المحيط الأسود

مساءلة الأصول والمبادئ في مرحلة الانهيارات

 

جان نعوم طنوس

 

قال أحد الفلاسفة ذات يوم: "تكمن في الشخص الذي ينادي دائمًا بالقيم العليا والأخلاق السامية نزعةٌ خفية إلى العنف والحقد والتعصب." ذلك أن المأخوذين بالمبادئ السياسية والدينية والأدبية وسواها يصدرونها عن إيمان شبه ديني بمطلق استبدادي ثابت لا يخضع للمساءلة والنقد. لذا سرعان ما يتحوَّل البشر إلى أدوات رخيصة وتافهة، تطبَّق عليهم المبادئُ بالعنف والإكراه، مثلما حصل في أوروبا القرون الوسطى وفي الاتحاد السوفييتي. لا معنى عندئذٍ للعقل الذي ينبغي له الخضوع لهذا المطلق، ولا مجال للحرية بوصفها علامة الحياة. فلا عجب أن تنشب الحروب، وأن يمارَس الاضطهاد، لأن رجل القيم الصارمة، كما بيِّن أحد كبار علماء النفس، يتصف بنزعة سادية–مازوخية. إنه عبد فكرة استبدادية، لا يملك حيالها سوى أن ينحني ويسوِّغ مازوخيًّا؛ وهو يحاول أن يُخضِع الآخرين ساديًّا لسيادة هذا المطلق، الذي كثيرًا ما يُختصَر في شخص الحاكم وأتباعه من العَسَس وفقهاء السلطة. أما سائر الناس فهم بين أمرين: إما أن يتولَّهوا بالسلطة ويعبدوا أشخاصها، فتصحُّ عليهم صفة المازوخية؛ وإما أن يتمردوا، فيكون مصيرهم السجن أو القتل أو التعذيب والحرمان.

إلا أن المبادئ، إذا اتصفت بالمرونة والتكيُّف، ليست شرًّا في حدِّ ذاتها. فالشر يكمن في أن يَعُدَّ بعضُهم كلَّ نصٍّ ديني أو سياسي أو أدبي أو علمي شيئًا ثابتًا لا يناله التطور والتأويل؛ أي أنه مطلق يتصف بالكمال وبالـ"معصومية"؛ وما على المرء إلاَّ أن يُقَوْلِب الوقائع على مقتضاه، مما يجعل النصَّ كأنه يختصر هذا الكون المتعدد واللانهائي، إضافة إلى الإنسان الذي لا نهاية لإمكاناته. ولعل أصحاب هذه الذهنية يتحدَّرون من أُسَر مضطربة غاية في الاضطراب؛ فتراهم يتميزون بضيق الأفق، وبطاقة هائلة على الحقد وإلغاء الآخر، وبالنظر إلى العقيدة على أنها فوق العقل، وأغلى من الحرية، وأهم من الحياة نفسها!

والحق أن الفراعنة القدامى (المتأخِّرين) والقياصرة وكهنة القرون الوسطى وآل بورشيا وستالين وهتلر وسواهم مِمَّن كثرتْ فيهم الدراسات النفسية هم أنصاف مجانين. فالحق دائمًا إلى جانبهم، والخطأ عند سواهم، وأنت حين تعارض – والمعارضة أساس التطور – تتردَّى بين أمرين: إما أن تُقتَل وإما أن تُرسَل إلى الجحيم! وإذا كان الأمر كذلك، فالأرض تتحول إلى مقصلة هائلة، أو إلى مستشفى للمعتوهين، ولا تصير أبدًا جنة من الأخوَّة والمحبة والعدالة.

أسوق هذه الخواطر في معرض قراءتي لكتاب أدونيس الضخم كمًّا ونوعًا المحيط الأسود*. ولعل العنوان يشير إلى اللون الأسود، أي إلى الحقد وانعدام الحرية وسيطرة الاتجاه الواحد، كما يتبدى ذلك في الحكم الواحد والدين الواحد والقومية الواحدة والخصائص الثابتة المنغلقة. ولا أغالي إن قلت إن هذا الكتاب من أهم ما كُتِبَ لدى العرب منذ فجر النهضة، أو منذ قرن تقريبًا. إنه "كتاب زلزلة"، يرجُّ القارئ رجًّا عنيفًا، ويضعه أمام موضوعات الساعة ذات الجذور القديمة، كالإرهاب والحجاب ومشكلة العراق والتقنية وعلاقات الشرق والغرب والعولمة ودور بيروت... إلى حدِّ أن فتاوى بعض المثقفين التي تطالعنا في وسائل الإعلام تبدو تافهة أمام هذا التحليل الجذري الذي يعيد النظر في المسلَّمات والأصول.

والحقيقة أن أدونيس يتابع خطَّه الفكري الجريء منذ الثابت والمتحول، حين قرأ الحضارة العربية قراءةً جديدة، مرورًا بـفاتحة لنهايات القرن، وانتهاءً بهذا الكتاب–السِّفر، الذي أحسب أنه لن يغيِّر كثيرًا لدى ذوي العقلية الجامدة، لكنه سيفيد الأشخاص الذين يمرون في حالات من التحول النفسي والمعرفي؛ فهؤلاء هم خميرة مجتمع لا يقرأ ولا يكتب – وأنَّى للخميرة أن تفعل في ذلك العجين؟!

ما هي أبرز الأفكار في هذا الكتاب؟ – إذا جاز لنا التعميم والتبسيط والاختصار.

يؤمن أدونيس بأن قراءة النصِّ الديني السائدة حاليًّا هي قراءة "إيديولوجية"، بحيث تصير المعرفة سلطة قاهرة، وبحيث تتماهى السلطة مع المعرفة الكاملة؛ وعندئذٍ يتراجع التأويل، ويسوَّغ العنف، وتتعدد المذاهب المنغلقة. في عبارة أخرى، يرى شاعر التحولات أنه إذا دخل اللاهوت في الناسوت (العالم) فقد فَسُدَ هذا الأخير. فالمطلق، كما بينَّا، يبدو من خلال الممارسة ثابتًا وكاملاً ونهائيًّا، إلى حدِّ أن البشر والوقائع يتحولون إلى أغراض هامشية، ويكون الهدف ليس اكتساب المزيد من الحرية، بل المزيد من العبودية!

وفي موضوع "الحجاب"، يرى المؤلِّف أنْ ليس هناك نصٌّ قاطع بِفَرْضِه. ثم إن المنادين بالحجاب لا يحترمون الناس الذين يعيشون معهم في وطن واحد، وينتهكون أصول حياتهم؛ ولذلك يؤمن كُثُر في الغرب أن هذا الانتهاك شكل من أشكال الغزو. ذلك أن الثقافة الإسلامية، بنظر أدونيس، قلَّما عرفتْ، بحسب التفسير السَّلفي، عذاب الأسئلة أو الشكِّ ومتاهاته، أو الرفض وأبعاده؛ إذ ليس أمامها غير اليقين وطمأنينة النفس. فكل مرتدٍّ مقتول؛ وهذا ما حصل فعلاً في حروب الردة. والذاتية هنا ذائبة في الجماعة إلى حدِّ أن خروج الذاتية إلى دين آخر أو إلى اللاتدين يُعَدُّ خروجًا من الأمَّة نفسها. ولذلك يتساءل أدونيس: "كيف يحلِّل علم النفس العربي فردًا لا ذاتية له أو ذاتًا لا يُنظَر إليها ولا تعيش إلا بوصفها موضوعًا."

غير أن هذا التساؤل يحتمل وجهًا آخر. فالمؤلِّف يخلط بين الذاتية الإبداعية ونفسانية الذات الذائبة في الجماعة. والحق أن لهذه الأخيرة أسُسها النفسية التي تنطبق على الشخصية الفاشية، كما بيَّن بعض العلماء الكبار في تحليلهم العميق لشخصية كلٍّ من لوثر وكالفِن، وللجماهير التي نشأت على شعارات مطلقة قسمت البشر قسمين: الأقوياء والضعفاء، المؤمنين والهراطقة (وهي عين القسمة التقليدية بين المؤمنين والكفار). أضف أن عبادة النصِّ والزعيم وما يرافق ذلك من سادومازوخية تنطبق في شدة على الذاتية العربية الذائبة في الجماعة–الأمَّة.

وفي مسألة العراق، يرى أدونيس أن صدَّام حسين ليس مَن أنشأ العراق، بل العراق هو الذي أنشأه. لذا يتساءل شاعرُنا عن هذا البلد الذي يتيح نشوء نظام وحشي مثل النظام الصدَّامي. فالمشكلة، إذن، في الشعب الذي يقبل الاستبداد أو يسوِّغه لأسباب عديدة تعود إلى بنية الذهن ذات البُعد الواحد. فلا عجب أن حارب النظام السابق الإبداعَ في مختلف تجلِّياته، ورسَّخ سلطوية الثقافة وثقافة السلطة، من غير أن ننسى سلطة القبيلة والعشيرة والولاء المذهبي الإيديولوجي. من هنا نراه يسخر – وكم نتمنَّى لو أنه أمعن في السخرية! – من الشعراء والكتَّاب الذين كانوا يتقاطرون على "مرابد" النظام، ويتغنون ببطولاته وأمجاده وإنجازاته، من "أمِّ المعارك"، إلى "قادسياته"، إلى "حلبجاته"، إلى مختلف معاركه الصغيرة والكبيرة. غير أن تعقُّد نظام الحكم ونوعية الأسلحة المتقدمة قد يحولان دون ثورة الشعب – تلك الثورة التي كانت أسهل في زمن السيف والرمح؛ صحيح أن الشعب كان آنذاك ذا بُعد واحد، لكن وطأة الظلم كانت تتيح بعض إمكانات النموِّ، لأن تسلط الحاكمين السابق على العسكريين كان أرحب وأكثر ديموقراطية مما هي عليه الحال اليوم – ويا للأسف!

