|
رحيل
المؤرِّخ والمفكِّر اللُّبناني نقولا زيادة يصعب
على المرء أن يختصر في مقال
عابر رجلاً يكاد أن يختصر قرنًا كاملاً في
شخصه وسيرته وكتاباته. فكيف إذا كان هذا الشخص
هو المؤرخ نقولا زيادة، الفلسطيني السوري
اللبناني المشرقي العربي، الذي توفي بالأمس
[28/07/2006] عن أكثر من 99 عامًا، تاركًا وراءه
أبحاثًا ودراساتٍ تاريخيةً ومذكراتٍ في
العربية والإنكليزية والألمانية، تشهد كلها
لطول باعه وأمانته للأحداث وحكمته الموضوعية
وشغفه المعرفي وأستاذيته وتأدُّبه اللغوي
وانشغاله بقضايا وطنه وأمَّته. نقولا زيادة (1907-2006) هو المؤرخ "الأستاذ":
ذلك أن مهمة التأريخ عنده لم تكن عكوفًا على
حوادث هذا التاريخ وإشكالياته وقضاياه
ومحطاته فحسب – وله فيها آثار جليلة؛
فهي قد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بمهمته
التدريسية الطويلة الأمد في الجامعة
الأميركية والجامعة اليسوعية والجامعة
اللبنانية والجامعة الأردنية في عمان
وكلِّية الشرق الأدنى في بيروت. بين التأريخ والأستاذية،
يحضر نقولا زيادة قامةً علميةً رصينة، لم
تسمح للمؤثرات والانفعالات، مهما علا شأنها،
أن تصادر الحقائق لصالحها. كان
التاريخ في نظره وقائع وأحداثًا تستمد
أهميتها من اندراجها في المجرى التاريخي ومن
علاقتها بهذا الاندراج، تأثرًا وتأثيرًا
وتفاعلاً، في حركية جدلية دينامية،
تساهم في تقديم العِبَر للَّذين يهتمون بحركة
التاريخ ودلالات هذه الحركة وعلاقاتها
الموضوعية بالتحولات والتغيرات على مرِّ
الزمن. والأجيال التي درست على يديه، أخذت عنه
احترامَه العلمي العميق لمعنى التأريخ؛ فكان
أستاذًا شاهدًا ومعلمًا، أي أنه كان مثالاً
يُقتدى به في عملية التدريس التاريخي الشاقة،
المليئة بالمزالق والمطبَّات. لم يقع نقولا
زيادة في هذه الشِّراك لأنه كان يؤمن بأن
العلم هو العلم، وبأن لا فائدة تُرجى من
التاريخ إذا لم يكن مادةً لكشف النقاب عن
الحقائق لوضعها في خدمة المجتمعات والأفراد
الذين يبحثون عن فتح مجالات التطور أمام
حياتهم الشخصية وحياة مجتمعاتهم وأوطانهم. المؤرخ الأستاذ كان
فلسطينيًّا، بمعنى أنه كان ابن هذه الأرض
التي صارت فيما بعد مأزقًا تاريخيًّا
وجغرافيًّا وحضاريًّا وسياسيًّا، ليس لأهلها
الأصيلين فحسب، وإنما أيضًا للعالم أجمع.
