|
الـحـرب والسِّـلـم لم أقرأ الحرب والسلم لليف
تولستوي. ليس من هاجس للإنسانية أكثر حدة من
هذا، لكونه هاجس الموت أو استمرار هذه الحياة.
الحيوان في احتراب مثلنا، أو نحن أشباهه.
الزهر يبدو لي وحده عائشًا في سلام لأنه لم
يبلغ وعيَ جماله أو وعيَ قوته كالحيوان. لماذا
الصقرُ يجب أن يقتل العصفورَ والسمكُ الكبيرُ
السمكَ الصغير؟! لماذا الموت وحده يضمن "التوازن"
أو ما يُسمَّى كذلك؟! الموت يجب أن يأتي
بطريقة ما. في
هذا المنحى نُسِبَ إلى پول فاليري قولُه: "نحن
الحضارات نعلم أننا صائرة إلى الموت." هذا
شوهد قبل الكلام على "صِدام" بينها. "الحضارة"
تعني شيئًا من الهدوء والكثير من الإبداع
والانتظام على طريق الارتقاء. ثم تزول
الحضارةُ بالغزو: البرابرة يفتحون المدن،
ويتعلَّمون الحكم حيثما حلُّوا، ويتمدنون
قليلاً قليلاً، حتى يؤمنوا بشيء من السلام
نافع لهم وبشيء من الحرب يمدون بها نفوذَهم.
ولكن لماذا لا ينكفئ المنتصرُ إلى نصره ويسعى
إلى الانتشار؟ ما من شكٍّ في أنه يخشى أن يصبح
مغلوبًا كما غَلَبَ وأن يفتقر ويتبدد. الخوف
إذًا سببٌ للاستقواء وتزوُّد الثروة وتمكين
الجيوش. أنت تستقوي لأنك تخشى الموت! لم
أدرس في دقة التاريخَ القديمَ لأتبين إذا
كانت دوافع آشور وفارس ومصر واليونان وروما
واحدةً في فتحها الشعوب. ولكن من مقارنة الفن
الآشوري بالفن المصري، يتبيَّن لك أن مصر
ألطف وأقل غطرسة من بلاد ما بين النهرين. ثم
يتبين لك أن همَّ الإسكندر الكبير كان تثقيف
الشعوب واحترام أديانها وتقاليدها، إلى درجة
أنه تمصَّر شكلاً، إذ جعل نفسه فرعونًا؛ وقد
أحبَّ هذا البلد حتى دفنوه فيه، مع أنه مات في
آسيا. غير أن ذهولي يأتي من روما: كيف استطاعت
هذه المدينة التي كانت في حجم قرية لبنانية
كبيرة أن تسود العالم وأن تقيم فيه شَرْعًا
وطُرُقًا لا يزال بعضُها على كماله حتى
اليوم؟! *** السؤال الذي لا بدَّ منه هو:
هل إن العنصر الاقتصادي لعب دائمًا دورًا
كبيرًا؟ ما كانت حاجة أثينا، التي كانت في عهد
أفلاطون في حجم قرية لبنانية صغيرة، إلى أن
تسيطر على العالم حتى الهند وهي قادرة على أن
تأكل هنيئًا وتشرب مريئًا؟! الدافع الاقتصادي
واضح في الاستعمار الغربي الذي مورس في القرن
التاسع عشر؛ ولعله كان كذلك عند قادة الحروب
الصليبية (هنا كنت أتمنى أن يفهم ذلك أسامة بن
لادن وسليمان بوغيث وأيمن الظواهري، حتى لا
يروا شبح صليب في قلوب غزاة أفغانستان!).
والغربي يأكل اللحم كثيرًا، ويشرب الخمر
كثيرًا، ويتبجح بمنجزاته كثيرًا. فالاقتصاد
الواسع المتنامي رمز لعظمة عقله وأمارة
ملموسة من أمارات وجوده. ولكن
ما يشفع في أوروبا الغربية قليلاً – وعلى وجه
الدقة فرنسا – أنها صدَّرتْ حضارةً، وأن
ليوپولد سنغور، على سبيل المثال، لم يستطع أن
يحكم برهافته السنغال لولا معرفته العالية
بالصرف والنحو الفرنسيين. في مؤتمر القمة
الإسلامي في الطائف كنت أطرب لفرنسية
المسلمين الأفارقة، فيما كنت أرجو أن يحدثونا
بلغة القرآن. ليست شهوة نفسي أن أمدح
الاستعمار الذي كاد أن يقتلني في طرابلس في
الـ11 تشرين الثاني من السنة الـ1943 كما قتل
رفاقي في التظاهرة التي كانت تجتاز طريق
الميناء. غير أن الشر يطلع منه بعضُ خير! ولكن
ما "الخير" الذي ينتج من استعمار أمريكا
للعالم وهي ليست على ثقافة فرنسا؟! عليكم
بكتاب الشر الأمريكي الذي قد يكون
منحازًا بمقدار لكون كاتبه فرنسيًّا[1].
وكنت في سذاجتي أقول لنفسي إن الولايات
المتحدة، العظيم مداها، العديد سكانها،
الثرية، المليئة حتى التخمة، لا تحتاج إلينا
– حتى أدركتُ أن النهم لا حدَّ له، وأن
الاستلذاذ البشري يقوى ما غذَّيتَه فيك. كما
فهمت أن الأمريكي يقدر أن يرشَّ من أصوليته
الپروتستنتية مَلْحَ الغيرة على الشعوب
المقهورة، غير معترف في نفسه أن غيرته
الحقيقية لا تجعله متحمسًا لتعليم
الديموقراطية والحرية (فالشعوب بلادها
أسواق، وهي أسواق)، وأنه يستحيل دائمًا أن
يستميل بعضَ الأغنياء فيها أو بعضَ العسكر
ليغذي أطماعهم وكبرياءهم، فيقرؤون على
جماهيرهم أن لها في التعاون مع أمريكا
العظيمة منافع في الأرض. *** ويقال لي، في سذاجتي، إن
القضية كلَّها في السعي إلى النفط والسعي إلى
الغاز واليورانيوم هنا وثمة، وإن هذا ما قد
يسهم في حلِّ مشكلة البطالة في الولايات
المتحدة. حتى إذا انتهكتُ سذاجتي قليلاً أفهم
أن للشركات المتعددة الجنسية فوائدَ من ذلك
كلِّه، وأن لمعامل السلاح فائدةً مستمرة؛
فيدرك المواطن الأمريكي أن بركات الله عليه
هي بالمال، كما كانت على إبراهيم. ولكن،
أين السلام من هذا كلِّه؟ أظن
أن لأوروبا جوابًا عن هذا. قال لي أحد السفراء
الأوروبيين المعتمَدين في لبنان: "لم تبقَ
الحربُ ممكنةً بين دولنا... أخيرًا، أخيرًا لن
نتحارب." هذا في احتسابي ليس فقط ثمرةَ
الازدهار الذي عمَّ هذه الشعوب. أجل، كان
ارتقاؤها الاقتصادي أساسيًّا مداميك في هذا
البناء الحضاري الجديد؛ ولكنها ربَّتْ نفسها
على فكرة السِّلم. أنا عشت وقتًا قبل الحرب
العالمية الثانية، حيث كان الفرنسي يكره
الألماني ويحتقر الإنكليزي. هذا لم يبقَ له
أثر. رأوا أن الموتَ يلد الموتَ، والحقدَ
الحقدَ؛ وهذا يجعل يَدَكَ على الزناد. لمسوا
أن هذا كان جنونًا يقضي عليهم جميعًا، وأن الحياة
في طلب الحياة، وأن هذه طيبة كالجنة. السؤال
الذي يطرح نفسه هو هذا: ألا نستطيع أن نعمِّم
خبرةَ أوروبا الغربية؟ – بحيث نعتبر أن
التعاون الاقتصادي الصادق ممكن بين الأمم
الفقيرة والأمم الغنية؛ بحيث يزول السؤدد،
وتبدو المرافقة، ويفيد الجميع من هذه
المرافقة، فلا ينتج بعضٌ ويستهلك بعض، ولكننا
ننتج جميعًا في المعيَّة ونستهلك معًا. هذا
يتطلب، طبعًا، نوعًا من "الاستعمار
الثقافي" الجيد الذي هو آتٍ بالمعرفة
وبعولمة متكيفة بكرامة الشعوب جميعًا،
هادفةٍ إلى نموِّ الجميع بكثير من الصدق، حتى
يتروَّض الجميعُ أن في هذا نفعًا للكبير
والصغير، بلا تطويع ولا استكبار ولا استثمار
آحادي الطرف. هل
تهتدي يومًا أمريكا إلى اعتبار نفسها لا
أُمًّا للعالم بل أخت، فيما هي تفهم ما
قرأته في كتابها العزيز بأننا "أولاد الله
الواحد، كائنة ما كانت مذاهبُنا"؟ لا شيء
أعز على قلبي من اهتداء أمريكا إلى الإنجيل في
بساطته. أليس فيها طاقة من الصدق لتترجم
الوحيَ الإلهي سياسةً واقتصادًا إنسانيين
لا ابتلاع فيهما للآخر، بحيث نجلس معًا حول
مائدة هذه الدنيا، ونستطيب ما فيها، ونضع
عليها ما نتج لمصلحة الجماعة الإنسانية؟! أنا
واثق من أن هذا ممكن ترجمته أرقامًا وسياسة في
هيئة أمم متحدة تستعيد، مع مؤسَّساتها
الفرعية، حلمَها القديم الذي كان سلامَ
العالم أجمع. *** *** *** عن
النهار، السبت 20 تشرين الأول 2001 [1]
Michel Crozier, Le mal américain, Fayard, Paris, 1980.
|
|
|