|
المعرفة الناقصة تسود العالمَ العربيَّ منذ
سنوات دعواتٌ إلى الإصلاح والتغيير، تأتي
استجابةً لمتطلَّبات ملحَّة للمجتمعات
العربية، خصوصًا وقد وصلت برامجُ الإصلاح
فيها إلى مأزق وعجزت عن نقل هذه المجتمعات إلى
ركاب الحضارة والحداثة. وتشهد المنطقة ضغوطًا
خارجية لـ"إدخال الديموقراطية"
وفرض ثقافة سياسية وفكرية جديدة. على كلِّ
حال، يظل الإصلاحُ في العالم
العربي حاجةً ضروريةً وملحَّة؛ وهو إصلاح لا
بدَّ أن يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع
والتعليم والدين جميعًا. في هذا السياق،
يشكِّل كتاب المعرفة الناقصة[1]
لحمد عبد العزيز الكواري إحدى المحاولات
النقدية المرتبطة بدعوة إصلاحية صريحة في
مجالات متعددة. يتصدى
الكاتب، في محور أول، للصراع العربي–الإسرائيلي
الذي شكَّل محور البرامج السياسية والفكرية
والثقافية للعالم العربي على امتداد نصف قرن.
وعلى الرغم من أن القضية الفلسطينية لا تزال
قضيةً مركزيةً للمجتمعات والشعوب العربية،
إلا أن الأنظمة السائدة اتخذت منها ذريعةً
لتأجيل الإصلاح والتغيير. فتحت عنوان "لا
صوت يعلو فوق صوت المعركة" جرت عمليةُ كبح
للتطور في المجتمعات العربية، وقُمِعَتِ
الشعوبُ وحُرِمَتْ من التعبير عن آرائها. دفع
العالم العربي داخليًّا نتائج فادحة السلبية
في كيفية مواجهة المشروع الصهيوني. وإذا كان
الشعب الفلسطيني قد استطاع أن يحقق بعض
إنجازاتٍ في مواجهته العسكرية، جنبًا إلى
جنب مع "بلدان المواجهة"،
لكنها إنجازات ظلت محدودة قياسًا إلى طموحات
الحد الأدنى. بهذا يتعذر أن يظل الصراع يدور
في المجال العسكري، بل يجب النظر إليه بوصفه
صراعًا مجتمعيًّا، حضاريًّا وعلميًّا؛ وهذا
يرتِّب تحولاتٍ داخل العالم العربي ليست أقل
من نهضة متكاملة شاملة تشكِّل قاعدةً هذا
المشروع. في
هذا المجال، يجب الكف عن رفض دعوات الإصلاح
والتغيير بحجة أنها صادرة إلينا من الخارج،
لأن الإصلاح حاجة داخلية ماسة، وتغييبه
سيزيد الأحوال سوءًا. فالاستمرار في الدوران
ضمن حلقة مفرغة، كما هو سائد اليوم، سيقود إلى
الفوضى وإلى تغيير مصحوب بزوابع متعددة
الوجوه. آن الأوان، إذن، لسيادة اقتناع
مُفاده أن غياب الحريات واضطهادَ الإنسان
العربي وسلبَه حقوقَه الإنسانية يمثل مصدرًا رئيسيًّا
للكوارث التي تعاني منها المنطقةُ العربية. في
محور ثانٍ، يرى الكواري أن تطوير التعليم
العربي وتحديثه يشكِّل مدخلاً رئيسيًّا
لولوج الإصلاح. فالنسبة الكبيرة للأمِّية
السائدة وصمةٌ سوداء على جبين العرب. وعلى
الرغم من الثروات الهائلة التي يتمتعون بها،
يُعتبَر حجمُ الموازنات المخصصة لتطوير
التعليم حجمًا أدنى قياسًا إلى أقل البلدان
تقدمًا – هذا في وقت تؤدي العولمةُ والثورةُ
التكنولوجية إلى تفاقُم التحديات
أمام
العرب. أما برامج التعليم السائدة، فتنتمي
إلى عصر آخر بائد ولا تواكب متطلباتِ التطور:
فالنقص الحاد في التوجُّه التقني والعلمي،
الذي يشكِّل عماد البرامج التعليمية
الحديثة، يعوق الأجيال المتعلِّمة عن
الانخراط في السباق العلمي والحضاري الذي
يتبارى العالمُ فيه اليوم. يمثل
تعديل البرامج أولوية في العالم العربي لجهة
جعل المناهج المعتمدة على المجالات العلمية
والتقنية والمهنية في المقام الأول على حساب
ما
هو سائد من برامج تعتمد التراث أساسًا. لا
يعاني الطالب العربي من نقص في ولوج ميدان
العلم والتكنولوجيا، لكن المعضلة تكمن في ضعف
الموارد المالية المخصصة للأبحاث والمختبرات
والاختراعات والتواصل مع الجامعات المتطورة
في العالم. ويشدِّد الكواري على تعديل
المناهج التعليمية الدينية، وخصوصًا منها
التي لا تتفق وروح الدين في التسامح أو لا
تتوافق مع التطورات الثقافية والعلمية التي
يشهدها العالم. إذ يزرع الكثير من هذه المناهج
مفاهيم التعصب والحقد في نفوس الطلاب،
ويشكِّل عنصرًا مغذيًا للتطرف الديني ولنشر
الإرهاب. وهو خطاب يسيء إلى المسلمين داخل بلدانهم
وفي المجتمع الدولي. لذلك يأتي التشديد على
وجوب مبادرة الفقهاء والعلماء إلى تعديل هذه
المناهج، بما هي حاجة عربية وإسلامية تمكِّن
الدين الإسلامي والمسلمين من مواكبة العصر. يرتبط
إصلاح المناهج التعليمية – الدينية منها
خصوصًا – بتعزيز ثقافة السلام. تتضمن هذه الثقافة
قيمًا تدعو إلى احترام الحياة والكائنات
البشرية وحقوق الإنسان، وتشدِّد على رفض
العنف والإرهاب ونبذ المقولات المؤدية
إليهما، وعلى التزام مبادئ الحرية والعدالة
والتضامن والتسامح بين الشعوب والجماعات
والأفراد، كما تؤكد احترام الخصوصيات
والمعتقدات والعادات والتقاليد الخاصة بكلِّ
شعب. والعرب معنيون بثقافة السلام خصوصًا،
لأن بلدانهم متهمة بتصدير الإرهاب، ولأن
ثقافتهم الدينية تشجِّع على التطرف والعنف.
على العرب أن يخوضوا صراعًا في العالم
للتمييز بين الإرهاب المرفوض والمقاومة الحضارية
المشروعة في فلسطين أو في البلدان التي تتعرض
لاحتلال أجنبي. ولأن الصراع يتجه نحو "صدام
حضارات" مزعوم، يواجه العرب تحدي إنتاج
مفاهيم تشدِّد على الحوار بين الحضارات
بديلاً من الصدام بينها؛ وهذا شأن يفتح على
حاجة العرب إلى نشر ثقافة الديموقراطية
وقيمها في مجتمعاتهم. وفي الوقت نفسه،
يواجه العرب التصدِّي من جانبهم للاستخدام
السلبي لثقافة السلام، المتجسِّد بالتدخل
السياسي–الأجنبي في العالم العربي وتغيير
الأنظمة والكيانات واحتلال البلدان بحجة فرض
الديموقراطية والسلام. إلا
أن التحدي الأكبر في وجه العرب سيظل متركزًا
على التصدي للحركة الصهيونية، بوصفها مشروع
هيمنة عسكرية وفكرية وسياسية عليهم. فالثقافة
الصهيونية، ككلِّ الثقافات القومية
المتطرفة، ثقافة عنصرية انغلاقية غير
إنسانية، تتسلَّح إلى ذلك بإمكانات
تكنولوجية ومالية هائلة، وهي مشبعة بالعداء
للثقافة العربية والإسلامية. يساعد التطور
العلمي في مجالات الإعلام والاتصالات العربَ
على مواجهة الحملات الثقافية ضدهم. إنه
التحدي الأكبر للعرب في اللحاق بالعالم
المتقدم أو، على الأقل، في ردم حيِّز أساسي من
الفجوة الفاصلة معه. *** *** *** [1] حمد
عبد العزيز الكواري، المعرفة الناقصة:
العرب والغرب في عالم متغير، دار رياض
نجيب الريس، بيروت: 2006.
|
|
|