
صوفي إنه كان يجلس "فوق البحر"، أيضًا في
"المكان الوسط". ويبدو أن ظهور الخضر
مرتبط باختفاء الحوت ارتباطًا خفيًّا. ويكاد
الأمرُ يبدو كما لو أنه كان هو نفسه الحوت.
يؤيد هذا الظن أن المفسرين يحيلون ينبوع
الحياة إلى "مكان الظلمة" – وأعماق
البحر مظلمة. وللظلمة مُوازٍ في شوط "السواد"
nigredo،
المعروف عند الخيميائيين؛ وهي تحدث بعد
الاقتران، عندما تضم الأنثى الذكرَ إلى نفسها.
ومن السواد يخرج الحجر، رمز النفس الخالدة.
يضاف إلى ذلك أن ظهوره الأول يُشبَّه بـ"عينَي
السمكة".
ولعل
الخضر يرمز إلى النفس [الكلِّية] أو "الذات"
the
Self. فصفاته تُبرِزُ فيه
هذه السِّمة: يقال إنه وُلد في كهف، أي في
الظلمة؛ وهو "ذو الحياة المديدة" الذي
يجدد نفسه على الدوام، وهو في هذا مثل النبي
إلياس؛ كذلك هو مثل أوزيريس: تُقطَّع أطرافُه
في آخر الزمان، يقطِّعها له المسيح الدجال،
لكنه قادر على استعادة الحياة لنفسه؛ وهو
يشبه "آدم الثاني"، الذي يتماهى مع
السمكة التي تعود إليها الحياة؛ وهو المشير
الناصح، "الفارقليط" Paraclêtos [روح القدس بوصفه "المعزِّي"]
و"الأخ الخضر". على كلِّ حال، يسلِّم له
موسى بتفوق وعيه ويروم إلى التعلم منه. ثم يلي
ذلك إتيانُ الخضر أفعالاً لا يفهمها موسى،
تكشف عن كيفية رَجْع reaction
الأنيَّة الواعية على الإرشاد الفائق الآتي
من قِبَلِ النفس من خلال منعرجات القَدَر
وتقلُّباته. فهذه القصة هي للمريد القادر على
التحول سلوى وعزاء، وللمؤمن الملتزم حضٌّ على
التسليم بقدرة الله التي لا يحيط بها فهم.
والخضر فيها لا يرمز إلى الحكمة العليا
وحسب، وإنما إلى طريق للعمل يتفق مع هذه
الحكمة ويسمو على العقل أيضًا.
كل
مَن يسمع هذه القصة لا بدَّ وأن يجد نفسَه في
موسى السَّؤول وفي يوشع النسَّاء، ناهيك عن
أنها تكشف له عن كيفية حصول التجديد الذي يجلب
معه الخلود. لكن ما يلفت النظر أن الذي تحوَّل
ليس هو موسى ولا فتاه، بل هو الحوت المنسي.
فلقد كان المكان الذي اختفى فيه الحوت هو
المكان الذي وُلد فيه الخضر. فالكائن الخالد
يخرج من مكان متواضع ومنسيٍّ، بل من مصدر لا
يخطر ببال أحد. إن هذا هو "الثابت"
المألوف في ولادة البطل، ولا نرى حاجة هنا
لتأييده بالوثائق. فكل مَن يعرف الكتاب
المقدس يتذكر آية سِفْر أشعيا 53: 2 وما بعدها،
حيث نجد وصفًا لـ"عبد الله"، وحكاياتِ
الإنجيل عن الولادة. فصفة "القوت" التي
يتصف بها جوهرُ التحويل أو الألوهة نجدها في
عدد من القصص الديني: فالمسيح هو الخبز،
وأوزيريس القمح، ومُنْدامين الذرة، إلخ. تتفق
هذه الرموز مع حقيقة نفسية من الواضح أنها، من
وجهة نظر الواعية، تحمل معنى تمثُّلِ شيءٍ
ما، لكنْ يُصرَف النظرُ عن طبيعته الحقيقية.
