|
الشِّعر
مرآةُ الرُّوح أسيرُ
في دَرْبٍ داخليٍّ مُعَبَّدٍ بالنُّور بعد مجموعات شعرية خمس صدرتْ جميعًا
عن "دار النهار"[1]،
تُكمل الشاعرةُ ندى الحاج، مع إصدارها الجديد
بخفة قمر يهوي (دار النهار، 2006)، دربَها
الشعري الأثيري في مناجاة إلى "المبتغى
والمنتهى"، كما تقول. تتردَّد وتثرى،
تتشعَّب وتتشظَّى، لكن بالشفافية التي لا
يسعها، أحيانًا، حتى حَمْل المفردة. عن إصدارها الجديد، والإضافة
اللافتة في فنية قصيدتها، كان هذا الحوار. عناية
جابر *
* * عناية جابر:
في لغتك الشعرية، العلاقةُ بينك وبين الخالق،
أو كما تقولين "المبتغى والمنتهى"، هي
التي تقود مفردتَك إلى الشعر. المفردة عندك إيمانية،
صوفية إلى حد، لا تغادر دائرةَ المناجاة
والرجاء. إلى أيِّ مدى مفردتك حرة خارج هذه
القصائد الابتهالية؟ ندى الحاج:
صحيح أن "المبتغى والمنتهى" يمثل حيزًا
في شعري وفي حياتي، صحيح أن مفرداتي إيمانية،
صوفية إلى حد، لكنها لا تنحصر فقط في دائرة
المناجاة والرجاء. فالحب عندي هو نقطة
الانطلاق التي تحلق نحو المطلق: عيناه
تحترقان شوقًا إلى رؤية هذا المطلق، وقلبه
يضطرم وَجْدًا لمعانقته والذوبان في نوره.
حياتي كلُّها تدور حول الحب اللامتناهي. وما
نحن سوى شذرات يبحث بعضُها عن بعض ليكتمل
ضوؤها. خلال هذا البحث، قد ترتطم الشذراتُ
بجدران العتمة، أو تقع في هاوية الوحدة، أو
تقبع في زوايا الانتظار، وأحيانًا تلسعها
نيرانُ الجحيم، ولكن ثمة دومًا يدٌ تنتشلها
أو ملاك يحملها على أنفاس النسيم. الشعر، في نظري، هو ذروة
الانصهار بين الخالق والمخلوق، بين العاشق
والمعشوق، بين البوح والسر، بين الالتفاف على
الذات والانعتاق منها، بين المحسوس
والتجريد، بين اللغة وما قبل اللغة، حيث
تنتفي الحدود. ع.ج.:
قصائدك في كتاب بخفة قمر يهوي هي أيضًا
"رياضات روحية"، إذا جاز التعبير، حيث
يبدو الشعرُ نوعًا من أخلاقية اللغة ومن
تساميها ورهافتها. هل توافقين على ذلك؟ ن.ح.:
الشعر ليس لغةً وحسب، بل دعوةٌ إلى وليمة لا
تنكشف أسرارُها حتى للداعي إليها – هذا
الداعي الذي ينخطف إلى سحر الشعر كالذبيحة
تُقاد إلى المذبح، متحرقةً شوقًا للقاء إلهها. وإذا كان الشعر مرآة الروح،
فأنا أكتبه نزولاً عند رغبة هذه الروح
بالتعري أمام ذاتها. إذ هي تفاجئني أحيانًا
بأنْ تكشف لي أشياء لا أبوح بها لنفسي إلا في
الكتابة، حيث تفلت من عقالها، فلا غلٌّ
يقيدها ولا كاتمٌ يخنق صوتها. إنها هنا، تنبض
على الورقة، دمها ساخن، أنفاسها حرَّى، عارية
من كلِّ حساب، ساجدة للحقيقة – حقيقة الشعر
التي لا لُبس فيها. عتمات
وظلال ع.ج.:
هذه مجموعتك السادسة بعد مجموعات خمس ظلت
بعيدة عن معاينة الحياة عن كثب، نائية عن "قصائد
اليوميات"، كما درجتْ التسميةُ عند شعراء
الحداثة. كتابة مترفِّعة عن الواقع – لماذا؟ ن.ح.:
أسير في درب داخليٍّ معبَّد بالنور، تحيط
به عتماتٌ كثيرة وظلالٌ كثيفة أحاول أن
أزيلها بإضاءتها. هذا لا يعني أني أترفع عن
الواقع. فأنا أعيش فيه وأغرف تجاربي منه. ولكن
"واقع اليوميات" لا يكفيني لأحيا، بل
يُضجِرني ويُشعِرني بضيق محدوديتي. أحب أن
أخترع الواقع الذي أريد، حتى لو كلَّفني ذلك
من حياتي غاليًا – ولكن دون أن أتعامى عن واقع
الظلم والبؤس المتفشي في العالم الذي يضنيني. "كتابة اليوميات" لا
تعنيني لأني لا أجد نفسي فيها؛ كما لا أجد
نفسي محصورةً في أيِّ خطٍّ شعري أو تسمية
