عودة ليليت*

غابة العشق الكثيفة

 

ملحم رياشي

 

صَدَحَ صوتُ جاهدة وهبة، فاستحالتِ الكلمةُ عشقًا أرجوانيًّا، وتحوَّلتِ القصيدةُ حكايةَ حبٍّ، واستحضرتْ أجيالاً أتَتْ ومَضَتْ منذ انبلاج التاريخ، لتظهر الغائبةُ وتطلَّ في كلمة جمانة وأداء جاهدة، حبًّا وعشقًّا وشغفًّا وشوقًّا وشبقًّا وشحوبًّا وشجوًا، يتصاعد بخورًا من غياهب التاريخ، لتظهر الأسطورةُ "ليليت" حقيقةً وامرأةً كاملة.

المخلوقة الند، والزوجة الند، والراقصة والخاطئة والفاحشة والفاضلة والطاهرة والأم والأخت والحبيبة، الحاضنة والثائرة. حواء الشرسة الثديين. هي الليل لأنها النهار. هي الحرة والمكبَّلة في آنٍ واحد. وئامها الجحيم والفردوس. تشرب القمر من صحن الحليب، وتأكل السماء في كفِّ يدها.

الخاطئة إذ تصلِّي. لا تخاف إبليس لأنه يحلمها. هي سالومي، الراقصة فوق رماد هيرودوس الأحمر. هي القلادة المخطوبة إلى رأس يوحنا المقطوع. هي الجامعة في أنحائها لقاح البرايا، الغابة، اللبؤة للضائعين في الأرض. يطلع غناؤها من ناي الفخذين، ومن غنائها تذهب اللَّعنة مياهًا في الأرض. ترجع من موت. تصعد إلى هاوية الأنهر من شَبَقِها. المشتهاة المُهابة، المعبودة المرذولة، مُشعِلَة زهور التين، وسر الأصابع حين تلح، والكأس والساكب. ونقرأ تباعًا:

"مَسْمِرْ قممَكَ في هاوياتي/ .../ وتنشَّقِ النمرةَ الكامنة عند مسقط الكتفين"؛ "... أفتح قميصي نافذةً على الجنون/ مثل ثغر يفيضُ من رابيتين"؛ "أنا العصفورةُ الصيَّادة"؛ "لستُ الحرون ولا الفرس السهلة بل ارتجافُ الإغراء الأول"؛ "هو جسدي موهوب لرماحكم"؛ "أنا غرورُ النهدين/ صغيران لينموا ويضحكا"؛ "... ليُغفَر لهما حين يعبثان"؛ "ليطالبا ويؤكلا"؛ "... مالحان/ شاهقان لا أبلغهما/ قبِّلوهما عنِّي"؛ "ساقاي بوَّابتا مطهر الكسالى" و"قضبانُ السجن المحرِّر..."؛ "موتٌ بينهما ناعم"...

العاشقة والأم والزوجة والمعلِّمة والأخت والصديقة. والجوع خطيئة، والشبع خطيئة، والجمر أولى الوصايا.

ليليت ونصوص جمانة حداد، المكتملة منها وغير المكتملة، السارحة والسابحة، المجسِّدة للمرأة في الروح، ومداخل الروح ومخارج الحروف والجسد. كأن الشِّفاه قمر، والنطق بالحبِّ مدعاة للضجر، والرجال مقاومة وإغراء على أشفار الحروف. والكلمات للمرأة المُغْوِيَة، الطمَّاعة الثائرة، في نصوص مقطَّعة، تفيض وتثور، وتخبو وتدور، فيضيع الضائع. وفي نصوص بلا تقاطيع ولا تنظيم ولا فواصل – للتائهين كي يضلُّوا السبيل، وللثابتين كي يذوقوا طعم الحرية!

تقدِّم جمانة حداد مع عودة ليليت جديدًا، لن أغوص في شرح الظاهر منه نقدًا أو انتقادًا، لأن كثيرين أشبعوه قبلي، لكنني سوف أنقل ما هو أبعد من النقد، لأحاول أن أقرئ القارئَ السلامَ من العذراء الكاتبة والأمِّ المؤلِّفة والعاشقة والثائرة، حتى أقصى الثورة، ضد عالم ذكوري قاهر، يُكْرِه الإنسان على ما لا يرغب.

قرأت في جمانة الثورةَ في عمق السكون، وثباتَ الكلمات لغةَ محتوى. قرأت في جمانة الشغفَ حتى الحبِّ، والعذريةَ حتى بلوغ الزرع، والباحثة والضائعة في غابة. كم أصبتِ، يا سيدتي، حين أسميتِها "غابة تسكنها الآلهة والشياطين"! تعرف خوف القطيع وارتعاب الذئب والراعي. تخشى الوصال وتسعى إلى الشبق.

قرأت الأمَّ الصلبة الطَّموح لأبناء بطونها الرحبة أن تبلغ مجدًا. قرأت النهود والأرحام، والرماح الزاحفة والهاجمة والمترددة، والفخذين اللذيذين في الحضور وفي الوحي، من وراء الجرأة المشرقية، المتحجِّبة والمحجوبة.

قرأت امرأةً أعرفها من دون أن أعرفها، لأنها كاسحة وعابقة بالحب، وكارهة للامساواة، وساعية إلى الإنسان–الملاك، حيث لا يتميَّز الرجلُ عن المرأة بقوة الذكورة، بل بقوة الله الذي ساواهما قبل ثورة ليليت وولادة حواء واختراعها مؤنسةً وكفى! اخترعتْها الأسطورةُ من الضلوع لتحاكي الفخذين، كأن لا عقل لها ولا قلب!

قرأت في جمانة كلَّ معاناة المرأة، وكلَّ أحزان امرأة تائهة تبحث، بل تلهث، وراء حبٍّ صادق لا مكان له بين أولئك الرجال. قرأت "حكمة الحكماء وانزلاق الطائشين"، الطفلة والفتاة والمرأة والحب والأم. لكني بحثتُ في ليليت عن الصديقة، فلم أجدها. وفتشتُ في ليليت عن الزوجة، فلم تظهر ملامحُها على وجهي. ونبشتُ زواياها طلبًا للأمان وللطمأنينة، فظلَّتْ يداي فارغتين. وجمانة تبحث أيضًا؟ لعل الثورات، في مراحلها الأولى، لا تعرف الطمأنينة – والغابة كثيفة والثورة في بداياتها!

ولأنها قارئة للُّغات، وبلُغات مختلفة، وكاتبة وشاعرة بليغة اللفظ والمعنى، أقرؤها امرأة أخرى – ليليت أخرى – أفروديتي، بريشة الشاعر الألماني هربرت بوديك (1942، مترجمة):

[...] أنا الأرض الأنثى، الفتنة والإغراء ترفرفان... اللذات الرائعة ومُتَعُ العشاق، جميع العشاق/ سأنسكب في دمك، دَعِ النبع الأبدي يفيض/ يصب النشوة فيك/ غُصْ في الموجة غُصْ/ واستسلم للطوفان! وحياةٌ تزدهر وتنضج وتنفذ من مركز هذا الكون إليك، وحدائق تعبق حولك، وربيع بعد ربيع، تنسج نورًا يُدفِئ ثلجَ الخجل البارد فيك ويهتف: عانقني/ ضُمَّ الصدرَ إليك/ ليصبح العالم... ملك يديك!

*** *** ***

عن النهار، الأحد 19 كانون الأول 2004


 

* صَدَرَ عودة ليليت في منشورات "دار النهار"، 2004؛ لوحة الغلاف لهنري ماتيس.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود