|
هشام شرابي الحالم حتى الغياب
I غاب هشام شرابي عن العيون. لحظة الغياب كان في غرفة باردة الجدران، بعيدًا عن سرير طفولته وسقف نشأته ومدينة فتوَّته – وهذا قَدَرٌ يلاحق أهل الفكر في البلاد، من الخليج إلى المحيط! بعد تهجيره القسري عن عتبات بيته، بدأ يبحث عن الخلاص – خلاص أمَّته – فرأى بريق هذا الخلاص في مراسي أنطون سعادة، كسواه من العيون الرائية. ومن هذه المراسي أبحر إلى الأعماق، يصارع فيها القرش والحيتان، مكشوف الرأس، يجابه الأعاصير. وهكذا بين المدِّ والجزر قضى العمر – إلى أن عاد في النهاية إلى مراسي انطلاقه، وعيناه من جديد على الأفق. في صراعه البحري كان هشام يحلم بأمَّة مناقبية، ويفتح عينيه، فلا يرى سوى مستنقعات من الفساد تخترق العظام؛ كان يحلم بأمَّة تلتزم العقل، ويفتح عينيه، فلا يرى سوى أنياب الغرائز؛ كان يحلم بأمَّة تزنِّرها الحرية، – حرية الفعل والتعبير بلا خوف من الجلاد، – ويفتح عينيه، فلا يرى سوى السجون والمقاصل؛ كان يحلم بأمَّة جبالها أعلى من سلاسل الألب ومن الأولمب، ويفتح عينيه، فلا يرى سوى رمال تمتد وتمتد إلى ما وراء التخوم؛ كان هشام يحلم بأمَّة في مراكبها يبحر عائدًا سهول الليمون في مسقطه، ويفتح عينيه، فلا يرى سوى حطام المراكب ويباس البحر. كان هشام يحلم، ويرى المسافة بين أحلامه والواقع تزيد اتساعًا وظلمة – ومن هنا كان عذابه. في عذابه لم يصرخ، لم يصعد المسارح والمنابر، ولم يلهث وراء الإعلام. ظل صامتًا، يحدِّق إلى البحر – ومن هذا الجرح يستمد الحياة، حتى اللحظات الأخيرة. كان يعرف أن القَدَر واقف عند الباب ينتظر. ومع ذلك، بقي يصارع، حتى انكسر السيف وتمزَّق الدرع. وأخيرًا سقط هشام، عائدًا إلى عناصر الأرض، ملتحمًا بها. وفي مكان السقوط، غدًا، ترتفع شجرة وتشمخ، تمدُّ فروعها، وفي ظلالها، يحتمي العابرون من حريق الرمال. II يومًا بعد يوم يرحل الرفاق، على دروبٍ حدباء يعبرون كأيام جميلة.
يومًا بعد يوم تكبر القفار، على جدران عمياء تلتطم الرياح وتسقط الآلهة. *** *** ***
|
|
|