شعرية. فالشعر، في نظري، هو تفلُّت من كلِّ
شيء، حتى من ذاته، إذ يفجر اللحظةَ من نواتها
ليعيد خَلْقَها كما يحلو له ويكون أول
المندهشين بها! ع.ج.:
في قصائدك إلى أمِّك في نهاية المجموعة،
وخاصة في القصيدة الأخيرة "كثيرة روحي حولك"،
نقع على القصيدة الطويلة التي تستلزم نضجًا
في الصياغة وفي ضبط القصيدة على فنيَّتها. هل
خصوصية موضوع القصيدة هي التي استدعت
الاسترسالَ فيها، أم الرغبة في خوض نمط آخر من
البوح؟ ن.ح.:
لم أتعمد القصيدة الطويلة، كما في "كثيرة
روحي حولك"، بل أخذتْني تجربةُ الغياب إلى
ما هو أبعد من البناء والصياغة. أخذتْني حيث
أردت فعلاً ملاقاة أمِّي وراء الحدِّ
الفاصل بين الحياة والموت. أردت أن أضمَّها
وتضمَّني، أن أشمَّها وتشمَّني، أن تحيا فيَّ
على الدوام، لأني بفقدانها فقدتُ جذوري
وتخلخل كياني – مع أني أؤمن إيمانًا شديدًا
بأن ثمة حياة بعد الأرض أفضل من حياتنا
الأرضية، حيث تكمل النفسُ مسارَها الروحي
لتكتمل، وأؤمن فعلاً بأن أمي ملاك أود
أن أعانقه، وبأني سألتقي بها في ما بعد. لم تكن
قصيدة طويلة إلا على قدر لهاثي الذي رغب في
شدة في التقاط طيفها؛ ولم تكن ناضجة الصياغة
إلا على قدر نضج ألمي. وهي، أي أمي، مازالت
أقرب إنسان إليَّ منذ ولادتي حتى اليوم، وهي
"مختصرة كون الله في مسامي". هذا من جهة. ومن جهة أخرى،
ليس نضج الصياغة حكرًا على القصيدة الطويلة،
في صورة عامة، بل نجده أيضًا في القصيدة
الصغيرة التي هي أشبه بالوميض الذي يكتنف
كثافةَ التجربة وعمقَها مع توهُّج اللغة. *
* * مختارات
من بخفة قمر يهوي حتى
لو هذا العابر صدفةً كالنسيم
والريح والصاعقة هذا العارف الجاهل الكاسر
المنسل الرابط العازل المتحوِّل
الكافر السري السافر الظالم المبكي
الخائف التائه لن أدعوه حبًّا لن أدعوه
وهمًا ولا قاتلاً حتى لو عرفت القتيل زهد مَن يكتنز سرًّا يعشق أثرًا يفترش عطرًا يغوي حلمًا يسكر عطشًا يلمس فراغًا ويرتعش صلاةً سلامُه في
قلبه وقلبه على سنبلة مائلة في
غدير مَن يكاد يهمس يكاد يفور من
عينيه الماء ويعيش في قلبه عصفور يكاد ينثني ويضيع في وادي
الزهد انفلات إذا الضباب وهمٌ والموج وهم والعبير وهمٌ والحلم سبيل سأمدُّ جسدي جسر عبور
للأوهام إذا الجنون وهمٌ والانتظار
وهمٌ والزمن وهم سأزور أوهامي واحدًا واحدًا
قبل النسيان الأخير ارتماء تركتُ المنفى والمرفأ تبعتُ
الحدس والغيب عجزتُ عن العودة أسرتْني
الرؤى وفتات الروح طليق بين أنفاس عذبة لحرية تبحث
عن ذاتها زمن الغياب ولَّى واليابسة
في أفول عبرت الأنوار وانكمشت
الظلال متى تُهتَك الحجبُ وتُدرَك
السماوات؟ تيه أسعى إليك في ظمأ الغزال
ودوار النسر في غريزة الوجود وترفُّع
العابر في نقصان الكمال وتمرُّد
الحكمة أتوب فيك من كلِّ شيء من سرير الوحشة وغموض
اليقظة من أغصان اليدين وفيض
القُبَل من سنين لم تأتِ وسنين لن
تعود أتيه فيك كروح تفتش عن رحم نداء
عيني هلمِّي يا بحاري وتلقَّفي
ناري قبل أن يحرق رمادي أعماقي وصال تسللتْ يدك إلى الذكرى مشعةً رهيفةً كنفناف بعيد
المدى لم أعرف أن تلك اليد سفري
إلى المهد وصالي بما قبل وما بعد أن بيننا حيواتٍ خاشعةً في
راحات الانتظار ***
*** *** حاوَرَتْها:
عناية جابر عن
السفير، 27/06/2006 [1]
هي، على التوالي: صلاة في الريح
(1989)، أنامل الروح (1994)، رحلة الظل
(1999)، كل هذا الحب (2001)، غابة الضوء
(2002). |
|
|