مذكراته وذكرياته وسيرته تقدِّم للقارئ
المهتم جوانبَ من سيرة مأساة هي سيرة المأساة
الفلسطينية مطلقًا. وهو، وإنْ لم يؤرخ للقضية
الفلسطينية، فقد كتب ملامح ومحطات ومشاغل
ولحظات وذكريات فيها لا تزال تُقرَأ في شغف
وانتباه. بالذاكرة القوية التي تسجِّل
الأحداث والأشياء في أدق تفاصيلها، استطاع
نقولا زيادة أن يترك لنا كتبًا تستحق الرجوع
إليها، نظرًا إلى ما حملتْه على هذا المستوى
من بصمات علمية وإنسانية بالغة الأثر. لكنه أيضًا كان
لبنانيًّا وعربيًّا في المعنى الثقافي
والحضاري والإنساني الأوسع والأرحب. إذ لم
ينغلق على هويته الضيقة، ولم تشغله ذاتيَّته
الفلسطينية عن الإلمام بقضايا أمَّته
وتحدياتها الثقافية والحضارية. وقد وجد في
بيروت المكان الصالح ليأخذ علمُ التاريخ
الإنساني مجراه الحر، ولتأخذ العلاقاتُ
البشرية أوسع مفاهيمها وأغنى قيمها. بل لقد
كان نقولا زيادة موسوعيًّا وإنسانيًّا –
وهذه من الصفات التي تحصِّن معنى المؤرخ
وتنأى به عن الضيق والتقوقع، وتجعله عقلاً
نيِّرًا ومنفتحًا يمكِّنه من أن يكون على
بيِّنة من المعطيات والمعارف التي تتبلور
فيها المنعطفاتُ والتحولات. لهذا السبب،
ربما، أمضى نقولا زيادة حياته كمؤرخ في البحث
والتنقيب الهادئ والمتأنِّي، وفي فتح الآفاق
وإثارة الأسئلة وزرع الشكوك المثمرة في
سياقات معرفية الغاية منها الوصول إلى
الحقائق العلمية والموضوعية التي تنطوي
عليها دينامية التاريخ والتي يُستنار بها
للعيش في الحاضر وللتفاعل مع آفاق المستقبل. من بين الأفكار
التي آمن بها نقولا زيادة قولُه عن كتابة
التاريخ إنها "متعة عقلية". لكنه رأى،
بحكم الاختبارات والمقارنات والتجارب، أن
"لا أحد يتعلم من دروس التاريخ المريرة
والموجعة، فالأخطاء نفسها تتكرر على الدوام"،
وأن "القوة هي الأساس في العالم، القوة
التي تُخضِعُ البشر أو تخوِّفهم أو تغريهم أو
تُفسِدُهم، السلاح النووي خصوصًا"، وأن
"رائحة البترول" هي التي تحرِّك الدول
العظمى، لا الحق ولا الضمير ولا الحقيقة. وفي رأيه أيضًا أن "الزعماء
الفلسطينيين، وأظن جميع الزعماء العرب، لم
يفهموا تمامًا معنى وعد بلفور"، وأن "همهم
أن يكونوا زعماء، وبعد ذاك يهتمون بالقضية"،
وأن العرب لم يهتموا بتطوير قدراتهم وفقًا لإمكاناتهم
المادية: فقد "كان يجب أن يكون هناك نهضة
علمية صناعية عند العرب، لكن لم يهتم أحد
بأهمية هذا الأمر". ترك نقولا زيادة نحوًا من
أربعين كتابًا، بينها: رواد الشرق العربي في
العصور الوسطى، وثبة العرب، العالم
القديم (في جزأين)، صور من التاريخ العربي،
شخصيات عربية تاريخية، صور أوروبية، عالم
العصور الوسطى
في أوروبا،
قمم من الفكر العربي الإسلامي، أيامي،
المسيحية والعرب، مشرقيات. بالأمس، مات نقولا زيادة
"غنيًّا" – هو الذي كان دائمًا يخاف من
"هذا الوحش
المسمَّى فقرًا"! غناه الجوهري ليس يقاس
بالمال، إنما بالقيم التي آمن بها، وبكتب
المعارف التاريخية التي وضعها بين أيدي
المهتمين والتي في إمكانها أن تساهم في جعلنا
ننتصر على الفقر المعرفي، بما من شأنه أن
يضعنا في قلب العالم وفي قلب الحداثة، بل وفي
قلب المستقبل أيضًا. *
* *
***
*** *** عن
النهار، السبت 29 تموز 2006
|
|
|