وتُظهِرُ رمزيةُ الحوت مباشرةً ماهيةَ هذا
الشيء: إنه التأثير "الغذائي" الآتي من
قِبَلِ محتويات الخافية، التي تحافظ على
حيوية الواعية عن طريق الدفق المستمر من
الطاقة، من حيث إن الواعية لا تنتج طاقةً
بنفسها. ما هو قادر على التحويل هو هذا الجذر
الذي ترتبط به الواعية، ويُمِدُّ الواعيةَ
بكلِّ طاقتها، وإنْ كان غير ظاهر، بل لَيكاد
أن يكون غير مرئيٍّ (أي غير موعيٍّ). ولما كانت
الخافية تُشعِرنا بأنها شيء غريب عنَّا، أي
نوع من الـ"لا–أنيَّة" non-ego، كان من الطبيعي أن
نرمز إليها بشيء غريب. فهي، من ناحية، أكثر
الأشياء أهمية؛ وهي، بمقدار ما تحتوي بالقوة
على تلك الكلِّية "المستديرة" التي
تفتقر إليها الواعية، أهم شيء على الإطلاق.
هذا الشيء "المستدير" هو الكنز العظيم
الذي يختبئ في كهف الخافية، وتشخيصه هو الكائن
الفرد الذي يمثل وحدة الواعية والخافية
كلتيهما. وهذا الشخص يمكن مقارنته بهِرانيا
گاربها[6]
وپوروشا[7]
وآتمن[8]
وبوذا. لهذا السبب رأيت أن أسميه "النفس"
أو "الذات". وأريد
بـ"الذات" كلِّية نفسية، هي في الوقت
ذاته مركز لا يلتقي منه شيء مع الأنيَّة ego،
بل هي تشتمل على هذه الأخيرة مثلما تحيط
الدائرةُ الكبرى بدائرة أصغر منها. إن
حدس الخلود الذي يُشعِرُنا بنفسه في أثناء
التحول مرتبط بما تتصف به الخافيةُ من طبيعة
خاصة. فالخافية، بمعنى ما، غير مكانية وغير
زمانية. والدليل التجريبي على ذلك حصولُ ما
يسمَّى بالظاهرات التليپاثية telepathy
[= التخاطرية] التي مازال ينكرها
النقادُ المتشككون، على الرغم من أن هذه
الظاهرات هي، في الواقع، أكثر شيوعًا مما قد
يُظن عمومًا. ولعل أصل الشعور بالخلود يرجع
إلى شعور خاص بالامتداد في الزمان والمكان.
وإني لأميل إلى اعتبار شعائر التأليه في
ديانات الأسرار "إسقاطًا" projection
لهذه الظاهرة النفسية بالذات. وصفة "النفس"
أو "الذات"، باعتبارها شخصية، تظهر في
صراحة بالغة في قصة الخضر. وقد عبَّرتْ عن هذا
الملمح تعبيرًا يستلفت النظر كثيرًا القصصُ
غير القرآنية المتعلقة بالخضر، وقد أعطى عنها
فولرز بعض أمثلة صارخة. في
أثناء رحلتي إلى كينيا، كان رئيسُ القافلة
رجلاً من الصومال نشأ نشأةً صوفية، وكان
الخضر عنده شخصًا حيًّا بكلِّ معنى الكلمة.
وقد أكد لي أنني أستطيع أن ألقى الخضر في كلِّ
وقت، لأني، كما عبَّر عن ذلك باللغة
السواحلية، "مؤتو يا كتابو"، أي من "أهل
الكتاب"، ويريد بذلك القرآن. ولقد استنتج
من حديثي معه أنني أعرف القرآن خيرًا منه (وكان،
للمناسبة، لا يقول شيئًا كثيرًا)؛ ولهذا
السبب اعتبرني "إسلامو"، مسلمًا. قال لي
إنني أستطيع أن ألقى الخضر في الشارع في هيئة
إنسان، أو ربما يظهر لي في الليل نورًا أبيض
نقيًّا أو – واقتطف مبتسمًا نصلاً من عشب –
ربما بدا الخضر حتى مثل هذا. قال لي إنه هو
نفسه وجد من الخضر عزاءً ومَدَدًا عندما لم
يستطع أن يجد عملاً بعد الحرب، وكان يشكو من
الفقر. فبينما كان ينام في إحدى الليالي، إذ
حلم بأنه رأى نورًا أبيض ساطعًا بالقرب من
الباب، فعلم أنه الخضر، فهبَّ واقفًا على
قدميه (في الحلم)، وسلَّم عليه باحترام بقوله
"السلام عليكم"، ثم علم بأن أمنيته سوف
تتحقق. ثم أضاف: بعد بضعة أيام عُرِضَ عليه
منصبُ رئيس القافلة من قبل مكتب يتولَّى
تجهيزَ المسافرين في نيروبي. هذا
يدل على أن الخضر مازال، حتى في يومنا هذا،
حيًّا في ديانة الناس، بوصفه وليًّا وناصحًا
ومعلِّمًا لحكمة الوحي. ثم إن المنزلة التي
تُنزله العقيدة منها هي، بحسب صديقي
الصومالي، منزلة "ملايكو كوانزا يا مونغو"،
أي "الملاك الأول عند الله"، أو "كبير
الملائكة"، وهي منزلة رسول. أما صفة الخضر
وليًّا، فتبيِّنها الآيات التالية من السورة
الثامنة عشرة [الآيات 83-101]: ويسألونك عن ذي القرنين قُلْ: سأتلو
عليكم منه ذِكرًا. إنَّا مكنَّا له في الأرض
وآتيناه من كلِّ شيء سببًا. فأتبع سببًا. حتى
إذا بلغ مغربَ الشمس وجدها تغرُبُ في عين
حَمِئة ووجد عندها قومًا قلنا: يا ذا القرنين
إمَّا أن تعذِّب وإمَّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا.
قال: أما مَن ظَلَمَ فسوف نعذِّبُه ثم يُرَدُّ
إلى ربِّه فيعذِّبَه عذابًا نُكرًا. وأمَّا
مَن آمَن وعمل صالحًا فله جزاءً الحسنى
وسنقول له من أمرنا يُسرًا. ثم أتبع سببًا. حتى
إذا بلغ مطلِعَ الشمس وجدها تطلُعُ على قوم لم
نجعل لهم من دونها سِترًا. كذلك وقد أحطنا بما
لديه خُبرًا. ثم أتبع سببًا. حتى إذا بلغ بين
السدَّيْن وجد من دونهما قومًا لا يكادون
يفقهون قولاً. قالوا: يا ذا القرنين إنَّ
يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لكَ
خَرجًا على أن تجعل بيننا وبينهم سدًّا. قال:
ما مكَّنِّي به ربِّي خيرٌ فأعينوني بقوةٍ
أجعلْ بينكم وبينهم رَدْمًا. آتوني زُبَرَ
الحديد حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَين قال:
انفخوا حتَّى إذا جَعَلَه نارًا قال: آتوني
أُفرِغْ عليه قِطْرًا. فما اسطاعوا أن
يَظهَروه وما استطاعوا له نَقْبًا. قال: هذا
رحمةٌ من ربِّي فإذا جاء وعدُ ربِّي جعلَه
دَكَّا وكان وعدُ ربِّي حقًّا. وتركْنا
بعضُهم يومئذٍ يموج في بعضٍ ونُفِخَ في
الصُّور فجمعناهم جمعًا. وعرضنا جهنَّم
يومئذٍ للكافرين عَرضًا. الذين كانت أعيُنُهم
في غطاءٍ عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سَمْعًا. ما
هي الصلة بين الخضر و"ذي القرنين"، وما
الذي زجَّ بهذا الأخير هنا؟ إنهما صديقان
قرينان، يشبهان زوجَي الذيوسكوري[9]،
كما يؤكد ذلك فولرز بحق. لذلك يمكن لنا
افتراضُ الرابطة الپسيكولوجية كما يلي: لقد
عانى موسى من خبرة للنفس أو الذات في العمق
وضعتْ سيرورات الخافية نصب عينيه في وضوح
غامر. ولما عاد بعدئذٍ إلى قومه اليهود –
وكانوا يومئذٍ من "الكافرين" – وأراد أن
ينبئهم بخبرته، آثَر أن يعرضها بصيغة حكاية
أسرارية، وبدلاً من أن يتكلم عن نفسه، تكلَّم
عن ذي القرنين. وبما أن موسى كان هو نفسه "أقرن"
أيضًا، يبدو من الواضح أن يكون ذو القرنين
بدلاً منه. ثم كان عليه أن يروي حكاية هذه
الصداقة وأن يصف مغرب الشمس وطلوعها، أي أن
يصف طريقة تجدد الشمس من خلال الموت والظلمة
والانبعاث الجديد. وهذا كله إشارةٌ إلى أن
الخضر لا يقف إلى جانب الإنسان في احتياجاته
البدنية وحسب، وإنما يُعينه أيضًا على بلوغ
الولادة الجديدة.
صحيح
أن القرآن لا يفرِّق في هذا الرواية بين الله
الذي يتكلَّم بصيغة جمع المتكلم [الآيات 99-101]
وبين الخضر، إلا أن من الجلي أن هذا المقطع ما
هو إلا استمرار للأفعال المُسعِفة التي جاء
وصفُها في الآيات السابقة، التي يتضح منها أن
الخضر ترميز لله أو "تجسيد" له. وتلعب
الصداقةُ بين الخضر والإسكندر دورًا بارزًا،
خصوصًا في التفسيرات، مثلما تلعب الرابطةُ
بين الخضر والنبي إلياس الدورَ ذاته. ولم
يتردد فولرز في مدِّ المقارنة إلى ذينك
الزوجين من الأصدقاء، گلگامش وأنكيدو. نُجمِلُ
ما تقدم فيما يلي: كان على موسى أن يروي أفعال
الصديقين إلى قومه بأسلوب حكاية أسرارية غير
شخصية. وهذا يعني، پسيكولوجيًّا، أن التحول
يجب أن نَصِفَه أو نشعر به حادثةً جرت للـ"آخر".
فعلى الرغم من أن موسى نفسه كان هو الذي يحتل
مكان ذي القرنين في خبرته مع الخضر، كان عليه
أن يسمِّي هذا الأخير بدلاً من أن يسمِّي نفسه
وهو يروي القصة. ليس هذا من قبيل المصادفة،
لأن الخطر النفسي الأكبر الذي يتصل دائمًا
بالتفردُن (الانتقال من الجزئية إلى الكلِّية
أو من الانقسام إلى الجمعية) أو التطور إلى
النفس أو الذات، يكمن في تماهي الأنيَّة
الواعية مع النفس أو الذات. إن هذا يورِث
انتفاخًا يهدد الواعية بالانحلال. وتُظهِرُ
جميعُ الثقافات، ولاسيما أكثرها بدائية أو
قِدَمًا، عن حسٍّ لطيف بـ"مخاطر الروح"
وانتفاء مسؤولية الآلهة وما ينطوي عليه ذلك
من خطر شامل. أي أنها مازالت محافِظةً على
فطرتها النفسية أمام السيرورات الخفية
والحيوية التي تحدث في الأغوار العميقة التي
لا نكاد نسمع عنها شيئًا في ثقافتنا الحديثة.
إثباتًا لذلك، أمام أعيننا تحذيرٌ مماثل
تمامًا، هو ثنائي نيتشه وزرادشت الذي شوَّهه
الانتفاخ، لكن هذا التحذير لم يلقَ ما يستحقه
من مبالاة. ثم ماذا ترانا صانعين بفاوست
ومفستوفيلِس؟ إن تعجرُف فاوست خطوةٌ أولى نحو
الجنون. أن يكون بدء التحول عند فاوست كلبًا،
لا سمكًا يؤكل، وأن يكون المتحول هو الشيطان،
لا وليًّا حكيمًا، "آتيناه رحمة من عندنا
وعلَّمناه من لدنَّا علمًا"، ربما يقدِّم
لنا – كما أميل إلى الاعتقاد – مفتاحًا نفك
بواسطته مغاليق الروح الجِرْمانية البالغة
الغموض.
دون
أن أدخل في تفصيلات أخرى تتعلق بالنص، أحب أن
ألفت الانتباه إلى نقطة أخرى، وهي بناء
السدِّ أمام يأجوج ومأجوج. فهذا "الثابت"
تكرارٌ لآخر عمل قام به الخضر في القصة
السابقة – وأعني إعادته لبناء جدار المدينة [الآية
77]. لكن الجدار هذه المرة قُدِّرَ له أن يكون
دفاعًا حصينًا أمام يأجوج ومأجوج. ولعل هذه
الفقرة تشير إلى رؤيا القديس يوحنا 20: 7-10: وإذا انقضتْ ألف سنة، يُطلَق الشيطانُ
من سجنه، فيسعى في إغواء الأمم التي في زوايا
الأرض الأربع، أي يأجوج ومأجوج، فيجمعهم
للقتال، وعددهم عدد رمل البحر. فصعدوا
رَحْبَةَ البلد وأحاطوا بمعسكر القديسين
بالمدينة المحبوبة، فنزلت نارٌ من السماء
فالتهمتْهم. وطُرِحَ إبليسُ، فتَّانُهم، في
مستنقع النار والكبريت، فلَحِقَ بالوحش
والنبيِّ الكذاب، حيث يكابدون العذابَ
نهارًا وليلاً أبدَ الدُّهور. هنا
يأخذ ذو القرنين دور الخضر ويبني السدَّ
المنيع للقوم الذين يسكنون "بين
الصَّدَفين" أو بين الجبلين. واضحٌ أن هذا
المكان هو نفسه الواقع في الوسط الذي يجب
حمايته من يأجوج ومأجوج، وهي الكتل العدوانية
الفاقدة الملامح. پسيكولوجيًّا، المسألة
أيضًا هي مسألة "النفس" أو "الذات"،
المستوية على العرش في الوسط، التي أشير
إليها في رؤيا يوحنا بـ"المدينة المحبوبة"
(أورشليم، مركز الأرض)؛ والنفس أو الذات هي البطل،
الذي تهدِّده القوى الجماعية الحاسدة منذ
ولادته، الجوهرة التي يتشهَّاها الجميع
وتورِث العداوةَ والبغضاءَ وما ينجم عنهما من
اقتتال؛ وهو أخيرًا الإله الذي تُقطِّع
أوصالَه قوى الظلام الشريرة القديمة. سيرورة
التفردُن Individuation Process، في معناها
الپسيكولوجي، عمل مُنافٍ للطبيعة، يوجِد
هَلَعًا في طبقة المجموع، وهو مهيَّأ
للانهيار تحت تأثير قوى النفس الجامعة.
والقصة الأسرارية التي تحكي حكاية الصديقَين
المتعاونَين تَعِدُ بالحماية مَن يجد
الجوهرةَ في سعيه الدائب للعثور عليها. لكن
زمانًا سوف يأتي، وفقًا لما رسمتْه العنايةُ
الإلهية، ينهار فيه السدُّ الحديدي ويتفتت،
أي في اليوم الذي سوف ينتهي فيه العالم، أو،
بالمعنى الپسيكولوجي، عندما تنطفئ واعيةُ
الإنسان في مياه الظلمات، أي عندما يشهد
العالمُ نهايةً "ذاتية" له. والمُراد
بذلك اللحظةُ التي تعود فيها الواعيةُ تغوص
في الظلمة التي انبثقت منها أصلاً، مثل جزيرة
الخضر: لحظة الموت. ثم
تمضي القصةُ على خطوط إسكاتولوجية [= نشورية،
تتعلق بأحوال القيامة والآخرة]: في ذلك اليوم
يعود النورُ نورًا أبديًّا، والظلامُ ظلامًا
أبديًّا، وتنفصل الأضدادُ بعضها عن بعض،
وتبدأ حالةٌ من الديمومة ليس فيها زمان. وهي
حالة من التوتر الشديد، بسبب الانفصال المطلق
بين الأضداد. ولذلك تنطبق على الحالة البدئية
الأولى. ويحدث هذا خلافًا للنظرة التي ترى
النهايةَ جمعًا بين الأضداد. بهذا
المشهد من الأبدية، والجنة والنار، تأتي
السورة الثامنة عشرة على نهايتها. وعلى الرغم
مما تتصف به من انقطاع وإيحاء، تعرض لنا
صورةً، تكاد أن تكون كاملة، عن التحول أو
التجدد النفسي الذي صرنا اليوم نعرفه باسم
"سيرورة التفردُن" بفضل تبصُّرنا
الپسيكولوجي العظيم. وبسبب من قِدَم القصة،
تحدث السيرورة كلها خارج نطاق الواعية، ويجري
"إسقاطُها" في قصة أسرارية تحكي عن صديق
أو عن زوجين من الأصدقاء وما يقومان به من
أفعال. ومع ذلك تعبِّر القصة عن نموذج التحول
الخفي تعبيرًا مذهلاً تجد فيه العاطفةُ
الدينيةُ العربية ارتياحَها التام. وإنه لهذا
السبب يلعبُ شخصُ الخضر هذا الدور الكبير في
التصوف الإسلامي. *** *** *** ترجمة:
نهاد خياطة [1] ميثرا Mithra:
إله إيراني نقع عليه في الديانة الهندية في
العصر الڤيدي (حوالى 1300 ق م). انتشرت
عبادتُه في العصر الهلنستي في آسيا الصغرى،
ثم انتقلت منها في القرن الأول ق م إلى
روما، حيث عُدَّتْ من بين أهم ديانات
الأسرار. كثيرًا ما مُثِّل لميثرا معتمرًا
قبعةً ومضحيًا بثور. وقد نافست عبادتُه
المسيحيةَ في بداياتها، إذ تضمنتْ
عناصرُها الرئيسية مسارَرةً تشتمل على سبع
درجات ومآدب مقدسة وقرابين حيوانية. (المحرِّر) [2] الخيمياء أو الكيمياء Alchemy: علم باطني منسوب إلى المصريين
القدماء (اسم مصر القديم هو كِمي Kemi،
ويعني "الأرض السوداء")، الغاية منه
التحصُّل على "حجر الفلاسفة" أو "الإكسير
الأعظم" القادر على إحداث "تحويل" Transmutation جذري في الكيان وفي المادة،
وبخاصة تحويل المعادن الخسيسة (كالرصاص)
إلى معدن نفيس (فضة ثم ذهب)، وذلك عِبْر
ثلاثة أشواط: شوط "السواد" nigredo، شوط "البياض" albedo، وشوط "الحَمار" rubedo. (المحرِّر) [3] إلفسِس Eleusis: بلدة بحرية في اليونان (شمال
غرب أثينا) كان يُحتفى فيها قديمًا بأسرار
روحية مكرسة لعبادة ذيمترا Dêmêter، إلهة
الخصوبة، الصورة المؤلَّهة للأرض المرضعة،
وأم پرسفوني Persephone. (المحرِّر) [4] يشير مصطلح ليبيدو libido
في علم النفس التحليلي إلى الطاقة
النفسية بعامة، لا إلى الطاقة الجنسية
حصرًا، كما في التحليل النفسي الفرويدي. (المحرِّر) [5] اخترنا هذه الأركان حصرًا،
ناهيكم عن الركنين 15 و20، بمقتضى متوالية
عددية مطبَّقة على العمل الخيميائي opus alchemicum. (المحرِّر) [6] هِرانيا گاربها Hiranyagarbha: "بيضة الكون" في الميثولوجيا
الهندية، "الجنين الذهبي" الذي يولد
في الكهف، أي في "فجوة" القلب. (المحرِّر) [7] پوروشا Purusha:
"الرب"، الإله الشخصي في التراث
الديني الهندوسي. (المحرِّر) [8] آتمن Âtman: "الروح"،
الذات الحق، شعاع فرد صادر عن الوجود
المطلق، وبذلك يتصف بصفاته كلِّها؛ وهو أصل
تجلِّيات الطبيعة كافة. (المحرِّر) [9] الذيوسكوري Dioscuroi: "ابنا زِفْس"، كبير
الآلهة، لقب يُطلَق على كاستور Castor وپولوكس Pollux؛
هما، في الميثولوجيا الإغريقية، ابنان
توأمان لزِفْس Zeus
من ليدا Leda. يُطلَق اسماهما على كوكبتَي برج الجوزاء.
(المحرِّر)
|
|
|