مقاومة المافيا

سيرة ذاتية في العمل السياسي والمقاومة المدنية

من وحي كتاب ليولوكا أورلندو: هل يمكن للسياسة أن تكون مهنة شريفة؟

 

طارق زيادة

 

خلال معرض الكتاب العربي في بيروت، وقَّع ليولوكا أورلندو الترجمة العربية لكتابه مقاومة المافيا: سيرة ذاتية في العمل السياسي والمقاومة المدنية، الذي نقلتْه إلى العربية، في لغة واضحة، إفلين أبو متري مسرة، في 245 صفحة حجمًا وسطًا، وصدر في منشورات "المؤسَّسة اللبنانية للسِّلم الأهلي الدائم"، بالتعاون مع "المكتبة الشرقية" و"الوكالة الدولية للتنمية".

غلاف كتاب أورلندو بالإنكليزية

غلاف الترجمة العربية للكتاب

ليولوكا أورلندو هو المحافظ السابق لمدينة پاليرمو، عاصمة صقلية الإيطالية، التي نشأت فيها المافيا ونَمَتْ، متخذةً في البدء قيم العائلة والشرف والصداقة شعاراتٍ، كي تصير فيما بعد عنوانًا بشعًا للقتل وحماية الفساد واغتصاب الحقوق. ويروي أورلندو في كتابه الممتع، عبر سيرته الشخصية، كيف استعادت صقلية هويتها المسلوبة عبر نضال شاقٍّ خاضَه المجتمع المدني عندما قرَّر أن يقول كلمة واحدة حاسمة "كفى!" على لسان ليولوكا أورلندو، الذي تحول إلى "جثة متحركة" في شدة الأخطار التي تعرَّض لها خلال كفاحه المرير!

من الصعوبة في مكان أن تُعرَضَ سيرةٌ ذاتية بهذا الغنى لمناضل يقف في وجه المافيا في سطور. لكنني أدركت، بعد قراءة هذه السيرة، أن مفتاحها يكمن في السؤال الآتي: هل يمكن للسياسة أن تكون مهنة شريفة؟ يأتي جواب أورلندو، الذي غدا لاحقًا نائبًا في مجلس النواب الإيطالي وفي مجلس النواب الأوروبي، بالإيجاب، عبر بَسْطِ قاعدتين استند إليهما في نضاله المرير هما: القاعدة الحقوقية والقاعدة الثقافية.

يعرض أورلندو في كتابه كيف حوَّلتْ المافيا صقلية وعاصمتها پاليرمو إلى بلاد مهدَّمة، متسلِّلةً إلى عمق الحياة الصقلية ومُفْسِدة لها، مستخدمةً الرعب، مستوليةً على مقدَّرات الجزيرة، مستعملةً الإدارة الحكومية لخدمة مآربها، حتى بات الناس يخشونها ويلجؤون إلى بيوتهم عند هبوط الليل، مما ألغى مظاهر الحياة المدنية كلَّها.

ولم تكن المعركة ضد المافيا رحلة مريحة؛ إذ خاف "الجثة المتحركة"، لقب المحافظ أورلندو، الذي يقص كيف كان يختبئ ويهرب ويسهر الليالي وينهكه التعب والمرض والقلق، حتى أيقن عندما مرض أنه سيموت ميتة طبيعية في سريره، ولن يكون جثة ممزقة مضرَّجة بالدماء في حارات پاليرمو مثل رفاقه العديدين – وبينهم القاضيان جيوفاني فالكوني وباولو بوسيلينو والضابط كارلو ألبرتو دالاكييزا – إلى مئات الجثث الممتازة والجثث العادية لأشخاص قضوا في تفجير السيارات المفخَّخة أو برصاص البنادق!

ويشرح أورلندو نوبات اليأس والإحباط التي عاناها. لكن إيمانه بيقظة المجتمع المدني لم يدعه يتراجع عن تصميمه، على الرغم من استناد المافيا إلى شبكة مرجعيات سياسية وإعلامية ودينية، موضحًا أنه لم يلجأ ورفاقه إلى العنف ولم يفكر في ذلك، بل استندت مقاومتُه إلى الثقافة والقاعدة الحقوقية، فاتحًا أربع جبهات في آن واحد: الإعلام، والثقافة، والمدرسة، وإقامة وضع طبيعي في المدينة، طارحًا على نفسه وعلى زملاء نضاله أسئلة مهمة: "هل في إمكاننا أن نقاوم حدثًا عنيفًا ولامدنيًّا من دون أن نصبح عنيفين؟ هل يمكن للدفاع عن الشرعية أو دعمها أن يتلازم مع احترام الهوية؟ هل يمكن مقارنة المجتمع الذي لا يحترم الشرعية مع فساد المؤسَّسات العامة؟ هل توجد نقاط مشتركة بين مقاومة المافيا الصقلية ومقاومة كلِّ المافيات وكلِّ الإرهابيين الذين يزعمون أنهم يستمدون وحيهم من الدين والثقافة والهوية؟"

