|
هل
حقوق الإنسان إمپريالية جديدة؟ ها نحن
بعيدون عن كلِّ إمپريالية. يضم مفهومُ "حقوق
الإنسان"، من الآن فصاعدًا، سائر القواعد
القانونية – غير القابلة للانفصال
والمتزايدة باستمرار – التي تنظِّم
الممارسةَ الفاعلة لهذه الحقوق. فوراء الحق
في الحياة والأمن، وحرية التصرف في الممتلكات
الخاصة، والحق في المساواة أمام القانون، وفي
حرية الفكر والتعبير، وفي التعليم والمشاركة
في السلطة السياسية، هناك الحقوق الأخرى كلها
التي تكمِّلها أو تجعل تطبيقَها ممكنًا: الحق
في الحياة والسعادة، وفي العمل والراحة، وفي
المسكن وحرية التنقل، إلخ. لكن أيضًا، وراء
هذا كلِّه، الحق في التصدِّي للاستغلال الذي
يمارسه رأسُ المال – الحقوق النقابية –
وصولاً إلى الحقِّ في الترقِّي الاجتماعي،
وفي تحسين ظروف عيش الإنسان، – سواء كان
تحسينًا طوباويًّا أو مسيحانيًّا، – والحق
في الإيديولوجيا وفي النضال من أجل حصول
الإنسان على حقوقه كاملة، وفي تأمين الظروف
السياسية لهذا النضال. لا شكَّ في أن حداثة حقوق
الإنسان تصل إلى هذا الحد! ومن المؤكَّد أيضًا
أنه من الضروري أن نتساءل عن ماهية الطبيعة
الملحَّة لهذه الحقوق المختلفة وترتيبها
وهرميَّتها، وعما إذا كنَّا نقوِّض الحقوقَ
الأساسية عندما نطلب كلَّ شيء من دون تروٍّ.
لكن هذا لا يعني الإقرارَ بضرورة وضع حدود
للدفاع عن هذه الحقوق، ولا التشكيك فيها، بل
يطرح مشكلةً جديدة حول حقٍّ غير قابل للجدل،
ويخصِّص له، دون تشاؤم، مساحةَ تفكير لا بدَّ
منها. من هذا المنطلق، لا يمكن لنا
أن نفصل اكتمالَ حقوق الإنسان، الديناميِّ
والمتنامي باستمرار، عن الاعتراف بحقوق
الإنسان المعروفة بالأساسية وعن كونها تفرض
التسامي بطريقة ما على كلِّ ما هو غير بشري في
الطبيعة الصِّرف وعن الضرورات العمياء في
الجسم الاجتماعي. تُحترَم وحدانيةُ الشخص
وعدم قابليَّته للتجزئة وتتأكدان عمليًّا من
خلال الحدِّ من العنف الذي تتعرضان له في
حتمية الواقع، سواء كانت منظَّمة أو فوضوية. لكن تطور العلوم
والتكنولوجيا، الذي من شأنه أن يتيح
الاحترامَ الفاعل لحقوق الإنسان الموسَّعة،
يمكن له أن يولِّد بدوره عوائق تحول دون تحقيق
هذا الاحترام. ويمكن للتكنولوجيا أن تتضمن
بذاتها متطلبات لاإنسانية تشكِّل حتميةً
جديدة تهدِّد حريةَ التحرك التي يُفترَض فيها
أن تتيحها. في مجتمع صناعيٍّ بكامله أو في
مجتمع توتاليتاري – ينجم بالتحديد عن
التقنيات الاجتماعية التي تسعى إلى أن تكون
في غاية الإتقان – تُقوَّض حقوقُ الإنسان
بفعل الممارسات نفسها التي تُحفِّزها هذه
الحقوق. مَكْنَنَة واستعباد! ناهيك عن
الموضوع المبتذل المتعلق بترافق التطور
التقني مع تطور الأسلحة المدمِّرة والتلاعب
التعسفي بالمجتمعات والنفوس. تبرز هنا جدليةٌ
يمكن لنا أن نصل بها بكلِّ سهولة إلى حدِّ
التشكيك في التكنولوجيا أو شَجْبها دون أن
نأمل في أن تكون هناك فرصةٌ للتوازن، لعودة
محتملة إلى الوراء في العلوم والتكنولوجيا.
وهي مشكلات لا يمكن طمسُها لأن ما هو رهن
بالتقدم التكنولوجي ليس التطور الجديد لحقوق
الإنسان في البلدان "المتحضرة" وحسب،
إنما احترام حقوق الإنسان في العالمَين "الثالث"
و"الرابع" اللذين يتهددهما المرضُ
والجوع أيضًا. لكنْ ألا تواجه حقوقُ
الإنسان أيضًا – أي الحرية الفردية، وحدانية
الشخص – خطرَ أن تدحضها حقوقُ الإنسان الآخر
أو تسيء إليها؟ ما يسمِّيه كانط "سيادة
الغايات" هو مجموعة متعددة من الإرادات
الحرة يجمع بينها العقل. لكن أليست الحرية
إنكارًا محتملاً للإرادة الأخرى، ما يعني على
الأقل أنها تضع لها حدودًا؟ إنه مبدأ الحرب
بين الحريات المتعددة أو نزاع يجب حلُّه بين
الإرادات العاقلة بواسطة العدالة: من شأن
حقٍّ عادل متطابق مع القوانين الدولية أن
ينأى بنفسه عن التعارض بين الإرادات المتعددة.
يبقى أن نعرف فيما إذا كان تقييد الحقِّ
بالعدالة هو في الواقع أسلوب لمعاملة الشخص
كغرض عِبْرَ إخضاعه – هذا الشخص الفريد من
نوعه وغير القابل للمقارنة – للمقارنة
والفكر، للمرور عبر ميزان العدالة الشهير،
وتاليًا، للحسابات. من هنا التشدد الأساسي في
القانون الذي من شأنه أن يسيء إلى الإرادة من
خلال كرامةٍ غير الكرامة التي تتعلق باحترام
القوانين الدولية. كرامة الطيبة في
اختصار! إذن، ألا يبقى حق الإنسان،
بعد أن تقيِّده العدالةُ بهذا الشكل، حقًّا
مكبوتًا، والسلام الذي يرسيه بين الناس
سلامًا غير أكيد حتى الآن وهشًّا على الدوام؟
لا شكَّ في أن السلام السيئ أفضل من الحرب
الجيدة! لكنه سلام نظري يبحث عن الاستقرار في
سلطات الدولة، في السياسة التي تكفل طاعةَ
القانون بواسطة القوة. ومذَّاك، تبدأ
العدالةُ باللجوء إلى السياسة، إلى خدعها
وحيلها: إنه نظام منطقي يُبنى انطلاقًا من
ضرورات الدولة التي هي معنيَّة به. تشكِّل هذه
الضرورات حتميةً صلبة بقدر حتمية الطبيعة
اللامبالية بالإنسان، حتى ولو كانت العدالة،
– حق الإنسان في الإرادة الحرة وتَوافُقها مع
الإرادة الحرة للآخر، – عند انطلاقتها،
غايةً أو ذريعةً لتسويغ الضرورات السياسية.
وهي غاية مهمَلة في الانحرافات التي تفرضها
ممارسةُ السلطة، غايةٌ مفقودة في الوسائل
المطبَّقة. وفي حال كانت الدولة توتاليتارية،
يُقمَع الإنسانُ وتُنتَهك حقوقُه وتُرجأ
العودةُ النهائية إلى حقوق الإنسان إلى أجل
غير مسمَّى. لقد وضعت الماركسية، التي نكون
مجحفين في حقِّها إذا لم نقر بصداقتها
للإنسان الآخر في بداياتها، والتي أظهرت
حذرَها من محبة البشر محبةً مطلقة، – من دون
واجبات ولا قيود، ومن دون حقوق الإنسان
الآخر، – وضعت ثقتَها كلَّها في حسابات
سياسية معيَّنة. وقد كانت الستالينية مناقِضة
لها مناقَضة شديدة. الدفاع عن حقوق الإنسان مهمة
خارجة عن نطاق الدولة، تتمتع في مجتمع
سياسي بنوع من الحصانة السياسية على غرار
الحصانة الممنوحة للنبوءة أمام السلطات
العامة في العهد القديم، وبتيقُّظ مختلف
كليًّا عن الذكاء السياسي، وبنفاذ بصيرة لا
يكتفي بالانحناء أمام شكلانية العمومية، بل
يدعم العدالة ضمن الحدود الموضوعة لها.
يحدِّد إمكانُ ضمان هذه الحصانة السياسية
وهذه الاستقلالية الدولةَ الليبراليةَ،
ويرسم النمطَ الذي يسمح بتحقيق دمج تلقائيٍّ
بين السياسة والأخلاقيات. لكن، وفي إطار الدفاع عن
حقوق الإنسان، من غير المناسب أن نفهم بعد
الآن هذه الحقوق حصرًا من خلال حرية تصبح
عمليًّا إنكارًا لأية حرية أخرى، حيث تتحول
التسويةُ العادلة بين هذه الحرية وتلك إلى
تقييد متبادل للحريتين. تنازُل ومساومة!
