|
ليس
دماغًا ولا شبحًا يُقدِّم
كلٌّ من الفيلسوفين روكوِل
وشاپيرو مذهبًا ماديًّا في العقل: فالأول
يعرِّف بالعقل على أنه الدماغ والجسم والمحيط
الطبيعي، والثاني يعرِّف بالعقل على أنه
الدماغ. يدافع الفيلسوف
روكوِل Rockwell
عن نظرية مختلفة وجديدة في العقل. ففي كتابه ليس
دماغًا ولا شبحًا[1]،
يؤسِّس لنظام مفاهيمي جديد مُفاده أن العقل
ليس فقط شبكة مكوَّنة من تفاعل النورونات
الدماغية، بل هو أيضًا التفاعل القائم بين
الدماغ والجهاز العصبي والجسم والعالَم.
فالعقل سلسلة مترابطة تجمع بين الدماغ
والجسم والمحيط الطبيعي. لذا فإن العقل
هرموني كما هو نوروني. يؤكد على ذلك قائلاً:
"كل ما يحدث في الجسم تقريبًا هو على الأرجح
جزء من تجسُّد العقل" (ص xii-xv). يسوق روكوِل العديد من
البراهين على صحة نظريته. فعنده أن العقل،
كالدماغ، مفهوم بيولوجي؛ والمفاهيم
البيولوجية لا بدَّ أن يعرَّف بها من خلال
وظائفها. وبذلك فإن "أية علاقة سببية
ضرورية لوجود العقل لا بدَّ من أن تشكِّل
جزءًا من مفهوم العقل" (ص xvi-xvii).
على هذا الأساس، يستنتج روكوِل أن العقل
معتمد على التفاعل السببي بين الدماغ والجسم
والعالَم. فالعقل ليس جزءًا من الجسم، بل "نمط
ينبثق عندما يتفاعل الجسم الحي مع محيطه" (ص
13). من المنطلق ذاته، فإن الجسم يساهم بطُرُق
مختلفة في وظائف العقل؛ لذا فإن العقل لا
يختلف عن الجسم ككل. فالدماغ هو العقل حين
يقوم الدماغ بوظائف عقلية، والدماغ هو الجسم
حين يقوم الدماغ بوظائف جسمانية. بذلك "لا
فرق بين العقل والدماغ والجسم" (ص 15). ويسوق روكوِل
برهانًا معتمدًا على الفسيولوجيا مُفاده أن
أجهزة الحسِّ تستقبل المعلومات وتنقلها؛
وبذلك فإن أجهزة الحس تفكِّر كالدماغ تمامًا.
على هذا الأساس، فإن الجهاز العصبي جزء لا
يتجزأ من العقل، كالدماغ بالضبط. فالدماغ
وأجهزة الحسِّ تقوم بالوظائف ذاتها. لذا "إذا
كان العقل لا يختلف عن الدماغ فإن العقل إذن
لا يختلف أيضًا عن الجسم ككل" (ص 25-26). مثال
على ذلك أن لجهاز مناعة قدرةً على إدراك
الفيروسات وتذكُّرها، وبذلك فإن "جهاز
المناعة يملك قدرة عقلية" (ص 43). يعتبر روكوِل
أن علم النفس يدرس العلاقة بين العقل
والسلوك، وأن علم الذكاء الاصطناعي AI
يدرس الفكر الذي من الممكن أن
يتجسَّد في أجهزة فيزيائية مختلفة، بينما
الألسنية Linguistics
تدرس اللغة المرتبطة بالأشياء خارج أجسامنا.
وهذه الميادين المعرفية كلها تساهم في فهمنا
للعقل. لذا يستنتج روكوِل أن العقل "سلسلة
من العلاقات التي تربط بين الدماغ والجسم
والعالَم" (ص 54). وعنده أن العقل ليس الدماغ
والجسم فقط، بل هو أيضًا المحيط الطبيعي الذي
يتفاعل معه الجسم البشري الحي. فالإدراك
البصري، مثلاً، "لا يعتمد على الحالات
الدماغية فقط، بل يعتمد أيضًا على الأشعة
الضوئية وعلى الأشياء التي تعكس تلك الأشعة"
(ص 71). مثال آخر على أن
القدرات العقلية تشمل المحيط الطبيعي هو أن
اللغة، كقدرة عقلية، "تكتسب مضامينها من
خلال العلاقة الوظائفية بين الناطقين باللغة
وبين محيطهم الطبيعي المشترك" (ص 97). فالعقل
لا يفكِّر من دون جسم يحيا في العالَم، كما أن
الفهم يتطلب جسمًا يتفاعل مع المحيط: "من
دون أن نختبر العالَم بأجسامنا تغدو لغتُنا
غامضةً وغير نافعة" (ص 135-136، 139). في اختصار، "تتجلَّى
الخبرات الإنسانية في شبكة الدماغ/الجسم/الكون
وبفضلها" (ص 158). وفي ضوء هذا كلِّه، يؤكد
روكوِل على أن "العقل حقل تفاعلي، بحيث
يزول الفرق بين العقل والدماغ والجسم، وتغدو
الحدود بين الهوية الشخصية والمحيط الطبيعي
غير متعيِّنة" (ص 206). أما الفيلسوف
شاپيرو Shapiro،
فيتفق مع روكوِل على نقاط عدة؛ لكنه يرفض
إمكانية أن يتجسَّد العقل في أدمغة متنوعة
ومختلفة عن الدماغ البشري. ففي كتابه العقل
متجسدًا[2]،
يرى أن "العقل متجسِّد بالضرورة في الجسم
الإنساني إلى حدِّ إمكانية إلغاء الفرق بين
العقل والجسم" (ص xi-xiv).
في عبارة أخرى، العقل والدماغ شيء واحد؛
وهذا يُفسِّر تلازُم الحالات الدماغية مع
الحالات العقلية (ص 4). وهو يضيف أن الظروف
التاريخية وقوانين الطبيعة لا تسمح بوجود
تجسدات مختلفة للعقل في عالمنا، ويستنتج من
ذلك أن العقل لا يختلف عن الدماغ البشري: فإذا
أردنا أن نبني عقلاً، لا بدَّ حينئذٍ من بناء
دماغ شبيه جدًّا بالدماغ البشري، وإلاَّ فلن
ننجح في مهمتنا، وهذا لأن الوظائف التي لا
بدَّ للعقل من أن يؤدِّيها تعتمد على بنية
الدماغ. لذا "فمن دون الدماغ البشري سيفشل العقل
في تأدية وظائفه، وبذلك لن يكون بالفعل عقلاً"
(ص 9، 11، 104، 127، 135). لكن لكلِّ
نظرية فلسفية مشكلاتها الخاصة. وإحدى مشكلات
النظرية المادية في العقل هي التالية: بعض
علماء الفيزياء يصفون الكون ككل على أنه عقل؛
وهذا يدلنا على إمكانية أن يكون الكون عقلاً.
فمثلاً، يقول العالِم الفيزيائي سمولِن Smolin
بأن كلاًّ من نظرية النسبية Relativity
لأينشتاين والميكانيكا الكوانتية Quantum Mechanics
يعتبر أن العالَم تاريخ من السيرورات processes:
فالكون قصة، وهو يتكون من سيرورات تبادُل
للمعلومات. ويضيف سمولِن في كتابه سبل ثلاثة
إلى الجاذبية الكوانتية[3]
أن الطريقة الفضلى هي النظر إلى الكون على
أنه تبادل للمعلومات، بحيث إن "كل حَدَث
هو عملية حسابية، وكل علاقة سببية هي تدفُّق
لمعلومات معينة من حَدَث إلى آخر" (ص 53-56). بذا نجد أن
سمولِن يصف الكون بوصفه عقلاً. فالعقل يتكون
من معلومات وتدفُّقها. والآن، إذا كان العقل
مجرد الدماغ وليست له تجسدات عديدة ومختلفة،
أو إذا كان العقل مجرد الشبكة التي تضم الدماغ
والجسم والمحيط الطبيعي الذي يحيا فيه
الإنسان، يستحيل حينئذٍ أن يكون الكون ككل
عقلاً. لكن من الممكن أن يكون الكون عقلاً كما
أوضح سمولِن. لذا فإن للعقل تجسدات مختلفة،
وهو ليس مجرد الدماغ أو الشبكة التي تحتوي على
الدماغ والجسم والمحيط الذي نحيا فيه. ***
*** *** |
|
|