خواطر في سبيل حياة صحيحة 2

 

ديمتري أفييرينوس

 

"اعتبروا بزنابق الحقل كيف تنمو، فلا تجهد ولا تغزل. أقول لكم إن سليمان نفسه، في أبهى مجده، لم يلبس مثل واحدة منها! فإذا كان عشب الحقل – وهو يوجد اليوم ويُطرَح غدًا في التنور – يُلبِسُه الله هكذا، فما أحراه أن يُلبِسَكم، يا قليلي الإيمان؟"

يسوع الناصري، إنجيل متى 6: 28-30

 

"الرحمة ليست صفة. إنها قانون القوانين – التناغم الأبدي، ذات آلايا، ماهية كلِّية لا ساحل لها، نور الحق القيوم، وتناسُب الأشياء طرا – قانون المحبة الأزلية."

هـ.پ. بلافاتسكيا، صوت الصمت

 

في كلِّ شجرة ونبتة، في زقزقة العصافير، في الحشرات والجمادات، في الماء والسماء، ثمة جمال مذهل! كل ذرة، كل مخلوق حي، مهما كان ضئيلاً، معجزةٌ من بهاء المعنى، بحيث "إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً بعوضة فما فوقها" (البقرة 26). وكلما ازداد المرءُ معرفةً بتشريح جسمه، فسيولوجيته، نشاطاته، وعلاقاته مع المخلوقات الأخرى، لا يملك إلا أن يخشع أمام روعة الطبيعة. نسيج العنكبوت، بخيوطه الدقيقة وشكله المتناظر وألوانه القزحية، يتصف بمتانة مذهلة، أعظم نسبيًّا من متانة الكثير من الأبنية التي شيَّدها الإنسان. العنكبُوَة (أنثى العنكبوت) الصغيرة – وهي آية جمال في حدِّ ذاتها – تبدع وتعاود الإبداع في يُسْر؛ بذرة البَنْيان[1] تنمو لتصير شجرةً شامخة، تعاود أغصانُها الانغراسَ في التربة، حتى تشكل الشجرةُ الواحدةُ منها دغلاً واسعًا (انظر الصورة أدناه)؛ الطفل الصغير، العاجز في أول أمره، ينمو ليصير امرأةً أو رجلاً سويين. الولادة والنمو والموت – هذه، في حدِّ ذاتها، معجزات. يقول ج. كريشنامورتي:

رأيتَ ورقةً ميتة، صفراء وزاهيةَ الحُمرة، ورقةً من الخريف. ما أجملها ورقة، وما أبسطها في موتها، ما أفعمها بالحياة، وما أشد امتلاءها بجمال الشجرة برمتها والصيف وحيويتهما.

أجل، الجمال في كلِّ مكان – في الأشياء وهي تولد، وهي تنمو، وهي تموت، وهي تولد من جديد...

شجرة بَنْيان

ثمة جمال في الأشكال والألوان، في الأصوات والروائح والمذاقات والمَلامس، في الأشياء التي ندركها بحواسنا. لكن الجمال يكمن أيضًا في الأشياء التي قلما تعيرها أذهانُنا المنهمكة في أمورها "الجليلة" التفاتًا: في العلاقات المتبادلة بين الأشياء كلِّها، في الوظائف التي تؤديها، وفي غاياتها الخفية. كتب أحدُ السادة الحكماء ذات يوم:

لقد ربطت الطبيعةُ سائرَ أجزاء ملكوتها بخيوط رقيقة من التعاطف المغناطيسي، وهناك ترابطات حتى بين النجم والإنسان.

الجمال مظهرٌ من مظاهر معنى خفيٍّ ليس مشروطًا برغبات أيٍّ كان أو حاجاته. إنه مبطون في القلب من كلِّ شيء حي. معنى الشجرة ليس في فائدتها كحطب أو كمادة لصنع الأثاث؛ قيمة الحَمَل ليست في لحمه. القصد والقيمة مبطونان في الخليقة، كما يشير الصوفي الألماني توماس أكِمْپس، ملمِّحًا إلى أن الجمال في الصُّلب من منبع الحياة:

ليس من مخلوق، مهما كان صغيرًا أو حقيرًا، إلا ويمثل طيبة الله.

***

البشر جزءٌ لا يتجزأ من عالم الطبيعة، من روعتها، من معناها وعلاقاتها الحاذقة، لكننا لا نفقه ذلك – وتلكم هي مأساتنا. نتعلم الاعتقاد بأن "العالم" هو العالم الذي نصنعه نحن ونبتنيه – صروحنا، مصانعنا، "معجزاتنا" الإلكترونية، مؤسَّساتنا السياسية، بُنانا الاجتماعية، حروبنا، انقساماتنا، وهلم جرا. – هذا كله قوام المجتمع البشري، لكنه في نظر غالبية الناس هو "العالَم" بامتياز!

في يوم الناس هذا، وفي نظر ملايين الناس القاطنين في المدن الكبرى، باتت الطبيعةُ قصيةً، "هناك"! هؤلاء لا يعرفون إلا الشوارع والصخب والمصنوعات[2]. وحتى الناس الذين يعيشون بين أحضان الطبيعة في المناطق الريفية أمسوا غير واعين للجمال، لأن الفقر يرغمهم على العمل من الفجر حتى حلول الظلام؛ ولأنهم فقراء، يصير كل شيء في نظرهم غرضًا يُقتنى للاستخدام اليومي. في المقابل، بلغ أقرانُهم من أبناء المدن من التبرمُج على الاعتقاد بأن غاية الحياة هي الطموح إلى الارتقاء المهني والاجتماعي حدًّا يجعلهم أسرى نشاطهم المتمحور حول ذواتهم الضيقة، عميان البصيرة عن العالم الحق.

الواقع مختلف باختلاف البشر: ما هو "واقعي" في نظر بعضهم ليس واقعيًّا في نظر بعضهم الآخر. حين يتعرض أحدهم لخطر فقدان حياته الوشيك، إذا كان الأمانُ منوطًا بالتخلِّي عن مقتنياته كافة، فإن هذه لا تعود تحظى في نظره بالواقعية وبالقيمة اللتين كانتا لها قبلاً. غير أن الناس، لسوء الحظ، يعتقدون بأن "واقعيتها" مؤكدة، وبالتالي، يأخذون رغباتهم ونزاعاتهم، قلقهم وغيظهم، آمالهم وإحباطاتهم، مكروهاتهم وتوتراتهم، على محمل الجد أكثر مما ينبغي، فلا يشككون فيها أبدًا.

***

للمجتمع البشري قواعده السارية المفعول في إطار ثابت، شأنه في ذلك شأن لعبة كرة القدم التي بلغت حمَّى "مونديالها" (ألمانيا 2006) أوجَها ونحن ندون هذه السطور! والقواعد تنص على أن الكرة يجب ألا تخرج من ميدان اللعب المحدَّد. لِمَ لا؟ لأنه هكذا صيغَت اللعبة، ولأن كلَّ مَن يلعبها لا بدَّ أن يتقيد بقواعد اللعب. لكن هذه القواعد ليست متأصلة في الحقيقة أو في مصدر أعلى، بل تنتمي إلى منظومة موضوعة تمكِّن فريقَي اللاعبين من التنافس والربح أو الخسارة. المجتمع البشري قريب الشبه من ذلك، تسري فيه قواعد موضوعة. قد يسود إجماع على تسمية هذه القواعد "قوانين"، لكن هذا لا ينفي عنها صفتَها الوضعية، المحكومةَ بالاتفاق والعرف، التي يكفل سريانَها أصحابُ رؤوس المال والساسةُ والعسكرُ ورجالُ الدين – آفات البشرية الأربع!

المجتمع الحديث يقول لك إن عليك أن تقاتل في سبيل النجاح، أن تكون دائمًا في الصدارة، أن تكسب بقدر ما تستطيع – وبهذا يلعب الناسُ اللعبة. وكلما اشتدت باللاعبين حمَّى اللعب، باتوا عن "الرؤية" أعجز وأعجز. هل يملك لاعبُ كرة القدم، في معمعان المباراة، أن يرصد أي شيء خارجها؟! سَلْه أن يراقب طائرًا يحلق في السماء. إنه لا يستطيع ذلك وهو في غمرة اللعب. بالمثل، فإن البشر العالقين في فخ "اللعبة"، سواء كان طقسًا دينيًّا، حربًا، سياسةً، أو تنافسًا اقتصاديًّا، عاجزون عن الرؤية. إنهم غير واعين لبشاعة اللعبة وفظاظتها، لانعدام الحساسية الذي تفضي إليه، للبراءة التي تُهدَر. كذلك لا يدركون الروعةَ خارج بنيان المجتمع البشري. معنى الحياة، في نظرهم، قصي جدًّا. مساعيهم، أفكارهم، وإيديولوجياتهم أشبه بالدخان الأسود الكثيف الذي يحجب شمس الحقيقة.

فلننظر الآن في ماهية صحة الذهن أو اعتلاله من منظور الحس المشترك. اعتلال الذهن هو فقدان الصلة بما هو موجود فعلاً، بما هو حقيقي. الإنسان المعتل الذهن يختبر واقعًا لا علاقة له بالواقع الفعلي. حينما يظن أحدُهم نفسَه كليوپاترا أو ناپليون أو المهدي المنتظر أو حتى يسوع المسيح (وقد حظينا بشرف التعرف إلى أحد هؤلاء منذ مدة!)، يقول الآخرون إنه "مجنون" لأن هذه الفكرة موجودة في ذهنه وحسب، وليست واقعًا بالفعل. وبما أن اللاواقعية تبدو له واقعًا، وأن هذا الواقع لا يحظى بإجماع الآخرين، فإن حالته تُدعى اعتلالاً ذهنيًّا أو جنونًا. الصواب والمنطق والنظام غائب عن إسقاطات ذهن المجنون، وصلتُه بعالم الوقائع والقيم والمعنى واهيةٌ إلى حدِّ أنه لا يستطيع أن ينخرط في العمل الحقيقي الفعال.

فهل الذهن البشري عمومًا شديد الاختلاف عن ذهن المعتل ذهنيًّا؟ إنه مليء بالتناقضات ويفتقر إلى المنطق؛ إنه منفصل عن حقيقة الطبيعة التي تكلمنا عليها، عن جمالها وبهائها ومعناها. ولأن غالبية الناس يعيشون في لاواقعية طموحاتهم وأطماعهم وصراعاتهم، فواقعهم ليس أصلح حالاً. لقد أشار برتراند راسل إلى أن الناس ينزعون إلى تقبُّل أفعال "جماهيرية" لا يبيحونها للفرد: حين يقتل فردٌ فردًا آخر، على سبيل المثال، يسمَّى ذلك "جريمة"؛ أما إذا قتل حشدٌ حشدًا آخر فهذا يسمَّى "وطنية"! على النحو ذاته، إذا عَدِمَ ذهنُ أحدهم العقلانيةَ أو التماسك المنطقي، عَدِمَ العلاقةَ مع الوقائع، يقال إنه مجنون. لكن بما أن الغالبية العظمى من البشرية تتصرف على هذا النحو، لا أحد يجرؤ أن يسمِّي ذلك جنونًا. لكنه جنون!

ثمة تناقضات فاضحة في جميع المنظومات الفكرية والديانات والمجتمعات. الهندوس يمجدون العبارة الأُپنشادية القائلة بأن كل شيء هو برهمن، الحق المطلق، ومع ذلك ما انفكوا يكرسون منظومةً اجتماعية تستبيح إقصاءَ شريحة كاملة من المجتمع بصفتها "منبوذة"، مافتئوا يعاقبون النساءَ الأرامل ويذلونهن، مبرهنين بذلك على اعتلال ذهنهم الجمعي. جماعات أخرى قتلت وتقتل باسم الدين أو تأسيًا برسول الله! بلدٌ يُحتَل وآلاف مؤلَّفة من الأبرياء تُقتَل لنشر الديموقراطية! الحكومات تروِّج لزراعة التبغ وتصنيعه، فتيسِّر بذلك للناس أن يمرضوا، ثم تقوم بوضع برامج لشفائهم من السرطان! الناس يستسيغون الطعام المستنفَدة منه عناصره المغذية، لكن "المقوَّى" بالفيتامينات! كل مجال من مجالات الحياة، – السياسية والتربوية والاجتماعية والاقتصادية والشخصية، – في أنحاء العالم كافة، يعج بالأمثلة على نشاطات عبثية حمقاء تفضح قصور الإنسان عن رؤية التناقضات. فهل البشر أولاد يبنون بيوتًا من رمل، لا لشيء إلا لكي يسوُّوها بالأرض، أو "فصاميون" تتنازعهم الصراعاتُ الداخلية؟ قد لا نحبذ أن نكتشف في أنفسنا جانب "الولدنة" أو الجنون لأنه لا يشرِّفنا، لكنه موجود، ما في ذلك ريب.

