|
كـتــاب
فـاتـنـة في
ما يلي من كلام، لا أتحدث عن كتب تخصني أو تخص
غيري من الكتَّاب، وإنما أتحدث عن كتاب غير
مألوف ولا منشور، لم تؤلِّفه صاحبتُه، ولكنه
يقف وراء ما ألَّفتُه من كتب، أو على الأقل،
يتصل به اتصال المعيش بالمكتوب أو الخفيِّ
بالمرئي – أقصد به كتاب زوجتي الراحلة فاتنة
حسن عبد الله. ما كنتُ أحسبني أقف هذا
الموقف لأرثي زوجتي. إنها لحظة لم أهيئ نفسي
لها. ولكن أقدارنا ليست بيدنا، ولا أجسامنا
طوع أمرنا. ولذا أجدني في هذه اللحظة القصوى –
لحظة الفقد حتى الفجيعة التي تضعضع الكيان –
أنتبه إلى ما أنا غافل عنه، فألملم بعضي على
بعض وأجمع ما تشتَّت من فكري وأمري، لأقول
كلمتي، كما يُنتظَر مني. فلفاتنة دينٌ عليَّ
كبير. وأقل ما في وسعي فعله هو أن أقف لأشهد
لها، كزوجة وامرأة وإنسان، فأقرأ في "كتاب"
حياتها بعضًا من صفحاته التي سطَّرتْها
بصنيعها الجميل وأثرها الطيب. المصادفة أفتتح الصفحة الأولى بلقائي
بها الذي كان من أسعد المصادفات في حياتي،
بقدر ما افتتح لي زمنًا من أجمل أزمنتي. وهي
التي غادرت بلدتَها الخيام لكي تقيم في
بيروت، بعد أن بدأت العواصفُ تهب على البلد
المزدهر والآمن. وقد عرفتُها أول الأمر
طالبةً أتتْ لتتابع دراستها في صفٍّ للفلسفة
كان في عهدتي. ومع أني اكتشفت فيها، منذ
البداية، فتاةً في منتهى الظرف والذكاء، فقد
كانت على النقيض مني في السياسة – وهي التي
خرجت من بيت سياسيٍّ، وتنتمي إلى أسرة
لبنانية معروفة هم آل عبد الله من الأرومة
التنوخية. ولذا كانت تقف على جبهة اليمين، كما
كان شأن معظم الأسر السياسية، لكي تدافع عن
النظام الذي كان قائمًا في لبنان في مطلع
السبعينيات من القرن الفائت؛ وهو نظام كانت
له، ولا شك، حسناته كما كانت له سيئاته (وربما
كانت حسناتُه تفوق سيئاتِه!). أما أنا فكنت،
شأن الكثيرين من أبناء مهنتي وجيلي، أقف في
معسكر اليسار، وأرى الأشياء بعين مثالية
فردوسية، فلا أرى من النظام إلا عيوبه. ولذلك
حلمت مع غيري بتغيير الوضع القائم لإقامة
نظام بديل يملأ الأرض قسطًا وعدلاً وجمالاً.
وكانت النتيجة معكوسة، على ما ذقنا من أهوال
الحرب ومآسيها. بهذا المعنى، كان أنبياء
الوحي، الذين وعدوا بالفردوس في اليوم الآخر،
أعقل من فلاسفة التقدم الذين حلموا بتحقيق
الفردوس على هذه الأرض، لكي يترجَم شقاءً
وجحيمًا. الشراكة غير أن التنافر السياسي لم
يُفسِد علاقةً وديةً نشأت بيننا وتنامت.
فالمشاكسة الجميلة التي تحولت إلى محبة، كما
هي سِيَر بعض المحبين، قد تجلَّت في ذلك القيد
الوحيد الذي يسعى المرء طوعًا لكي يطوِّق
عنقه به، والذي قد يفكر بالفكاك من أسره، بعد
فوات الأوان أو بأفدح الأثمان! وكانت الحصيلة
عقد شراكة زوجية أثمرت عن ابنين اثنين. وهذا
هو المعنى الأصلي للـ"بناء" كما سمَّتْه
العرب [يقال: "بنى بها"]: إنه استيلاد
الأبناء؛ ومنه استُعيرت اللفظةُ لمعاني
النهوض والعمران والإنماء. (و"البناء" هو الشراكة
الناجحة والمثمرة، القائمة على تبادل
المنافع والخيرات أو الخبرات، سواء تمَّ ذلك
على مستوى أسرة أو شركة أو دولة، أو على مستوى
المعمورة. وما لم تُدَرِ الأمورُ بعقلية
الاعتراف والشراكة والمبادلة، تفسد، كما هو
حاصل الآن، حيث تزداد يومًا بعد يوم مظاهرُ
الخراب العالمي والتوحش البشري.) بالطبع، تتعدى العلاقةُ ما
بين الزوجين الوجوهَ الأخرى للشراكة، إذ هي
تُنسَج ما بين الإِلْف وإِلْفه الذي يلابسه
ويسكن إليه، حتى يغدو الطيفَ الذي يسكنه أو
الوجهَ الذي يرى به ومنه. لذا فإن هذه العلاقة
غير قابلة للارتداد إلى السويَّة العادية إذا
ما حصل خلافٌ أو تنافُر أو انفصال، كالزجاجة
التي لا تُرْأَب بعد تصدُّعها، بل يمكن لها أن
تتحول إلى موقف سلبي أو عِدائي من الزوج أو
الشريك. وهذا شأن الودِّ بين الزوجين: قد
يتآكل أو ينقلب إلى ضده، إلا إذا وُجِدَ مَن
يرعاه دومًا لتجديد روابط الحياة المشتركة،
بمناخها وأنشطتها وأسلوبها وصداقاتها
ومُتَعها... وأعتقد أن فاتنة كانت تسعى ما
أمكنها لإبعاد الرتابة والسأم عن الحياة
العائلية، بسعيها لتجديد وجوهها وتغذية
صلاتها. أما أنا فكنت أعشق الوحدة، وأعمل ما
أمكنني لتضييق الدائرة الاجتماعية. ولذا
أخشى، بعد فقدها، أن تنقطع الأواصر التي
تشدني إلى المجتمع، بتقاليده وطقوسه
الجميلة، لكن المعيقة لحياة الفرد بقدر ما
تهدر الوقت وتشل الطاقة. الفضيلة أنتقل من ذلك إلى الصفحة
الثانية من كتاب فاتنة، لكي أعترف بفضلها في
أن تنجح الشراكةُ بيننا وأن تثمر ما أثمرت
عنه، بحبِّها النبيل وصبرها الجميل ودعمها
المديد. فقد ارتضت – وهي المُجازة في الأدب –
أن تعطي الأولوية لإدارة المنزل وتعهُّد
الولدين لكي يصيرا إلى ما صارا عليه، ولكي
أنجز أنا ما أردت أو ما استطعت إنجازه.
فكنَّا، نحن الثلاثة، صنيعتَها في صورة من
الصور. ومن يحيَ مع الآخر وينخرط معه في علاقة
محبة أو شراكة أو عداوة، يتأثر به كما يؤثر
فيه، شاء أم أبى، عرف أم لم يعرف. من هنا كنتُ
أهدي إليها كلَّ مؤلَّف من مؤلفاتي، فأسجِّل:
إلى "فاتنة، بجهدك أكتب وفي مدارك أقع"،
كما في الكتاب الأول، أو إلى "فاتنة، التي
لولاها لما كان لي أن أقرأ ما قرأته"، كما
في الكتاب الأخير. أما في كتاب الحب والفناء،
فكان الإهداء بالطبع: إلى "فاتنة، ملهمتي
ومولاتي وشيطانتي". الفرادة تلك صفحة الفضيلة أطويها،
لكي أنتقل إلى صفحة أخرى مشرقة هي صفحة
الفرادة. ذلك أنه إذا كانت لفاتنة فضائلُها
كأمٍّ وزوجة، فإنها كانت، كامرأة وإنسان،
تمتاز بتفرُّدها وتصنع معجزتَها، بتفننها
وإبداعها في تشكيل عالمها الخاص البديعي
والمفتوح، على نحوٍ يثري تجربتها ويوسِّع
مداها الحيوي. تجلَّى ذلك في قدرتها على
اجتراح المواقف واختراع الحلول، كما تجلَّى
في موهبتها على حسن التعاطي وإتقانها لغة
التعارف والتخاطب: كانت تصل ولا تقطع،
مخترقةً الحواجز بينها وبين الآخرين بسرعة
خاطرها ودماثة خلقها وأصالة رأيها وسلاسة
حديثها ولباقة تصرفها... هذا سرٌّ من أسرارها
جَعَلَها تستحوذ على القلوب والعقول. ولذا
تصرفت، منذ اليوم الأول، بعد انتقالها إلى
أسرتنا وإلى بيئتها الجديدة في بلدتي (البابلية)،
كما لو أنها في بيتها، وتعاطت مع الناس وكأنها
تعرفهم منذ زمن. وهكذا تعاملتْ منذ البداية مع
زوجة ابنها، كابنة لا ككِنَّة، فكانت،
بدهائها وعقلها الدبلوماسي، وريثةً فعليةً
للسياسة بمعناها السِّلمي والإيجابي، بما هي
نيل التأييد والحظوة بالحسنى، طوعًا لا
كرهًا، بقدر ما كانت محلاًّ للثقة ومرجعًا
للنصح والمشورة. بهذا كانت عكسي بالتمام: إذ
كانت تُحسِن مدَّ الجسور لبناء الصداقات؛ أما
أنا فكنت، في أحيان كثيرة، أخسر أصدقائي
وأصحابي. فلعل طبع المهنة غلب عندي على
التطبُّع، وطغت مشاغلُ الكتابة على سائر
النشاطات، حتى أصبحتُ أعمل تحت ذلك الشعار
المتطرف: "وخير جليس في الأنام كتاب (أو
مقال)". وهكذا صرت أحيا في عالم الكتب التي
تختزل الحياة إلى بُعد واحد من أبعادها،
بينما كانت فاتنة تهتم بكتاب الحياة وحلاوة
العيش، فتنصت إلى الآخرين بقدر ما ترعى
علاقات الصداقة والمودة. هذا السر هو ما جعلها محطَّ
النظر والتقدير والإعجاب في وسطها وبين
عارفيها الذين كانوا ينتظرون مجلسًا تعقده
للمحادثة والمؤانسة، بما تضفي عليه من أجواء
البهجة والمرح والجدة والطرافة – وتلك هي
غاية السعادة في نظري. وهكذا كانت تأنس هي
بعالمها ومجتمعها، فيما كنت أشعر بأني بتُّ
وحيدًا، معزولاً بين أقراني وأندادي. والحياة
تخلو من الأُنس، بل تصبح مشكلةً، عند مَن لا
يجد صديقًا يحكي له أو يتبادل معه الحديث أو
يشاطره الاستمتاعَ بلحظات العيش. ومن
المفارقات أنني كنت أغبطها على ذلك، فيما هي
كانت تعتبر أن الكتابة حققت لي شهرةً يحلم بها
الكثيرون. ولكنها كانت تعلم أن للشهرة
أعباءها وفخاخها ومعاركها الطاحنة بين
النظراء والأنداد. الاستثناء بعد هذا، أجدني أقرأ في صفحة
أخرى هامة من كتاب فاتنة، تجلَّت فيها
بشخصيتها "الاستثنائية". هذا ما تشهد به
تجربتُها الطويلة مع مرضها الخبيث، كما
تعاملت معه، منذ اللحظة الأولى حتى الساعات
الأخيرة. فهي ما إن سمعت الطبيب يقول لمساعده،
في ذلك اليوم المشؤوم، إن في الجسم ورمًا –
وكنَّا نحن أهلها ننتظر خارج قاعة الفحص –
حتى قالت له: "لا تُذِعْ عليهم النتيجةَ حتى
لا تصدمهم!" وهكذا لم يجعلها المرض تبدِّل
سيرتها بما ينغص عيشها أو يُثقِل على غيرها،
بل كانت تتصرف تصرفًا طبيعيًّا، فتمارس دورها
بالرعاية والتدخل والتدبير والنصح والإرشاد،
وكأنها هي الصحيحة وغيرها العليل، عاكسة هنا
أيضًا الآية والمعادلة، بحرصها الدائم على
الاهتمام لشؤون الغير وشجونه، قبل أن تكون هي
موضع الاهتمام. وقد ظلت طوال سنوات تقاوم
المرض في تفاؤلٍ كبير، وتتعايش معه، بالدواء
وبإرادة خارقة، يدعمها إيمانُها الذي كانت
تستعين به على محنتها وتتغلب على مخاوفها،
فتصبر على ما أصيبت به – وهي التي لم يكن
الصبر من شيمها، إذ كانت تشتعل بالرغبة في ما
تهواه وتميل إليه. وهكذا لم تكن تستخدم
إيمانها استبدادًا أو إرهابًا، بل تستثمره
لكي تصنع اطمئنانها وسلامها الداخلي، قائلة
لنفسها ولغيرها: "أنا أتابع العلاج... وما
كُتِبَ لي قد كُتِب، فلن ينقص من عمري ولن
يزيد يوم آخر!" وهذا ما كنتُ أغبطها عليه
أيضًا – وأنا الذي انكسرت زجاجةُ إيماني، بما
نشأتُ عليه، منذ تحرري من سلطة التقليد
وخروجي من بيئتي المغلقة، بعد أن بدأت أطلب
الأمور بالمساءلة والجدل والنقد، وخاصةً بعد
انفتاحي على عالم متعدد التيارات والمدارس
الفكرية والفلسفية. ولما كان والدي يقول لي،
وهو يتلو الآيات البينات: "ألا تؤمن؟" أو
"متى تؤمن؟"، كنت أجيبه بأن الإيمان ليس
مسألة قرار إرادي أو برهان منطقي، وإنما هو
حالة قصوى، وجدانية، كيانية، تعتري المرء
وتجتاحه، لكي تجعله يصدع بأمر من الأمور.
كحالة ذلك الراهب الذي عُزِلَ سنوات عن
العالم، يتعبد في ذُرى جبال آثوس التي تناطح
السماء، لكي يكون تحت نظر الله أو على مرأى
منه. ولكن لم يدخل الإيمانُ قلبه على الرغم من
كلِّ طقوس الزهد وفنون النسك، فأعيد من حيث
أتى ملومًا خائبًا. وكان أول ما صادفه في طريق
عودته امرأةٌ خارقةٌ في جمالها، هي آية من
آيات الله، فخرَّ صريعًا ساجدًا، تلامس
جبهتُه التراب الذي جُبِلَتْ منه الألوانُ
والأشكالُ والأنواع، قائلاً: "الآن آمنت
بك، يا ربي!" وهذا المثال يقف على الضد من
تاريخ التصوف النسكي: إذ هو يعني أن الحرمان،
ببطنٍ جائع وبدنٍ عار، ليس طريقًا للإيمان.
فما المعنى وما الجدوى من التعلق بشيء لا
يساعد المرءَ على الإقامة في هذا العالم
إقامةً سويةً بناءةً إيجابية، لكي يحيا
حياتَه حافلةً ومزدهرة، بنِعَمها ومسراتها،
بهمومها وأعبائها، بمغامراتها وصراعاتها،
بإخفاقاتها ونجاحاتها؟! المعاناة في أية حال، لم يعد يهم
بماذا نؤمن، بل كيف يستثمر الواحدُ منا
إيمانَه، بعد أن بات إيمانُنا بالأشياء يجرنا
إلى أضدادها، على ما يتعامل الدعاةُ وأصحابُ
المشاريع والسلطات الفكرية مع العقائد
والفرائض أو مع المقولات والنظريات. وكانت
فاتنة من الذين لا يتمترسون وراء آرائهم، لأن
ما كان يهمُّها، في ما تقتنع به أو تتداوله من
أفكار، هو أن تصنع منها إمكانًا لحياة واسعة،
حلوة، غنية، هنية. غير أن المرض اللئيم قضى على
أملها بالشفاء ولم يمهلها – وهي التي كانت
تأمل أن تهنأ بمنزل استُكمِلَ بناؤه وأشرفت
على تأثيثه في العام الفائت [2005]، إذ تغلَّب
الداءُ في النهاية على الدواء والأطباء وعلى
مراكز البحث المتطورة، وأخذ يتفشى لكي يمزق
الأحشاء ويسكن العظم، على الرغم من كلِّ
وسائل المعالجة وأسلحة المقاومة. وبعد أن
تحولت حياتها إلى مجرد ألم يزداد ويتضاعف،
كان الخيار مساعدتها، باستخدام المسكِّنات،
للوصول إلى السكون الأبدي، بأقل كلفة من
الأوجاع الجسدية والأعباء النفسية. ومع ذلك، كان المرض تجربةً
رهيبةً بالنسبة إليها وإلينا في الشهور
الأخيرة من مسيرة آلامها نحو النهاية المفجعة
– هي التي دخلت في هول المعاناة وتهويماتها،
ونحن الذين كنَّا نحترق أسًى، فيما نرى
أمامنا الجسم النَّضِرَ يذوي، والوجه المضيء
يخبو، والنبض الحي يتلاشى، من غير أن يكون في
مستطاعنا فعلُ أي شيء. ولذا عندما كنت أكتب بيان
النعي، فكرت بكسر التقليد، فلا أقول: "بمزيد
من الرضى والتسليم للمشيئة"، بل "بأدنى
الرضى وأقل التسليم، وبما لا يوصف ولا يُحَد
من مشاعر الحزن والأسى"! وهذا شطحٌ مني، لا
يلجمه سوى موقفي النقدي من نرجسية الإنسان
وغطرسته وادعائه التآله والقبض أو السيادة
والتحكم وغيرها من الأوهام والأهواء التي
ترتدُّ عليه في النهاية مزيدًا من العجز
والفقر. (إذا جاز لي في هذا المقام أن
أتأمل في ما تعنيه هزيمةُ الإنسان أمام
المرض، ففي وسعي القول إن السيطرة العلمية
والتقنية على الطبيعة، بطفراتها وأعراضها
وردات فعلها غير المتوقَّعة، ليست فقط أمرًا
عسير المنال؛ بل إن لهذه السيطرة تداعياتِها
السلبية، وربما المدمرة، على الحياة نفسها،
كما يشهد على ذلك ظهورُ أمراض جديدة، وكما
يشهد أيضًا الداءُ الفتاك الذي يزداد
انتشارًا مع التطور الحضاري والعلمي – مما
يعني أن لكلِّ شيء ثمنَه: مزيد من الطبابة،
مزيد من الأمراض؛ طبابة باهظة، وفيات متصاعدة.) الآية وأنا، إذ أشهد لفاتنة، فيما
نحتفل اليوم بـ"يوم المرأة العالمي"،
أعتبر ذلك شهادة للمرأة الجديرة والقادرة.