أما فيما يخص سيطرة الولايات المتحدة، أو "روما الجديدة" التي تحتاج إلى يسوع جديد يقلِّم أظافرها ويدجِّن غرائزها الوحشية، فيرى أدونيس أن الخطاب الأمريكي يميِّز بين البشر، واصفًا بعضهم بأنه يمثل الخير وبعضهم الآخر يمثل الشر؛ وهو تمييز يُخرِج هؤلاء من دائرة الإنسانية، ويجرِّدهم من حقوقهم بوصفهم بشرًا. ولعل الحاجة ماسَّة إلى نهضة جديدة تشارك فيها أوروبا وشعوب العالم الثالث، فتعيد التأسيس لعالم إنساني منفتح وكريم خلاَّق.

ويأتي دور بيروت – وهو دور يتميَّز في نظرنا عن سائر المدن العربية، لكنه يشاركها في الكثير من الخصائص – الذي بات معروفًا لِما أثار من هجوم عنيف لدى بعض المثقفين اللبنانيين والعرب، يسوِّغه التعميم عند شاعر الكتاب. صحيح أن بيروت تراجَع دورُها لأسباب أقوى منها، وصحيح أن بعض اللبنانيين مسؤول، في شكل أو آخر، عن هذا التراجع؛ لكن بيروت تبقى، نسبيًّا، أرقَّ ما رقَّ له الشرق وأجمل ما حدَّث عنه. واللافت أن صاحب التحولات يشخِّص أمراض هذه المدينة التي تزخر بإمكانات حبيسة، فيقول إنها مدينة بلا مدنية، تعتمد التنابذ والإقصاء، وهي ليست أكثر من كنيسة وجامع ودكان، ما عدا أقلِّية مهمَّشة، لا دور لها فاعلاً.

ولا شكَّ في أن موضوع الأزمة من أجمل ما كتبه شاعر الرفض الأكبر. فالأزمة علامة حياة، لو أتاحت فرص الاختيار والنموِّ والتجدد. لكن المشكلة أن غالبية العرب لا يشعرون بعمق الأزمة؛ ويصح القول إن مجتمعاتهم لا تعرف الأزمة بل الانحلال. إن نمط حياتهم قائم على القتل والإقصاء والإلغاء، وإن مثقفيهم عبارة عن "فقهاء جدد"، وهم لا يستجيبون في إيجابية للتحديات – بحيث تخرج من قراءة الكتاب كأن العالم العربي عبارة عن صحراء من رماد، وما ملايين الناس إلا موتى بالروح أو الجسد. وهذا التشخيص عميق وصادق، لأن معظم العرب تخدَّرت عقولهم إلى حدٍّ مخيف. كيف لا ونسبة القراءة في العالم العربي لا تتجاوز الدقائق الخمس في السنة؟!

إخالني شوَّهتُ مضمون الكتاب في هذه العجالة الصحافية. ذلك أن المحيط الأسود علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية؛ ولعله من أكثر الكتب هجومًا ومساءلة للأصول في مرحلة تشهد انهيار الأحزاب والحكام والمثقفين والشعوب، فضلاً عن سقوط فكرة القومية والاشتراكية والوحدة – هذا من غير أن ننسى "المفكرين" الإيديولوجيين الذين جعلوا من النصِّ السياسي والأدبي نصًّا سلطويًّا شبه دينيٍّ – فما بالك بالشتائم التي كالوها للأدباء المبدعين، وتمجيدهم لنقاد سطحيين؟!

كل شيء رماد ويباب. لكن "حيث تكثر الخطيئة تفيض النعمة"، على حدِّ قول القديس بولس – هذا إن كنَّا متقبِّلين تلك النعمة؛ وإلا تحوَّلت نقمة!

*** *** ***

عن النهار، السبت 12 شباط 2005


 

* صدر في منشورات "دار الساقي"، 2005.

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود