|
صنوبرة وزيتونة
إسرائيل آدم شامير واحد من أهم الصحافيين والكتَّاب الإسرائيليين الذين يكتبون بالروسية. وهو كاتب يتميز بحضور خاص، أهم سماته مناهضة الصهيونية. ولذلك فإن شامير، وإن التقى مع "المؤرخين الجدد" أو مع مفكِّري "ما بعد الصهيونية" من ناحية ضرورة التأسيس لإسرائيل جديد، إلا أن "إسرائيله الجديد" لا يقوم على قبول الأمر الواقع الذي فرضتْه الصهيونية العنصرية، بكلِّ ما فيه، بل على دحض الصهيونية ومزاعمها وعلى التأسيس لوعي جديد يضع الصهيونية مع النازية في بوتقة واحدة ويساوي بين ما فعلتْه آلةُ الحرب الصهيونية بالفلسطينيين (وتفعله إلى اليوم) وبين المحرقة النازية التي ارتُكِبَتْ في حق اليهود وغيرهم من الشعوب التي استباحت النازيةُ حقَّها في الحياة. فالهولوكوست هنا أيضًا؛ ومن هنا، من متحف الهولوكوست في القدس، يمكن لك أن ترى دير ياسين، يقول إسرائيل شامير في كتابه صنوبرة وزيتونة[1] الذي يُعَد بمثابة مرثية للجغرافيا الفلسطينية، بما فيها الأرض والبشر، الأرض المقدَّسة التي يجوبها على حماره، باحثًا عن "أصل الشر": ويمكن لكم أن تروا دير ياسين بطريقة أبسط: فعندما تزورون متحف الهولوكوست [ياد فَشيم] وتسيرون في الممرات المظلمة لجناح الأطفال خارجين إلى النور الربَّاني، ارفعوا أبصاركم إلى التلَّة المقابلة: إنها دير ياسين. ويقول في غير مكان من الفصل نفسه المعنون بـ"أصل الشر": انظر إلى التلال في الربيع: ثمَّة سجاجيد من الأزهار تفترش المدرَّجات. [...] وفي كلِّ مكان من الطريق المؤدي إلى القدس، وعلى أرض كلِّ مستوطنة يهودية، كانت هناك قرى فلسطينية تُطعِم من البشر أكثر مما هي تُطعِم اليوم. في بيت عتاب وحدها كان هناك من الفلسطينيين أكثر مما هو موجود اليوم في المنطقة كلِّها من اليهود المستوطنين. هنا، وفي جميع هذه الأماكن، يمكن لك أن ترى مأساة فلسطين الحقيقية، مأساة الأرض المُبوَّرة، مأساة الفلسطينيين المطرودين من أرضهم. وهنا بالذات يسخر من قرار إيهود أولمرت، حين كان رئيسًا لبلدية أورشليم في العام 2000، بهدم بيوت فلسطينيين بحجة أنها "غير نظامية": ما إن يبني يهودي بيتًا حتى تكتشف من نظرة واحدة أنه نظامي. أما الفلسطينيون، فحيثما بنوا بيتًا لأنفسهم فسيكون غير نظاميٍّ قطعًا، وستجده تحت شفرة البلدوزر. وبعيدًا عن تضخيم دور الثقافة في إعادة إنتاج التاريخ وأهمية فعل ثقافي من نمط ما يقوم به إسرائيل شامير وأمثاله من الكتَّاب المناهضين للصهيونية، ثمة في هزِّ الخرافات التي قام عليها إسرائيل وفي فضح الأكاذيب وتعرية الجرائم ما يهيِّئ تاريخيًّا ليوم يكون فيه على اليهود التبرؤ من ماضيهم كما تتبرأ أوروبا اليوم من بعض صفحات تاريخها السوداء. فلا بدَّ أن يكون لما يكتبه إسرائيل شامير وأمثاله من الإسرائيليين غدًا معنًى آخر عندما يصبح إسرائيل غير ما هو عليه اليوم. فإسرائيل ما بعد التأسيس، وربما ما بعد الصهيونية، سيكون عليه أن ينبني، بدرجة ما هامة، على التضاد مع إسرائيل اليوم. ولذلك فإن توصيف أفعال الأمس، أفعال التأسيس، كجرائم وفظائع ومظالم وأعمال عدوانية، يوصِّف تلقائيًّا أعمال اليوم، كما يؤسس تلقائيًّا لأفعال الغد. كما أن فضح أكاذيب الأمس يضع أفعال اليوم موضع المساءلة، بما يهيئ لزمن فلسطيني، في حركة التاريخ، ينبني على قوة الحق – الحق المفوَّت تاريخيًّا، بحكم الأمر الواقع، لكن الحق المؤسِّس، من خلال تفويته ومن خلال ما ينطوي عليه من إدانة للقوة التي جعلته يُفوَّت، لزمنٍ يقوم على الحق في المستقبل.