تحتاج العدالة – وهذا أمر لا مناص منه – إلى
"سلطة" غير سلطة الجماهير التي تقوم بين
إرادات متعارِضة ويمكن معارضتُها منذ
البداية. يجب أن توافق الإرادات الحرةُ لهذه
الجماهير بناءً على سلام مسبَّق لا يقتصر على
عدم التعدِّي، بل يشمل، إذا صحَّ التعبير،
إيجابيةً خاصة به، حيث تعني فكرةُ الطيبة
الترفع النابع من المحبة، وحيث لا يكون
للآخر الفريد والمطلق معنى إلا من خلال
المحبوب والذات. وفي الإنسانية، ينشأ بين
فرد وآخر قُرْبٌ لا يكتسب معنى من خلال الصورة
المجازية المكانية للتوسيع المفهومي. منذ
البداية، الواحد والآخر تعني الواحد مقابل
الآخر: أنا من أجل الآخر. فجوهر الكائن
العقلاني في الإنسان لا يعني فقط بروزَ حياة
نفسانية في شكل معرفة، في شكل ضمير يرفض
التناقض ويضع الآخرين في إطار مفاهيم محدَّدة
عبر تحريرهم في الهوية العالمية، بل يعني
أيضًا قدرةَ الفرد الخاضع، للوهلة الأولى،
إلى توسيع مفهومي – توسيع لمفهوم الإنسان –
على أن يفرض نفسه فريدًا من نوعه، وتاليًا
مختلفًا اختلافًا كاملاً عن الآخرين كلِّهم،
لكن في إطار هذا الاختلاف – ودون إعادة تكوين
المفهوم المنطقي الذي تحرَّرت منه الأنا –
ألاَّ يكون غير مبالٍ بالآخرين. وإذن، ابتعاد
عن اللامبالاة أو حسٌّ اجتماعي – طيبة فطرية؛
سلام أو تمنِّي السلام، بركة؛ شالوم –
حَدَث اللقاء الأول. اختلاف وابتعاد عن
اللامبالاة، حيث "ينظر" إليَّ الغير –
الغير المطلق، "الأكثر غيرية"، إذا صحَّ
التعبير، ممَّا هم عليه الأفرادُ من النوع
نفسه الذين تحرَّرت منهم الأنا – لا لكي "يدركني"،
بل لكي يجعلني "معنيًّا" و"مهتمًّا"
به كفرد ينبغي عليَّ التجاوب معه. الآخر الذي
"ينظر" إليَّ – بهذا المعنى – هو وجه. الطيبة في السلام هي أيضًا ممارسة
للحرية، حيث تتحرر الأنا من "عودتها إلى
الذات"، من تأكيدها للذات، كي تتجاوب مع
الآخر، وتدافع عن حقوق الإنسان الآخر. ليس
الابتعاد عن اللامبالاة وطيبة المسؤولية
حياديَّين بين المحبة والعداوة. يجب التفكير
فيهما انطلاقًا من اللقاء، حيث تكون
أمنية السلام – حيث تكون الطيبة – اللغة
الأولى. إنها الحرية في الأخوة،
حيث تتأكد مسؤوليةُ الواحد تجاه الآخر، ومن
خلالها، يرى الضمير في حقوق الإنسان، في
الواقع الملموس، حقًّا للآخر ينبغي عليَّ
التجاوب معه. فينومينولوجيا حقوق الإنسان هي
أن تظهر هذه الحقوق منذ البداية بأنها حقوق
الآخر وواجب عليَّ، بأنها واجباتي في
الأخوَّة. واجبي تجاه الآخر الذي يحمِّلني
مسؤوليةً هو توظيفٌ لحرِّيتي الشخصية. في
المسؤولية التي هي في ذاتها غير قابلة للردِّ
أو التنازل عنها، أنا غير قابل للتغيير:
أُنتخَب فريدًا من نوعي وغير قابل للمقارنة.
فقبل أن تظهر حريتي وحقوقي في إنكاري لحرية
الآخر وحقوقه، يجب أن تتجلَّى تحديدًا في مسؤوليتي
في الأخوة الإنسانية: مسؤولية لا تنضب،
لأننا نبقى دائمًا مدينين للآخرين. ***
*** *** ترجمة:
نسرين ناضر [1]
فيلسوف إنساني فرنسي لتواني
الأصل (1906-1995)، ندين له بجانب كبير من تجديد
الفكر اليهودي المعاصر. من كتبه: الزمن
والآخر (1948) والحتمية واللانهاية (1961).
في الذكرى المئوية الأولى لولادة الفيلسوف
الكبير أعادت مجلة le Nouvel Observateur
الفرنسية نشرَ هذا التأمل
له حول حقوق الإنسان. (المحرِّر)
|
|
|