فنحن الرجال طالما ظلمنا النساء، بالتعامل
معهن باعتبارهن "ناقصات عقول وحظوظ وإيمان"،
على ما هي النظرة إليهن، إجمالاً، من جانب
الديانات والفلسفات، قديمها وحديثها. وإنها لفضيحة أن تُتَّهم
المرأةُ بقلَّة العقل أو بانقيادها
لغريزتها، سواء من جانب الرجل أو من جانب
النساء الخاضعات لعقيدة الذكر، فيما الرجل
يبيح لنفسه الجمعَ بين أربع، فضلاً عما ملكت
الأيمان من الجواري والإماء أو ما تيسر من
المتع المدفوعة الأجر لقضاء الوطر. ولنتأمل
موقف تلك السيدة، هيلاري كلينتون، إزاء نزوة
زوجها بيل كلينتون، الذي كان يومئذٍ الرجل
الأول في العالم: لقد تعقَّلت وكظمت غيظها، بل
وقفت إلى جانبه تدافع عنه في محنته، لكي تقلب
الآية، فتصبح "للأنثى مثل حظِّ الذكرين"
من العقل والرزانة! وهكذا لم ينظر الرجال إلى
النساء ككائنات سوية تملك القدرة، على قدم
المساواة معهم، في بناء الحياة المشتركة وفي
إدارة شؤونهن أو التصرف بأجسادهن، بل عوملن
بمنطق الحدود القصوى، فنُظِرَ إليهن كأمهات،
"الجنة تحت أقدامهن"، أو كمعشوقات
مقدسات يُرفَعن إلى أعلى عليين؛ أو بالعكس:
عوملن كغانيات يبعن أجسادهن لمن يرغب، أو
كقاصرات هن "عورات" جسدية ينبغي قودهن و"سَترهن". غير أن الرجل الذي أعطى
لنفسه حق القوامة والسيادة على المرأة،
يُثبِتُ اليوم، بعد دهر من السيطرة الذكورية،
سوءَ استخدامه السلطة وفشله في إدارة الشأن
البشري والكوكبي. وها هي المرأة تُثبِتُ،
تجربةً بعد تجربة، جدارتَها ونجاحَها في
إدارة الدول والشؤون العامة على نحو يكسر
إرادة العبودية ليعزز لغة الشراكة البنَّاءة. الخاتمة وبعد، فهذه صفحات يسيرة من
"كتاب فاتنة" الذي لم تكتبه بالحروف
والنصوص، بل ألَّفته بعلاماتها الفارقة
وآياتها البيَّنة التي هي أسرارها الشاهدة
لها أو عليها. وهذا شأن الشخص، أكان امرأً أم
امرأة: إنه غرفة أسراره التي تصنع له فرادتَه
وميزاتِه، وما به يمارس حضوره الآسر أو أثره
الخارق. ولعل أفضل ما أختتم به هو أن
أقرأ في ورقة الختام، إذ هي الحصيلة والثمرة.
فزوجتي قد ماتت ولم تترك وراءها شيئًا مما
يتصارع عليه الناس، إلى حدِّ التكالب والفحش
أو التآله والتوحش، من سلطات وثروات وعقائد
ومناصب ووصايا ونصوص... ماتت ولم تترك سوى
السمعة العطرة والصيت الحسن بين أهلها
ومحبيها الذين يغمرهم الحزن والأسى لغيابها
المبكر – ونِعْم الخاتمة. أما نحن، أسرتها، فلما
عدنا، مساء يوم الوداع، إلى البيت، شعر كلُّ
واحد منا بالوحشة والفراغ، وأحس بأنه يدخل
بيتًا تتداعى معانيه، بيتًا بات بلا سقف
يظلِّله ولا جدران تحميه، بعد أن فقدنا ما
يجعل البيتَ مسكنًا والمنزلَ ملاذًا، من
الدفء والحنان والرعاية والأنس وكل ما كانت
فاتنة تشيعه في أرجاء المنزل وأشيائه،
بحيويتها وإشراقها، بأنفاسها ولمساتها،
بشفافيتها ورشاقتها. ***
*** *** |
|
|