إسرائيل شامير والزمن الفلسطيني القادم يُفتَرضُ فيه أن يكون على خلاف ما سيؤول إليه إسرائيل الذي سيكون وجوده المتعيِّن بالانسجام مع محيطه متطلِّبًا لإدانة ماضيه والتخلِّي عن كلِّ ما هو من طبيعته. وهذه الوظيفة تتحقق بفعل العمل الذي يقوم به "المؤرخون الجدد"، بصرف النظر عن نواياهم؛ وربما هي تتحقق كوظيفة ثانوية بدرجة لا تقل أهمية عن تحققها بنتيجة أعمالٍ معلنة النوايا، أي كوظيفة رئيسة، كما هي حال كتابات إسرائيل شامير. وعليه، وسعيًا نحو فاعلية فلسطينية تدفع باتجاه تحقق هذه الوظائف بما يخدم المستقبل الفلسطيني، لا بدَّ للفلسطينيين اليوم من أن يجمعوا وثائقهم – الوثائق المؤكِّدة على وحشية العنصرية الصهيونية – بالحبر والصوت والصورة. فإسرائيل الذي يسعى اليوم إلى رسم حدوده النهائية مع الفلسطينيين إنَّما يضع اللبنة الأخيرة في زمن التأسيس. وبعده، إذا صحَّ منطق التاريخ، سيأتي زمن الاستقرار، أو زمن "الركود"؛ وهو الزمن الذي يخشاه الصهاينة أكثر من أيِّ زمن آخر: ذلك أن عوامل التنافر في المجتمع الإسرائيلي أكثر من أن يضبطها زمن "السلم". فعامل التوحيد الذي يجب أن يحلَّ محلَّ العداء للمحيط العربي والتضاد معه لم يعثر عليه أحدٌ بعد من الصهيونيين أو ما بعد الصهيونيين. الفلسطينيون في كتاب شامير صنوبرة وزيتونة ليسوا أعداء ولا عدائيين، والصورة التي طالما روَّجت لها عنهم آلةُ الإعلام الصهيونية تبدو لشامير كاذبة من صفحات الكتاب الأولى، بل من خطواته الأولى السابقة للكتابة أو المواكِبة لها على الأرض الفلسطينية. فها هو ذا يكتب في الفصل الأول المعنون بـ"على ظهر حمار"، ردًّا على تخويفه وأمثاله من دخول أحياء الفلسطينيين: كنت أخشى الذهاب إلى القدس لأن الطريق كان يمر عِبْرَ مخيم كبير للاجئين. ذات مرَّة، ذهبت إلى هناك مع أولادي. في طريقنا عَبَرنا أمام مخبز. التفتنا إلى الداخل. رأينا نسوة يجلسن ويخبزن أرغفة من الخبز عملاقة ولذيذة. حاولنا شراء هذا الخبز اللذيذ. وإذا بإحداهن تختار رغيفًا هو الأكبر، تتناوله وتعطيه لابننا، مشيحةً بيدها عن النقود. هذه الكتابة جاءت قبل الانتفاضة الثانية، انتفاضة السلاح، الذي دفع استخدامُه كثيرين من الإسرائيليين ممَّن عُرفوا بمواقفهم المتعاطفة، في الحدِّ الأدنى، مع الفلسطينيين إلى الصمت أو إلى تغيير مواقفهم باتجاه تأييد العدوانية الإسرائيلية الموسومة لديهم بـ"العنف" أو بـ"محاربة الإرهاب". كانت الطبعة الأولى من كتاب صنوبرة وزيتونة قد نُشرت في العام 1987 قبيل انتفاضة الحجارة؛ وقد وجد شامير، لاحقًا، في ذلك معنًى خاصًّا يؤكِّد ما جاء في كتابه من إدانة لآلة الحرب الصهيونية الموجَّهة ضد بشر انتُزِعَتْ منهم أرضُهم وحقوقُهم. كتب شامير في مقدمة الطبعة الثانية (2003) بعد اندلاع الانتفاضة الثانية وانهيار الاتحاد السوڤييتي وهجرة مئات آلاف الناطقين بالروسية من هناك إلى إسرائيل، وبعد تردده في إجراء تعديلات على الكتاب تنسجم مع تلك المتغيرات، ثم إبقائه كلَّ شيء على حاله، كما جاء في الطبعة الأولى: "المشكلات الأساسية وخصوصية الأرض المقدسة لم تتغير في العمق منذ ذلك الحين"، مؤكدًا مرة أخرى أصالةَ موقفه المناهض للصهيونية. في فصل "أصل الشر" يتحدث شامير عن منظر الفلسطينيين وهم في لباسهم الأبيض يعملون أُجَراء في جني محصول البندورة في مزارع المستوطنين اليهود: اكترَوا الفلسطينيين المنزوعي الأرض للعمل على أرض كانت تُطعِمهم حتى الأمس القريب. ثم: على مدخل القدس بالضبط، تواجه السيَّاحَ لوحةٌ عملاقة كُتِبَ عليها "بساتين سخاروف". وُضِعَتْ هذه اللوحة في أعوام الپريسترويكا، حين تمكَّن الأكاديمي سخاروف وأصدقاؤه المقرَّبون من تقويض الاتحاد السوڤييتي وتوسيع الهجرة إلى إسرائيل. ومن سخرية القدر أن طريق "البساتين" نفسه يقود إلى مقبرة ومستشفى للمجانين وإلى طريق دير ياسين. للموت أسماء عدَّة. عند بعضهم يُطلَق عليه اسم "إنجيلخين" وعند غيرهم "كاطين"؛ أمَّا عند الفلسطينيين فاسمه "دير ياسين". ففي ليلة التاسع إلى العاشر من نيسان للعام ثمانية وأربعين وتسعمائة وألف، هاجم مقاتلون صهاينة هذه القرية الفلسطينية المسالمة وذبحوا سكَّانها العُزَّل. 245 رجلاً وامرأة وطفلاً فلسطينيًّا قُتِلوا في دير ياسين. قائدا عصابات "إتسيل" و"ليهي"، مناحيم بيغن وأريئيل شارون، صارا رئيسين لوزراء إسرائيل. مازلت أذكر الريبة التي قرأت بها عن دير ياسين في الاتحاد السوڤييتي. إنها "دعاية سوڤييتية!"، فكَّرت، واضعًا خطًّا تحت وصف المجزرة، تأكيدًا على أنَّها مجرد اختلاق. احتجت إلى أعوام كثيرة وكتب كثيرة ووثائق كثيرة حتى فهمت أن دير ياسين لم يختلقها المكتبُ السياسي للحزب الشيوعي السوڤييتي ولا عرفات. وبعد، فقد [...] تباهى بيغن باجتياح دير ياسين وبنتائجه: "لقد ساعد على تنظيف إسرائيل من العرب، أهنِّئكم بالنصر العظيم"، كتب بيغن للمقاتلين، "أنتم مبدعو تاريخ إسرائيل." ثم يتحدث شامير عن أكذوبة بن غوريون حول معاقبة منفِّذي المجزرة، وكيف أن مجرمي دير ياسين صاروا قادة البلاد، وكيف أن العملية تمت تحت إشراف تنظيم الهاغانا الذي راح يقتل الفارِّين من الموت في دير ياسين قبل وصولهم إلى عين كرم.
لا تقتصر مواقف إسرائيل شامير المناهِضة للصهيونية ولسياسات إسرائيل العدوانية على ما جاء في كتابه صنوبرة وزيتونة، بل هي تشكِّل سمةً مشتركة لجميع كتاباته[2]. فها هو ذا يكتب مفجوعًا بمنظر العالم يعلن توبته واستغفاره إسرائيل، ما نُشِرَ على موقع www.left.ru تحت عنوان "تسونامي الغفران":
إسرائيل مكان مناسب من أجل تأمل الموجة العملاقة من توبة الغوييم
[غير اليهود]، إحياءً لذكرى آوشڤيتس التي تستمر أسبوعًا كاملاً. [...]