***

حين نستوعي هذه الأمور، كيف تكون استجابتنا؟ غالبًا ما ينتابنا دافعٌ إلى فعل شيء حيالها. العمل هو ما تؤمن به غالبية الناس؛ لكن "عملهم" ينشأ من ذهن لا يلتفت إلى ما هو موجود حقًّا وفعلاً. كلٌّ يكتفي برؤية جزء صغير من الواقع وحسب، إلى حدِّ أنه يستسلم لتأثيره استسلام النعجة لجزارها. يبدو أن المخ الحيواني في الإنسان، الموروث من الماضي السحيق، غير قادر إلا على النشاط الارتجاعي. فحتى حين يتمهل الإنسانُ للتفكر ولمراجعة ما يفعل، غالبًا ما لا يكون ثمة تفكُّر حقيقي، بل مجرد إعادة خلط لأفكار مسبقة الصنع، ملتقَطة من هنا وهناك، ومجمَّعة في السياق اللامنطقي لمحتويات الذهن. من هنا فإن العمل، في الأعم الأغلب، يجري من غير فطنة. وبالتالي، فعلى الرغم من ظهور أنبياء وفلاسفة مثاليين ومصلحين عديدين في التاريخ، مازال العالمُ يواصل مسارَه الجنوني في اتجاه الدمار الذاتي رأسًا. فمن غير الرؤية النافذة التي هي الفهم الصحيح، من غير معرفةِ كلانية الأشياء وطبيعتها الحقيقية، يصير العمل خبط عشواء ويخرِّب الحساسية. وبهذا يغدو المرءُ أقل فأقل قدرةً على النظر والمشاهدة، على تلقِّي جمال الحياة ومعناها العميق، وعلى اكتناه ماهية الحقيقة.

الجهد البشري، في معظمه، موجَّه ليصير الإنسانُ مرموقًا، لينجز، ليقولب الآخرين، ليصنِّع، وليَحرف العلاقاتِ الطبيعيةَ والإنسانيةَ بما يلائم مصلحتَه الأنانية. والرغبة في العمل والإنجاز على هذا النحو تنسل إحساسًا زائفًا بالفائدة، لأن حياة المرء في الوقت الراهن تبدو له "ناجزة" – إلى أن يأتي حدثٌ أو حادثٌ أو خَطْبٌ غير متوقَّع فيبدد أوهامَه. الرغبة في "الإنجاز" هي أم الخوف والقلق والكرب. لقد قال الحكيم الطاوي الصيني خوانغ تسُه:

ذهن الإنسان الكامل كالمرآة: لا يتعلق بشيء، لا يتوقع شيئًا، يعكس، لكنه لا يتمسك. لذا فإن الإنسان الكامل يستطيع أن يعمل من غير بذل جهد.

غالبية الناس تكدح كدحًا لجعل الحياة ذات معنى عِبْرَ التعلق والتمسك. لكن هذا جهد ضائع لا جدوى منه. المعنى في كل مكان من الحياة. لسنا مضطرين إلى "صنع" المعنى؛ لا حاجة لنا إلى "إيجاد" العلاقات. العلاقة جزء من الحياة، على مستوى عميق، حاذق، كما على المستوى الخارجي أيضًا.

