|
تاريخ يتمزَّق في جسد امرأة
عن تاريخ يتمزق في جسد امرأة[1] يكتب أدونيس في إصداره الشعري الأخير. يكتب بكلِّ التوق الذي طالما كان له في العبور من الضيق والضئيل إلى الأكثر شَساعة والأوسع أفقًا. وإذ نقرأه، نفعل ذلك خارج إشكاليات الشعر وأسئلته المابعدحَداثية والراهنة، ومن بعدُ، وفي درجة ثانية، خارج إيقاع هذا الزمن وأطروحاته الأكثر التهابًا. نقرأه كبيان فكري، كموقف، لا يتنكَّر لحظةً واحدة للعناوين العريضة التي طبعتْ مسيرةً أدبيةً ما انفكت، منذ نصف قرن، تبتكر معاركَها الفكرية والنقدية والشعرية وتخوضها باستبسال لا يعرف مهادنة. وإذ يستعيد الشاعرُ هنا جوهر الحياة الذي طالما آمَن به وعبَّر عنه، شعرًا وفكرًا ومواقف، في المرأة والدين والمجتمع والجنس والعلاقة بالجسد، يعود مرةً أخرى ليرفع لواء هذه "الوثنية" التي رافقتْه منذ أول أعماله في مواجهة شرق محكوم بقواعد الغيب وكُتُبه وتعاليم أنبيائه.
مرة أخرى، تعود هذه اللغة "الأدونيسية" التي حسمتْ خياراتِها الكبرى في ستينيات القرن الفائت، فجعلت من الشعر المساحةَ الذهنيةَ الخالصةَ التي تتشكل فيها الفكرةُ المنسوجةُ في صلابة لغوية ومتانة بلاغية، المتكاملةُ على مستوى المنطق الداخلي للجملة. اللغة الواثقة من أدواتها، سليلة موروث بلاغيٍّ ما فتئت تنقلب عليه وعلى صروحه الجامدة وقيمه الجمالية وهي تنهل منه في الوقت نفسه. في "كتابه"[2] الجديد يبني أدونيس قصيدةً پوليفونية، ذات بنية درامية أقرب إلى أن تكون أفقيةَ الامتداد، تنكبُّ على الحفر في نقطة مركزية واحدة، تتوالد فيها العباراتُ من ذاتها، تقتات من ذاتها، معلنةً استقلاليتَها عن كلِّ تصاعُد في الوتيرة أو الإيقاع أو البنية. يجعل الشاعر من صوت المرأة محورَ هذه القصيدة، فيما يوزِّع الأصواتِ الأخرى بين الرجل والراوية والجوقة، التي تتضافر لتشكِّل ما يشبه الصدى لكلامها، فيصف بذلك تاريخَ البشرية كلِّها، لكن، في شكل خاص، تاريخَ هذا الشرق الذي يسير صاغرًا، من دون سؤال، على هدي رُسُل الغيب وممثِّليه، أصنامًا وآلهةً وأنبياء، متجاهلاً طبيعتَه الحسِّية، كابحًا جماح "فطرته"، مستسلمًا لما لا يمكن له إلا أن يكون مخالفًا لهذه الطبيعة. تتوزَّع القصيدةُ إشاراتٍ متفرقة، ميثولوجيةً من ناحية، وتلك التي تستقي صورَها وأفكارَها من النصوص السماوية، من ناحية ثانية. غير أنه يبرز واضحًا انحيازُ الشاعر للأولى وتبنِّيه وثنيَّتَها وعلاقتَها بالمادة وارتباطَها العضوي بالطبيعة في فطرتها كلِّها وحضورها الحسِّي والملموس، جاعلاً من المرأة ومن علاقتها بجسدها وانحيازها المطلق إليه وإلى الحياة المتفجرة منه، ومن إيثارها الترابَ الممزوج بالغرائز والشهوات والغوايات طريقًا للارتفاع عليه والسموِّ فوقه في لحظات تتحد فيها الذاتُ بالكون وتتوحد فيه. أما الرجل، فيظهر في "المشاهد" كلِّها، حاملاً كتابًا ومقلِّبًا صفحاتِه، تتنازعُه حيرةٌ لا تبلغ حدَّ الرفض، ويرفع خطابًا فيه بعض التشكيك، لكنه حافل بالإشارات والإحالات على فكر سلفيٍّ متوارَث، مطبوع بالعنف والدم. خطاب يحاول التحايل على منطق غيبي، مجاهدًا لكي لا يحيد عما "كُتِب" وفُرِضَ من "سماء" لا سبيل إلى إدراكها. من ناحيته، يتخذ "الراوية" موقفًا وسيطًا ووسطيًّا: يعلِّق على المجريات، لكنه لا يفعل ذلك بالحياد والسلبية المعروفين عن الرواة عادة. ويأتي استخدامُه صيغةَ المتكلم ليفضح تورُّطه هو الآخر ودوره في الصراع الدائر أمام ناظريه الذي ستكون المرأة، وحدها، ضحيته. في صلب المواقف كلِّها، الفاعلة منها (المرأة) والأكثر تسجيلية (الجوقة والراوية، وفي درجة ثانية، الرجل)، تناضل المرأة وحدها ضد هذا الهدي الآتي من "السماء" الذي يُعمِلُ فيها الختانَ تلو الختان، رافعةً خطابًا ملؤه الشك والرفض والألم والحزن والتمرد والثقة والحب، لكن قد يختزله منطقٌ واحد عنوانه "لا كتاب": "لا كتاب. خطواتي كتابي"، تقول. وفي غير مكان، تتوجه إلى زوجها داعية: "جئني في ثياب الطبيعة/ لا نشوةٌ، لا كتاب/ غير هذا التراب". لكن لا يخدعنَّنا هذا التصريح الحاسم، المنطوي على العنف الرفضي الممكن كلِّه! فهو أبعد من مجرَّد "إلحاد" سهل، في المتناول، ترفعه نعجةٌ متمردة "تدحرج ميراثها في الطريق إلى قدس أو مكة"، بينما البشر "سائرون إلى ربِّهم:/ قدمٌ في التراب، وأخرى/ في السماء. قطيع خراف"، بل هو أقرب إلى نوع من الصوفية المادية تتفجَّر من تحت، تنبثق من المادة وترتفع عليها، تشقُّ التراب وتسمو عليه، حاملةً عبق الأرض ورطوبتها المبلَّلة بالشهوة: "جسدي ما أراه وما لا أراه". فلنسمِّها، إذن، "صوفية وثنية"، الجسدُ عنوانُها ومآلُها والطريقُ إليها، والشهوةُ دليلُها وفضاؤها والشرطُ لإبحارها. وفي حين يبدو الرجل، بمواقفه وتعليقاته السريعة والقصيرة، حائرًا بين أرض وسماء من دون أن يحسم موقفَه تمامًا، يصير "جسد المرأة" الفضاءَ الحر الأصيل والحقيقي الوحيد، تحتفي به وتتركه يقودها، تهرب إليه من قيود مجتمع–عنكبوت "يجرُّ خطاه على وجه قيثارة" ولا ينفك ينسج من حولها خيوط قوانينه الخانقة. "أصلِّي لجسمي واسمي": هذا هو خيارها إذن، المتمثِّل في الانغماس في ذاتها كسبيل للتوحد بها وبالعالم في ما بعد: "وأسير على هدي جسمي/ وأرى كلَّ شيء". إنه التوق إلى الانكشاف يقودها ويحكم خطواتِها، وصولاً إلى حدِّ التماهي التام مع الجسد أولاً: "جسدي خالقي، وحبِّي خلاَّقه"، تقول عن عملية الخلق المتبادل هذه، ومن ثَم مع الطبيعة–الأم من خلال إعلان الانتماء إليها وحدها: "أشهد الآن أن الطبيعة أول ما أنتمي إليه/ وآخر ما أنتمي إليه". كأنها كلما غرقت في المحسوس أكثر، ارتفعت عليه، بينما لا تفعل "السماء" سوى مضاعفة انحدار مَن يستدل بها. أما رفض المرأة العنيف هذا للسماء، فليس موقفًا اعتباطيًّا أو مجانيًّا بقدر ما هو رد فعل على الجحيم المقذوفة إليها، جسدًا ومشاعر، حتى بات النفيُ بيتَها والفجيعةُ عرسَها. وهو رد فعل كذلك على قواعد يزعم المجتمع أنه يستمدها من السماء، ويعتبر فيها المرأة محض إناء "لاحتضان المني"، ناظرًا إليها على أن نصفها "رحم وجماع والبقية شر". لذا نراها تعترض وتسأل: جسدي ليس منِّي، تقول تعاليمُهم/ أتقلَّب فيه/ واهتديت وتهت وغنيت، صلَّيت وانسقت/ فيه من فضاء إلى آخر/ فلماذا تقول تعاليمُهم جسدي ليس مني؟ أسئلة تبدأ تشكيكية هادرة: "لماذا إذًا يولد الأنبياء/ في فراش امرأة؟"، قبل أن تعبِّد الطريق تحضيرًا للحظة الإنكار القصوى: "أذلك وحيٌ؟"، وتعلن تسليمها الكامل لسلطة الحب التي تقول عنها "الجوقة" إنها "أعلى والأرض أوسع/ مما تقوله النبوَّات"، وتعلن استسلامَها أيضًا: "اختطفني/ أيها الحب، واقذف بجسمي أنَّى تشاء/ ضد هذي السماء". من ناحية أخرى، يتعدى رفضُها زوجَها والموتَ الذي يحمله في فراشه ومنيِّه رفضَ البعل وحده، بل هو رفضٌ للأب الذي فيه كذلك. وإذ تعلن عاليًا عن رغبتها في موت "الأبوة"، نجد أن الشاعر أيضًا لا يجعل من وجودها حضورًا أنثويًّا شهوانيًّا محضًا، بل أموميٌّ كذلك. لكنها أمومة تفصح عن نفسها من دون أن تُسقِطَ عنها غريزتَها. لذا لا نستغرب إقدام الحشد في المشهد ما قبل الأخير على رجمها بالحجارة، هي وطفلها معًا: فهو جزء منها ومن خطيئتها، أرضعتْه أوهامَها وزرعتْ فيه بذرةَ التمرد، الأمر الذي لم يكن في وسع مَن عهدوا إلى أنفسهم مهمةَ الاقتصاص منها تجاهلُه أو التسامحُ معه. هذا الصراع بين الأرض والسماء، يكاد أن يكون في الواقع صراعًا بين الطبيعة التي ترفع المرأةُ لواءها وبين السعي الغيبي إلى خنقها وإحلال ما يخالفها مكانها. يخالفها لأنه، في بساطة، من طبيعة أخرى: طبيعة غيبية تُناقِضُ جوهر النزعة الحسِّية التي تعلن المرأةُ انتماءها إليها: "لا حياة إذا لم تكن حضورًا"، تُعلن، رابطةً وجودَها بكلِّ ما هو حسِّي وملموس. تظهر هذه النزعة في المشاعر التي تتقاذفها، من حزن وشهوة وخيال وعشق وإحساس حادٍّ بالزمن... وأكثر. وإذ تفضح "ليل البشر الموثوق بحبال النبوات"، كما تصفه، تسأل زوجها: "هل أنت حي/ في كتابك، أم في حياتك،/ أم أنت ميت؟"، بينما تحسم هي خيارها بالانحياز إلى أنوثتها وحدها: "لا أريد الحياة إذا لم تكن بدعة". أما هذه الحياة–البدعة التي لا تريد سواها فهي "طين لم يلامسْه وحي". حياةٌ لم يبقَ لها مكان، حتى في المدينة التي لم تعد الفضاء الوحيد الذي يحضن هذه الحرية ويغذِّيها ويؤمِّن لها شروطَ نموِّها وتفتُّحها، بعدما أصابها ألفُ تحوُّل وتحوُّل منذ أن اجتاحها زمنُ الآلة وأحكامُها: "ما المدينة يا أيها البدوي الذي طوَّح المدينة في آلة؟" يختار الشاعر لقصيدته نهايةً مُغرِقةً في تراجيديتها وهمجيَّتها، تتمثل في الرجم كفعل بدائيٍّ يفضح استلاب مجتمع بكامله وتسليمه الأعمى لسلطات الغيب المختلفة وعجزه عن احتواء مفهوم آخر للحياة ذي طبيعة أكثر حسِّية، لكن خصوصًا رفضه للخيال كسلطة أخرى محرِّرة: "لا تَطُفْ أيها الخيال على أرضنا"، يقول الحشد في اللحظة التي تسبق هجومَه على المرأة ورجمَها. لكن قبل الوصول إلى نقطة الذروة هذه، يجمع أدونيس في قصيدته خلاصةَ فكره المنحاز إلى صوفية وثنية تفضح الغيب، لا توفِّر في ذلك سماءً، وتعلن جهارًا، على لسان المرأة: "آه ما أجمل الحياة وسحقًا لجنَّتها المُرجَأة"! *** *** *** عن النهار، السبت 18 تشرين الثاني 2006 |
|
|