العالم كله يتسمَّر في مكانه مصغيًا للصلاة اليهودية طالبًا التوبة. فها هو ذا
شيراك يَعِدُ بتذكُّر اليهود الذين لم تنقذهم فرنسا؛ يعترف شيراك بالذنب الفرنسي،
الأمر الذي لم يفعله ديغول. وها هو ذا المستشار الألماني يعتذر معلنًا التوبة
إعلانًا مبالَغًا فيه أكثر من المألوف. [...] وها هو ذا النشيد الوطني
الإسرائيلي "هاتكڤا" يُعزَف بهذه المناسبة في الأمم المتحدة كصفعة على وجوه
الأساتذة العجيبين من جامعة كولومبيا الأمريكية الذين حاولوا التمييز بين اليهود
وإسرائيل. ولا يني شامير يذكِّر قرَّاءَه، في غير مكان، بالدور الذي لعبتْه، وما زالت تلعبه، المنظمات اليهودية لتزوير الحقائق وجعل العالم كله يخدم أهدافًا صهيونية ويحارب "العنصرية" في بلدانه خدمةً لعنصرية أخرى يقوم عليها إسرائيل. يكتب شامير في "تسونامي التوبة" بخصوص المواطنين الروس المتهمين بالعنصرية حيال اليهود: لقد تبيَّن لهم أنهم وعائلاتِهم حاربوا ضد ألمانيا النازية خدمةً لعنصريين آخرين. أما في رسالته التي نشرها على موقع www.left.ru تحت عنوان "تكشيرة الفاشية الوحشية أو المسيح قام يا أصدقائي الأعزاء!"، ردًّا على تهديد تلقَّاه من ساتانوفسكي، مدير "المعهد الصهيوني لدراسات إسرائيل والشرق الأوسط"، على آراء طرحها في البرنامج التلفزيوني الروسي "احكموا بأنفسكم" بتاريخ 20/04/2006 فقد قال: إن ما يهدِّد العالم ليس برنامج إيران النووي، بل خطط الولايات المتحدة العدوانية لمهاجمة إيران. وأكَّد أن دعوة الرئيس الإيراني أحمدي نجاد كانت لـ"مسح إسرائيل عن الخارطة"، وليس من الوجود. وهذا أمر جيد وبنَّاء. فعلى إسرائيل أن يزول كدولة عنصرية: ففي جوهر الأمر، دعا الرئيس الإيراني إلى تغيير النظام الاجتماعي في بلدنا، إلى التخلِّي عن السيادة اليهودية والتحول إلى المساواة بين اليهود وغير اليهود: "انتبه، حين تمشي في موسكو، تلفَّتْ حولك أكثر!" قال لي ساتانوفسكي بعد البرنامج [والكلام لشامير]. "ليست لدينا هنا ديموقراطية، فجماعتي هنا سيقضون عليك. نحن هنا لا نناقش، بل نشلع البيضات مباشرة. لا يعجبك أن إسرائيل دولة يهودية، فغادِرْها. أمَّا أن تشتمها فلن نسمح لك بذلك." ومازال أمثال ساتانوفسكي يتحدَّثون عن الفاشية! لم أسمع طوال عمري بمثل هذه التهديدات الفاشية العلنية تأتي من شخصية جدِّية تظهر على شاشات التلفزيون وتستقبلها منظَّمات ويلتقي بها مسؤولون، من رئيس اليهودية الروسية. فهو، شئنا أو أبينا، رئيس المؤتمر اليهودي الروسي! وفي حربه على الازدواجية الخادمة للصهيونية، يتوقف شامير عند ازدواجية التروتسكيين الغربيين اليوم، ودعمهم لما يخدم أهدافًا يهودية، متخلِّين عن مبادئهم أمام هذه المصلحة. كتب شامير في "ساغا عن سيليا الشابة" (موقع www.left.ru)، محاورًا التروتسكي آلان ڤودس: بصرف النظر عن موقفه المناهض للقومية، فهو يعترف بصنف واحد من القومية. والحديث يدور عن اليهود. فالشيوعي، وفقًا لڤودس، يناهض جميع أشكال القومية، ماعدا القومية اليهودية. [...] التروتسكيون، في الحقيقة، يدعمون الإمبريالية من جهة اليسار! وبعد، فيمكن لمن يتابع كتابات شامير أن يتوقف عند الكثير من الشواهد التي تدلِّل على موقفه الأصيل المناهض للعنصرية الصهيونية وللشوڤينية اليهودية وللدور الذي تلعبه المنظمات اليهودية الداعمة لإسرائيل ووسائل الإعلام التي تملكها أو توجِّهها لغسل الأدمغة وتزوير الحقائق. وقد تكون لكتابات شامير بالروسية أهمية خاصة نظرًا لوجود نسبة كبيرة من الناطقين بالروسية في إسرائيل اليوم، ولشهرته في روسيا والإقبال الذي لقيه كتابُه صنوبرة وزيتونة هناك، ولتعاظُم الدور الروسي في السياسة العالمية يومًا بعد يوم. اللاذقية، سورية *** *** *** |
|
|