الناس الذين يكدحون و"يعملون" يحسبون أن النزاعات في الخارج – وهذا جزء من عماهم. بالنظر النافذ وحده يرى المرءُ أن النزاع في الداخل. المشكلات النفسية كذلك ليست في الخارج؛ إنها، بالتعريف، في الداخل أيضًا: الغيور يتهم الآخرين اعتباطًا بحسب غيرته؛ الخواف يتخيل الأخطار في كل مكان؛ الفخور الدعيُّ يسمع الإهانات في كل كلام. حينما يظن الناس أن المشكلات والنزاعات في الخارج، يتنصلون من مسؤولياتهم، فلا يرون أن جنون المجتمع من صنعهم. لكننا نحن المجتمع، ونحن نصنعه طوال الوقت: مواقفنا الفردية مجتمعةً هي التي تشكِّل "واقعنا" الخارجي؛ الفوضى والشواش والعدوانية المعششة في أذهاننا ترتد إلينا في أشكال مختلفة وتتسبب في بؤسنا وشقائنا. لكننا، لسوء الحظ، لا نرى ذلك، فنحسب أن الشقاء يأتي من "الآخر": "جهنم هي الآخرون"، كما توهَّم سارتر. لذا فمن الأهمية بمكان ألا يأتي الفعل أولاً. علينا بالحري أن نتعلم أولاً الرؤية الصحيحة، الواضحة. لقد علَّم السيد البوذا أن "الرؤية السليمة"، الرؤية الواضحة (سَمْيَك درِشْتي)، هي الخطوة الأولى على الدرب. فإذا كنا عاجزين عن الرؤية الصحيحة، العميقة، التامة، وعن التفطن إلى طبيعة "الموجود" (كريشنامورتي)، إذ ذاك فإن عملنا مقيَّض له لا محالة أن يخلق بيئةً مجنونة. وحده الذي يرى رؤيةً سليمة بشاعةَ المجتمع البشري وجمالَ الحياة – كليهما معًا – يختبر "المعنى"، من غير أن يفتش عنه أو يسعى إليه، ويترجمه تلقائيًّا إلى "فعل سليم".

***

نحن قلما ننظر إلى نبتة أو جبل أو إنسان. لكننا، حين نفعل، ماذا نرى؟ ربما نرى الشكل الخارجي وحسب رؤيةً ناقصة، عن غير وعي بالحياة النابضة في قلب الشكل. بنات أفكارنا الماضية تتبلور صورةً أو مفهومًا وتُسقِط نفسَها حاجزًا بين الذهن والحقيقة، التي قد تكون في ورقة نبات، في صخرة، في كائن إنساني، في أيِّ مكان، في كلِّ مكان. ولأن بنات الأفكار تتدخل، تتخذ الموضوعاتُ مظهرًا مختلفًا عما هي عليه. المحتوى الذاتي يبدو وكأنه الموضوع، إسقاط بنات الأفكار يظهر بمظهر الحقيقة. فقط حين يصبح الذهنُ كالمرآة التي تكلم عليها خوانغ تسُه يصير في مكنته أن يبصر. مادام الذهنُ مثقلاً بمحتوياته، على هيئة ردود فعل وأفكار وإيديولوجيا وأحكام وتحليلات إلى ما هنالك، لا يستطيع أن يعكس الواقع عكسًا حقيقيًّا. من هنا فإن على الذهن أن يكون نقيًّا، حرًّا، غير مشوَّه، طليقًا من التناقضات، حتى يرى رؤيةً واضحة. وهذا يقتضي النظر إلى سريرة النفس ورصدها رصدًا دائمًا لا هوادة فيه. فبمعرفة النفس، بالتفطن إلى ما يجري ضمن الذهن، يأتي الوضوح الداخلي. إذ ذاك يصير الذهنُ أكثر طلاقة وأنقى، وتسري فيه طاقةٌ أعظم.

التناقضات تَحرِمُ الذهنَ من الحيوية. القلق، الطموح، سوء الفهم، إلخ، أشكال حاذقة من النزاع من شأنها أن تهدر الطاقةَ الداخليةَ هدرًا مروعًا. أما حين تستتب الحريةُ والنقاء، تعتمل في الذهن قوةٌ أكبر تمكِّنه من سَبْرِ ذاته سبرًا أعمق ومن التوغل بعيدًا في طبيعة الحياة ومعناها الجوهري. فلنصغِ مجددًا إلى توماس أكِمْپس:

بقدر ما يزداد المرءُ اتحادًا في سريرته ويصبح أبسط داخليًّا [وأنقى]، تزداد الأشياءُ التي يفهمها من غير كدٍّ وتتسامى – إذ إنه يتلقى لذلك نورًا عقليًّا من فوق.

محتوياتُ الذهن، التناقضات والأحكام، الأفكار والصراعات – هذا كله يشكل قوام "الأنية": إنه المادة التي من شأن الأنية أن تضفي عليها "هويةً" تستطيع أن تتذكرها وتقول: "هذه أنا". لكن هذه الهويةَ المزعومة قائمةٌ على لاشيء؛ الأنية التي يتمسك بها كل واحد منَّا كلَّ هذا التمسك المحموم اليائس، ويظن فيها كلَّ الظنون، ويُنزِلها هذه المنزلة الرفيعة، هي جزء من اعتلال الذهن. ولأنها بهذه الهلهلة، – لاشيء، هواء، دخان، – لا مناص لها من أن تصارع صراعًا موصولاً لبناء جدرانها وصيانتها وتدعيمها وسدِّ ثغراتها ومنافذ الحياة إليها. وبسبب من صراعها لا تستطيع أن ترى – ولهذا يعدم المرءُ أسُس حياة ذهنية صحيحة. فكما سبقت لنا الإشارة، ينجم اعتلالُ الذهن عن غياب الرؤية. لذا فإنه بمقدار ما يتناقص توكيدُ الذات، تستتب الصحةُ والكلانيةُ ووضوحُ الرؤية واكتشافُ المعنى والجمال.

***

الممعنُ في التفكير، المشغول البال بالهمِّ الوجودي، سرعان ما يطرح السؤال: "ما معنى الحياة؟" أما سطحي التفكير، الطائش، فيحسب أنه يقدر أن يقبض على المعنى بإنجاز شيء. قد يحاول أحيانًا أن يجده في الزوج أو البنين أو الممتلكات؛ لكن إيجاد معنى للحياة ليس ضروريًّا على الإطلاق. حين يشاهد أحدُهم شروق الشمس، لا يسأل: "ما معنى شروق الشمس؟" الجمال هو معنى الجمال. شروق الشمس موجود – وهذا يكفي. والحياة بأسرها هكذا. كلما أمعنَّا في التحول عن الجمال، منهمكين في بناء عالم مصنوع، واضعين له القواعد وكأننا نلعب لعبة، قلَّ تبرُّكنا بخبرة المعنى. لكننا بفهم النفس والرؤية النافذة، تنفتح بصيرتنا على عالم متجدد أبدًا، ظلَّ محتجبًا عنَّا حتى الساعة، عالم من الفرح والجمال والخير والبركة. جاء في كتاب صوت الصمت[3]:

الرحمة ليست صفة. إنها قانون القوانين – التناغم الأبدي، ذات آلايا[4]، ماهية كلِّية لا ساحل لها، نور الحق القيوم، وتناسُب الأشياء طرا – قانون المحبة الأزلية.

هل ستكون لهذا الحديث بقية؟ الله أعلم!

*** *** ***


[1] تين البنغال، ويقال له "الأَثْأب" بالعربية.

[2] شبَّه لنا أحدُ الأصدقاء الإنسانَ العصري بامرئ ولد وترعرع وسط جبال الحديد في مقبرة مترامية الأطراف للسيارات (كالتي نجدها في الولايات المتحدة). وإننا لنتساءل: ماذا سيعي هذا الشخص إذا قُيِّض له أن ينتقل من هناك ليجد نفسه فجأة أمام مشهد شلالات نياغَرا الخارق!

[3] هو عبارة عن منتخبات من مخطوط صوفي تيبتي قديم اختارتها وترجمتْها إلى الإنكليزية السيدة بلافاتسكيا.

[4] هي "الأصل الكلِّي" للوجود في بوذية التيبت.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود