|
الحب
جوهر الوجود ودافعي إلى الكتابة يوسف أبو رية روائي مصري شاب، تحرِّك
إصداراتِه الأسئلةُ المعتملةُ في سديم العقل
الباطن. الحب ثيمة أساسية في كتابته. كرَّمتْه
الجامعةُ الأمريكيةُ في مصر لمناسبة نيله "جائزة
نجيب محفوظ" عن روايته عاشقة الحي. عن مجمل نتاجه وروايته وعلاقته
بالكتابة، كان بيننا هذا الحديث. *
* * عناية جابر:
هل تجري روايتك في عالم واقعيٍّ تمامًا، أم
يتضمَّنها ذلك التأمل الشاعري للوجود، عبر
إحدى شخصياتها – ولتكن هذه الشخصية "قطًّا"،
كما في عاشقة الحي؟ يوسف أبو رية:
لا يمكن، ولا بحال من الأحوال، فصلُ الواقعي
عن غير الواقعي: كل لحظة يحياها الإنسان هي
مزيج بين الحالتين معًا. كيف يمكن فصل الأحلام
عما هو معيش ويومي؟ كيف يمكن نزع الكوابيس عما
يقع من تفاصيل الحياة؟ وهكذا دواليك... العقل
الواعي والعقل الباطن في نزاع دائم، أو قولي،
في صراع لا نهاية له: الأول يريد تحجيمه
والسيطرة عليه، والثاني لا يكف عن زحزحة
القشرة الصلدة للأول ليخرج بركانُه بلهيبه
ودفقه الناري. الأرض، على الرغم من ظاهرها
المتماسك، لم تزل تمور بلهبها الأولي. وكذلك
الإنسان، وخاصة حين يتعاطى الفنَّ بكلِّ
تجلِّياته: إنه يمتح مما هو عفوي وبدائي، مهما
ادَّعى العقلانية، مهما أبدع من تكنولوجيا
عظيمة. إن كلاًّ من فرويد ويونغ لمس
هذا الجانب المسيطر على الذهنية المنضبطة
للإنسان الحديث: الأول على المستوى الفردي،
والثاني على المستوى الجمعي. وأنا أميل أكثر
إلى مقولات يونغ حول سيطرة الموروث البدائي
على تصور الإنسان للكون. فقد مدَّ اكتشافات
فرويد إلى نهايتها، وابتكر تفسيرًا أشمل، إذ
نقل العقل الباطن من جانبه الفردي إلى مستوى
الجماعة البشرية فيما يُسمِّيه بـ"اللاوعي
الجمعي". موروثنا القديم وتراثنا الشفاهي
لمَّا يزل يمسك بتلابيبنا، لمَّا نزل نهتز
لقراءة الملحمة، ولم تزل تشغفنا الأسطورةُ
والخرافةُ والتصوراتُ الأولية للكون كلها. هذه هي منابع جميع الكتَّاب
الذين عشقت إبداعاتهم، من فوكنر إلى ماركيز.
إنهم يشيرون بإصبع لا تهتز إلى النبع الأول
الذي نهل منه الإنسان. وهذا اجتهادي أنا أيضًا
في معظم نتاجي الأدبي: من قصة الفارس وأنا في
غرفتي حتى احتفائي بمجاذيب الشوارع الذين
يهيمون على وجوههم بسُحنات الفلاسفة
القدماء، كما بدا من مجموعتي القصصية الأخيرة
شتاء العري. وقد امتد هذا إلى الروايات،
منذ العمل الأول عطش الصبار الذي يرصد
رحيل زبيدة: وحين
انتهى المشيِّعون من جنازتها، وأدَّى
الملقِّن الكلماتِ الأخيرةَ على سمع الميتة،
قام المشيِّعون فأرادت من مقبرتها القيام
معهم، غير أن السقف الذي انخفض والأرض التي
ارتفعت منعاها من القيام. وكذلك في الجزيرة البيضاء،
حيث يُبعَثُ الموتى ليودعوا رجلاً من جيلهم
عاشوا معه يومًا وكانوا أصدقاء له أو جيران من
الحي نفسه. ثم أخيرًا، في عاشقة الحي،
أستعيد أسطورة القط الذي جعل منه أهلُ
المنطقة الشرقية التي أنتمي إليها إلهًا
محليًّا، ضمن عبادتهم للإله المركزي الذي
يعبده المصريون كافة (آمون). الإلهة بوباستِت
التي تتصدر بتمثالها الغرافيتي الأسود مدخل
عاصمة الإقليم، أحولها إلى إله ذكر، يتقمَّص
روحَ العاشق الحقيقي لبطلة الرواية، فيخطفها
من زوجها، ليبدأ الزوج رحلةً شاقةً لاستعادة
الزوجة التي لم يتأكد من عشقها له يومًا. بهذه الأمثلة أدلِّل على
الامتزاج والتداخل بين الواقعي، بتفاصيله
الحادة، وبين الفانتازي، بشطحاته الرائعة،
المعبِّرة عن رؤية الإنسان القديم للعالم –
وهي الرؤية التي رسخت في عقول الأجداد
والجدات، الآباء والأمهات. ولما تزل هذه
الرؤية هي الأقوى والأكثر سيطرة على عقول
العامة، مهما اتسعت أطروحاتُ العلم والصورة–البديل
التي قدَّمها للعالم. المونولوغ
أحد الحلول ع.ج.:
هل تميل إلى تظهير المونولوغ الداخلي في
رواياتك؟ هل تلجأ إليه؟ وما هي وظيفته؟ وإلى
أي حدٍّ هو ضروري كمكبِّر صوت يعلِّمنا
الكثير عن أنفسنا؟ ي.أ.ر.:
إنني ألجأ إلى وسائل متعددة داخل النص الواحد.
ففي حالات كثيرة، أراني أحادث الشخصيةَ من
خارجها، فأضع مسافةً معقولةً بين الراوي
وشخصيات النص الأدبي، فيأتي ضمير المخاطب
كأنه القدر الذي يكشف الخفايا والمسكوت عنه.
وقد تجلَّى هذا تجليًّا واضحًا في كثير من
قصصي القصيرة، منذ قصص مجموعتي الأولى الضحى
العالي. فهذا الولد الذي تسحبه العانس إلى
غرفتها لتمارس معه فعلاً لا يفهمه ولا
يستوعبه عقلُه الصغير، وإنْ لم يخلُ من
المتعة في نظره – حين تنتهي المرأة من فعلها
المزلزل، تلقي به كعلقة ميتة، فيتدخل الصوتُ
مخاطبًا إياه: يا
أيها الصبي، اعرف أنك لا تنام... تظل عيناك
يقظتين في الظلمة، تستحضر وجه أمِّك، وتنظر
برعب إلى الصور المعلَّقة. قالت لك يومًا إنها
تمثل الإمام الحسين وولديه الحسن والحسين،
فيتضاعف رعبُك. هل هو صوت الضمير الفظ، أم
هي دقات القدر المرعبة على رأس الولد الذي لا
يدري من أمره شيئًا، يستنكر الفعل، ولا يملك
له ردًّا؟ وقد استعدت هذا الصوت في رواية ليلة
عُرس لقدرته على تقديم حلول فنية، كالتعامل
مع شخصية خرساء، عاجزة عن الكلام باللسان،
فتستعيض عن هذا ببلاغة اليد، كما ألمح أحد
النقاد في تقريره الذي قدَّمه لدى حصولي على
"جائزة نجيب محفوظ". الرواية تخاطب حودة
الأخرس، لترى بعينيه وتسمع بأذنيه وتتلمس
عالمه بحواسها هي، متقمِّصة إياه على قدر
المستطاع. وهنا جاء المونولوغ كأحد الحلول
الرائعة للغور في أعماق شخصية الأخرس، بكلِّ
نوازعها ورغائبها وشهواتها – تقمُّص آخر
يتيح للعاجز عن الكلام النطقَ بلواعج النفس،
وهي نفس موَّارة بشهوات جنسية لا انطفاء لها.
فالأخرس صبي الجزار بلغ السن – بل تجاوَزَه –
للدخول على امرأة شرعية بجواز شرعي يرضى عنه
الله ورسوله؛ ولكنه غير قادر، لفقره الشديد،
على تحقيق هذا الحلم البسيط. إذ ذاك يشتهي
كلَّ امرأة يلتقيها، ويعبِّر عن رغائبه بمدِّ
اليد. اللمسة تقول: إنني مغرم بك! والنظرة
الجائعة تصرخ: إنني أشتهيك! إذًا كان المونولوغ موفقًا،
كان وسيلةً مهمةً للتعريف بالعالم الداخلي
لشخصية عاجزة عن النطق، غير قادرة مثلنا على
التعبير عن ذاتها بالكلمة المكتوبة أو
المسموعة. كان المونولوغ، بالفعل، كالمنظار
الطبي الذي يتفحص أحشاء الإنسان للكشف عن
المرض أو علاجه. ولا يمكن لي أبدًا أن أشبِّهه
بكاميرا خارجية، تنقل الحركة والفعل
الظاهري، وحتى تعبيرات الوجه، مهما كان
توافقُه مع الداخل. ع.ج.:
إلى أيِّ مدى توافق على أن الرواية، في شكل
عام، هي أرض للحب والفرضيات؟ وهل ثقتك مطلقة
في ما تكتب، أم تبقى برسم التساؤل والفرضيات؟ ي.أ.ر.:
سيظل الحب هو جوهر الوجود، وهو الدافع
الأساس لفعل الكتابة، ولا يمكن تلخيصه
بالعلاقة بين ذكر وأنثى. حب الوطن هو الدافع
إلى البقاء على أرضه؛ حب الإنسان هو الدافع
إلى التضحية في سبيله؛ حب الكتابة هو الدافع
إلى الشقاء بها، حتى لو كانت من دون عائد؛ حب
المرأة هو الدافع إلى استمرار النوع البشري؛
إلخ. قال أحد المقرَّبين من أم
كلثوم إنها ظلت، حتى حفلتها الأخيرة، حريصةً
على الصعود إلى المسرح قبل رفع الستار بساعة،
تدور على خشبته جيئة وذهابًا، تجفف عرق كفيها
بمنديلها الشهير! ما هذا القلق، على الرغم من
المجد الذي بلغت ذراه؟! ألم يكن من الأجدى أن
تثق ثقةً عمياء بما أعطت؟ أقول: إن هذا من صفات
الفنان العظيم. إنه لا يطمئن لعطائه أبدًا.
الجاهل وضعيف الموهبة وحده هو الذي يمتلئ
ثقةً بنفسه. الفنان الموهوب يعيش النسبيَّ في
كلِّ لحظة، والبلهاء فقط هم الساعون إلى
المطلق! ع.ج.:
هل ترسم هيكلا تقريبيًّا لروايتك قبل
مباشرتها، أم تشدُّك عبارةٌ ما، مشهدٌ ما... في
اختصار، كيف تكتب؟ ي.أ.ر.:
البناء الروائي سمة كلاسيكية مقترنة
بالكتَّاب الإصلاحيين، لأن الكاتب المجدِّد
اكتشف، مع الممارسة، أنه حين يخطط لهيكل ما
تأتي الروايةُ بغيره. ولكلِّ نصٍّ أدبي
خصوصيته: قد يبدأ بجملة تلحُّ على الكاتب منذ
طفولته الباكرة، كما حدث لي في رواية عاشقة
الحي التي تبدأ بـ: "عجباك... خُدْها" –
وهي جملة موجهة من زوج إلى قط اقتحم عليه
بيته، ولم يفعل شيئًا غير التحديق في الزوجة!
ومن هذه الجملة بدأت رحلةٌ شاقةٌ للبحث عن
الزوجة المخطوفة. كذلك في ليلة عُرس، كان
المشهد الملح هو دخول حودة الأخرس على زوجة
زائفة، لم تَزِدْ عن كونها ذكرًا مخنثًا تم
الاتفاق معه للانتقام من هذا الأخرس الذي
يعرف أكثر مما ينبغي. وهكذا فإن الرواية
بالفعل إيقاع، يكتشفه الكاتب منذ البداية
بالجملة أو بالمشهد، أو حكاية متمِّمة ترسبتْ
في وجدانه ليأتي البناءُ تاليًا لهذا كلِّه. الموت
ثمن ع.ج.:
تلفت في كتابتك، في أغلب رواياتك، ثيمةُ
الحب، بشقَّيه الجسدي والروحي، وثيمةُ
الغياب. إلى أيِّ مدى موجودةٌ عواطفُك
واستيهاماتُك ولوعتُك الشخصية في كتابتك؟ ي.أ.ر.:
إنني، دون أن أدري، أوزع ذاتي على شخصياتي
القصصية والروائية. ولأنني عاشق من الطراز
الأول، أُخلِصُ لِمَنْ أحب، حتى أستنفد ثمالة
الكأس وتُخرِجُني عن طوري الخياناتُ الصغيرة.
لا أؤمن بالعلاقات الجسدية المنزوعة
العاطفة. لا أقتحم معشوقة، حتى لو كان الموت
هو الثمن! لا بدَّ من مبادرة أولى تتسم بالنبل
والسمو، بجانبيه العقلي والروحي، إذا صح
التعبير. ويا ويل مَن أعشقه! أُدخِلُه فلكي،
وأدخل أفلاكه النيِّرة. فالحب أجمل ما أبدعه
البشر: هو الجنة على الأرض! تخيلي الأرض من دون
آدم وحواء معًا: قفر مجدب، لا ظل فيه ولا مطر! وعلى الرغم من هذا كلِّه،
يظل هذا الحب سرًّا من أسرار القلب الإنساني
يعجز المرءُ عن تفسيره والإلمام به. وسحرُه في
غموضه. كيف يتسنَّى للمرء أن يلتقي بامرأة ما،
لا يعرفها من قبل، فيقول لنفسه: هذه المرأة
ستكون لي! – ويحدث بالفعل أنها تستجيب. ما
مصدر هذا النداء؟! بعضهم حاول أن يُدرجَه في
منظومة علمية، فقال إنها "كيمياء الجسد"
أو "كيمياء الروح"! التفسير لمَّا يزل
قاصرًا. لا عليك! فلنعشْه، ولنترك كشف الغموض
للدارسين والباحثين. فليجتهدوا ما شاء لهم
الاجتهاد، ولتبقَ لنا العاطفة نحياها،
بحلوها ومرِّها. الحب ثيمة أساسية في كثير من
نصوصي الأدبية. ***
*** *** حاوَرَتْه:
عناية جابر عن
السفير، 20/06/2006
|
|
|