ويجيب المؤلِّف عن هذه الأسئلة بالإيجاب: "أجل، أجل، التغيير ممكن." ويعرض للإجابة المفصَّلة خلال صفحات الكتاب، مُظهِرًا أن محاربة المافيا تكمن في تعزيز الثقافة وبَلْوَرَتِها، عبر إقامة المسرح وكشف النقاب عن الكنائس والأبنية القديمة، أي عبر الحفاظ على الهوية والارتباط بالعالم، والاحتفاظ بالماضي، والنظر إلى المستقبل، والمحافظة على القيم والتقدم في السلوك والتصرف.

لكن الاكتفاء بالمقاومة الثقافية لا يُغني عن شجاعة أدبية ومعنوية تختلف عن الأساليب القمعية، وتؤدي، عبر كفاح مرير، إلى أن تصير صقلية، مرة أخرى، أوروبية ومتوسطية ومسيحية وعربية وإسلامية، إثر إيضاح الكاتب كيف أن الهوية الصقلية التي تشبَّعت من القيم العربية أفسدتْها المافيا واستخدمتْها للقتل، مُظهِرًا في وضوح أن الشرعية، مثل الديموقراطية والسِّلم، يجب أن تقوم على الهوية وعلى احترامها. وذاك ما ترمز إليه العربة ذات العجلتين: الثقافية والحقوقية.

يروي الكاتب سيرته الذاتية ونشوئه في كنف عائلة برجوازية معروفة، من أبٍ محامٍ كبير وأمٍّ أرسطوقراطية الحَسَب، ولدًا غير مبالٍ، بل على شيء من الشقاوة كبير؛ ثم يقظة وعيه حيال وضع بلده البائس، مما دَفَعَه إلى أن يصرخ "كفى!" عقب رؤيته المافيا تغتال حياة شعبه؛ ثم خوضه غمار العمل السياسي وانتخابه محافظًا لپاليرمو، وتعاطف الناس مع الخطة التي وَضَعَها لمحاربة المافيا بالقاعدتين الحقوقية والثقافية، مفصِّلاً وقائع المحاكمة الكبرى للمافيا، وانكشاف ضلوع الحزبين الديموقراطي المسيحي والاشتراكي في لعبة المافيا، عبر رئيسي الوزراء أندريوتي وكراكسي، ثم خروجه من الحزب الديموقراطي المسيحي وعمله على إنشاء حركة la Rete ("الشبكة")، ووصفه مصرع القاضيين جيوفاني وبوسيلينو.

في الفصل الأخير من الكتاب يورِد أورلندو قول الكاتب التشيكي ميلان كونديرا: "انتصار الإنسان على السلطة هو انتصار الذاكرة على النسيان"، مؤكدًا على أن حفظ الذاكرة حيةً ليس الهدف منه ألا يعيد التاريخ نفسه فحسب، بل أن يستمر في أخذ العِبَر من الماضي. ومن أجل ذلك وُقِّعَتْ في پاليرمو، في كانون الأول 2000 (أي قبل خمس سنوات)، "اتفاق الأمم المتحدة ضد الجريمة الدولية المنظمة"؛ وكان ذلك الحدث المهم معبِّرًا جدًّا، في حضور ألف مندوب من مئة وثلاث وأربعين دولة وأكثر من 600 صحافي من مختلف أنحاء العالم، كأنهم حضروا جميعًا ليشهدوا لانتصار مجتمع مدني على سلطة المافيا الغاشمة وعلى قانون السكوت والصمت.

ترى كم من السياسيين اللبنانيين والعرب سيقرأ هذه السيرة الشخصية لسياسي مكافح، انتصر بالمقاومة المدنية اللاعنفية، محولاً السياسة إلى مهنة شريفة. لعل في قصة حياة أورلندو يكمن مثالٌ حيٌّ على ما يمكن أن يفعله العاملون في الشأن العام إذا كان التصميم على النجاح في مشروعهم هو رائدهم.

*** *** ***

عن النهار، الأربعاء 26 كانون الثاني 2005

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود