|
ما تبقى من سيرة الوجد وأبجدياتُ الذَّاكرةِ الصُّوفيَّة
1 أعترفُ أن "بليَّتي الكبرى الكتابةُ"، كما يُعبِّرُ الكاتب العظيمُ غوركي. لكنَّ بليتي الأكبرَ، وجنوني وهوسي اللذيذُ، هوَ القراءة. ولأنني لا أخفي انحيازي إلى الشِّعر، أجدُني أصغي، بكلِّ جسدي وأحاسيسي وأحلامي وحالات عشقي؛ أصغي لفعلِ اللغةِ فيها – متعتي وعشقي وجنوني – رُبَّما لأنَّ "روح الشاعر تراتيل"، كما يقولُ شاعر "البحيرة" لامرتين، ورُبما لأنَّ الشاعرَ يسهُلُ عليهِ "إدماج الكون في كلمةٍ منه، في جملة"، كما يرى غاستون باشلار في كتابِهِ شاعرية أحلام اليقظة (ص 163). ولأنَّ الصديق الشاعر محمد المزوغي شَغَلَني بتراتيلِهِ وأسفاره الصوفية، عبر لغةٍ رشيقةٍ وموجعةٍ في آن، حملتُ مصباحَ رؤيتي، وأفردتُ أشرعَتي، وجذَّفتُ في بحارِ لغتِهِ التي نسيجُها وقتُهُ، وألمُه، وحالاتُ عشقِه، وتأملاتُه الروحية، وإشراقاتُ ذهنِهِ التي تُفضي إلى عوالمَ من التأملِ والجمالِ والمتعة. وأعترفُ أنَّه أمتعني في لغتِهِ الدافئة وحالتِهِ الشعرية، ربما لأنَّ "التجربة لمْ تنتهِ بعدُ، ولعلها لا تنتهي أبدًا"، كما يقولُ في مقدِّمة الديوان. 2 هذا "الصوفي الأخير" لا يُخفي رحلاتِهِ وأسفارَه في بحارِ لغةٍ هيَ كلُّ همِّه ومبتغاه. وإنها لَتضيءُ بقراءاته المتأنِّية والواعية للتراث الصوفي، ابتداءً من ابن عربي، الذي قامَ منذُ سنوات بتحقيقِ نصوصه – قصائده النثرية – وإشراقاته الصوفيَّة في ما لا يُعوَّلُ عليه، الذي قالَ عنهُ أدونيس إنه رائدُ قصيدة النثر قبل التسمية. وهوَ يتحدثُ عن الصوفيين وتراثهم العظيم: وكنتُ أظنُّ بأنَّ الجموعَ التي نحوَكَ الآنَ تسري بكفيَّ وأني في كونِكَ النقطةُ الفاصلةُ وأنَّكَ فيَّا وأنَّ القصائدَ – كلَّ القصائدِ – في العشقِ وحيٌ إليَّا وكنتُ أظنُّ إلى أنْ رأيتُ الذي لا يُرى فبكيتُ ضحكتُ عليَّا تحقَّقتُ أنِّي كنتُ بعيدًا لأني كنتُ لأنِّي أراني فكيفَ أراكْ (ص 13) هذه لغةُ الشاعر محمد المزوغي. وهي تدلُّ عليه، تؤكِّدُ ذلكَ مفرداتُه الصوفيَّة، ابتداءً من عنوان الديوان، ما تبقى من سيرة الوجد، وإهدائه "إليهِ منهُ"، وعناوين القصائد: "إبحار"، "لأني أراني فكيف أراك"، "أستحلفكَ بمجد العشق"، "ليلٌ يحدِّق في وجهي"، "يا غيب روحي"، "لا يولدُ أحدٌ منتعلاً"، "وردة بوح"، "خروج"، "امتداد"، على سبيل المثال لا الحصر. وبالعودة إلى نصوص ابن عربي وجلال الدين الرومي وفريد الدين العطار، نجدُ أنَّ أبجدية ذاكرتِهِ الصوفية قدْ تشكَّلتْ، وقدحَ شرَرُها على القناديل الهادئةِ التي أوْقَدَها أولئك العشَّاقُ العظام، وأنَّهُ لا يُخْجِلهُ أبدًا أنْ يخرجَ فتيًّا من معاطفهم التي تضمُّ أسرارَ الروح، وأحلامَ الجسد، ورؤى العشَّاق، وتراتيل الشعراء: لا أستبيحُ الكأسَ أهدتْ رشفةً لسواي أتبعُ في الغرام أصولا إنْ لمْ أجدْ حُسنًا ألوذُ بظلِّهِ وأطيلُ في محرابِهِ التَّهليلا أبحرتُ في ذاتي وعدتُ بمُبْهِرٍ يَدَعُ الجمالَ – إذا أطلَّ – ذليلا (ص 1) 3 ما تبقى من سيرة الوجد لغةٌ تؤرِّخُ للألم، والعشقِ الصادق، وأنين الذاتِ الجريحة، والأحلام المُبدَّدة، والرؤى العصيَّة، ولا تبتعد أبدًا عن لغةِ أولئكَ العشَّاقِ الصوفيين الذين تصنعُ دموعُهُمُ شكلاً آخرَ للكونِ، وتضعُ أحلامُهُمُ تعريفًا آخرَ للحياة، فتجتمع الأزمنةُ في صلاةٍ قِبْلَتُها العشقُ، وسَجَّادتُها الروح. ويصير الألمُ وطنًا يُدفِئُ أحلامَهم البسيطة، ذلكَ لأنَّ: "الصَّحوَ مريرٌ"، والعشقَ "مثقلٌ بالوهنِ". يؤكِّدُ هذا إروين أدمان في كتابهِ الفنون والإنسان، إذ يقول: "والكلماتُ التي تسمعها ما هيَ إلاَّ إشارات لأفعال." (ص 23) كذلك القصيدة عندَ الشاعر المزوغي همسُ الروح العاشقةِ المعذبة، وارتعاشة جسدٍ متيَّم: وأرى العالمَ غيرَ العالمِ أتغلغلُ في سرِّ الأشياءِ فتحيط همومُ الكونِ بكلِّي ينوءُ فؤادي الكهلُ ببعثِ حروفِ الوَجْدِ... يا هذا الوهج المُفعم بالصَّحوِ أستحلفكَ بمجدِ العشقِ وسرِّ النارِ وروح الشَّجرة... أنْ تغفوَ فالصَّحوُ مريرٌ وأنا بعدُ بحزني الآخر مُثقلٌ بالوهن (ص 23) 4 الشاعر محمد المزوغي في حالةِ عشق منغَّم، ووَجْدٍ ممغنطٍ بآهات جسدٍ ناحلٍ جريح. وإنَّ هذهِ الدموع التي تسَّاقطُ حزنًا ووَلَهًا معَ كلِّ مفردة مندلقةٍ من نهرِ قريحتِه، في هذا النزيف الجميلِ والضروريِّ، تدلُّكَ على أسرارٍ لمْ تخترقْها إلاَّ عواصفُ القصيدة. هذا الشاعرُ الصوفيُّ يجدُ في العشقِ خلاصَه، وفي القصيدةِ بوَّابتَهُ الأخيرة للدخولِ إلى عوالمَ يراها هوَ ويعيشها، ولا نراها نحنُ إلاَّ إشارات: "آهة"، "رجفة"، "رجاء"، "نشوة"، "هزَّة"، "إيحاء"، "نغم"... كلُّ هذهِ المفردات، بشحنتها الشعرية، هيَ: "رؤية ما لا يُرى" و"سماع ما لا يُسمَعُ". ألمْ يقُلْ ذلك الشاعر العبقريُّ آرتور رامبو حين اختلط الشعرُ–الجنونُ بدمِه، وصار السَّفَرُ على أجنحةِ الكلمات مبتغاه؟ هي نبضُ قلبٍ في هواك، وآهةٌ حيرى، ورجفةُ خاطر، ورجاءُ هيَ نشوةُ الأحلامِ يسكبُها المدى في مسمعيك فغنِّ يا أشذاءُ... حزنٌ خفيٌّ لستُ أدري كنهَهُ شوقٌ غريبٌ، هزَّةٌ، إيحاءُ نَغَمٌ فريدٌ يستبيحُ سكينتي منْ أينَ هذا السِّحر يا أصداءُ؟ (ص 34) 5 محمد المزوغي شاعرٌ يُعالجُ بالعشقِ ظمأ الروح، وبالشعرِ تربةَ الأحلام، كيلا تُصبحَ بورًا. وبالإشراق الصوفيِّ وآيات الوَجْد، يزرعُ شجرَ الأملِ ويقود بأناملَ نحيلةٍ جيوشَ التأملِ للانتصارِ على لحظاتِ اليأسِ القاتل. ما تبقى من سيرة الوجد – أعني ما تبقى من سيرتِه – عشقٌ حتَّى العظم، وشعرٌ حتَّى آخر كلمةٍ في بحورِ الكلام، وذنبٌ حتَّى آخرِ ضفافِ المغفرة! ذلك هو اليوغا الذي يهدفُ من رياضته إلى تنشيط الذاكرة وتجديدها؛ وهي أيضًا تمارين الصوفيين في تجديدِ نَبْضِ القلب، وحركةِ الأصابع، وعضلاتِ القريحة، وشباب الروح في مدينة التأمل – حتى لوْ بَدَتْ يوتوبيا – مادامت تُفضي إلى المزيدِ من الوَجْد، والإشراق، والشعر، والعشق – دم تجربتِهِ التي لا تنتهي وحِبْرِها: فيا اغترابي ويا همِّي... ويا هِمَمي ويا جنوني وأمواجي... وبُركاني ملامحي لمْ تزلْ تندى روائحُها مُنذُ التقيتُكِ في أطيافِ إيماني ذاكَ اللقاءُ على ألواحِهِ اغتسلتْ روحي... وطافَ على السَّارِيْن عرفاني ولمْ أزلْ أستقي من وهجِهِ لغتي وأسرجُ النجمَ في ليلي وأكواني وأطلقُ الشوقَ أحلامًا ملونةً قدْ صغتُها من رؤى وَجْدي وأحزاني (ص 58) ومن أبجدياتِ ذاكرةِ الصوفيين العشقُ، بل التوحُّدُ في المعشوق، غيابُ الأنا لتحلَّ في الآخرِ. وهذا تدلُ عليه مفرداتُ الذاتِ الجريحةِ، وأنين الروح العاشقةِ التي يمتلئ بها الديوان، وتظهرُ في بريقِ حرفِهِ الفسفوريِّ وإيقاعِه، وفي صَخَبِ مفردتِهِ الهاربَةِ من ثكنةِ الآلام والجراح الحصينة: لا تُكثري من عتابي قدْ يوقظُ الجرحَ عتبُ قاسيتُ في الحُبِّ ما لمْ يقاسِ قبلي... مُحبُّ وكمْ تحملتُ صعبًا حتى تعجَّبَ صَعْبُ أنا إنْ أُحبُّ فإني... بكلِّ كُلِّي أُحبُّ (ص 76) 6 هذهِ اللغة الصوفيَّةُ لمْ يتكلَّفْها الشاعرُ المزوغي، لأنَّها منطادُ حُلمِهِ للتوحُّد معَ الروح، معَ الأرض، معَ مَنْ يُحبُّ، غير مستسلمٍ لليأسِ أو الحزنِ والعزلة، وليخرجَ في قصيدتِهِ إلى أبعدَ من حدودِ الحُلم إلى "الرؤية الكبيرة من رؤى التجربة"، كما يعبِّر الناقد إروين أدمان في كتابِهِ الفنون والإنسان (ص 73). ولنتابع هذا النصَّ الأكثر حُلمًا وشفافيَّة: وكانَ البدءُ أنْ لمعتْ بروقٌ... أيقظتْ روحي فماتَ الموتُ وانفسحتْ دروبُ الوحي في بوحي وقامت تنفضُ النسيانَ ذاكرتي على لوحي... فلمَّا لمْ يَعُدْ أملٌ يُنجيني على لوحِ وذاتي لمْ تَعُدْ ذاتي وروحي لمْ تَعُدْ روحي وتسبيحي طَواهُ الصَّمتُ صارَ الصَّمتُ تسبيحي (ص 96) 7 أما عودة الشاعر المزوغي – التي ليسَت مُفاجِئةً – إلى رموز العشق، وسادةِ العاشقين (قيس، جميل، كُثيِّر، الحميري، المرقَّش، ليلى، عزَّة) – هذهِ العودةُ مقصودةٌ ومتوقَّعة، رُبما لأنَّهُ يُريد أن يقولَ إنَّه واحدٌ من هؤلاءِ العشاق، وأنَّ العشقَ تربتُهُ وملاذُهُ الأخير... دونَ أنْ يتبرأ من أجواءِ الصوفيين. "أليسَتِ المرأةُ تلالاً بيضاء؟"، كما عبَّر أحدُ الحكماء. فلماذا لا ترتفعُ فوقَ هذهِ التلال شعلةُ التأملِ، والوَجْد، والاستغراق، والتوحُّد في كلِّ شيءٍ، ابتداءً من المرأةِ والأرضِ، حتى الخالق العظيم: أشرعتُ نحوَ جزائرِ العشَّاقِ كُلَّ مراكبي تحدو بيَ الآمالُ ورجعتُ تعلو بي وتهبطُ لوحةٌ هيَ كلُّ ما أبقى ليَ التجوالُ أنا ذلكَ الملاحُ أنهى رحلةً ودَعَتْهُ للنومِ الطويلِ... رمالُ قصَصُ الهوى والشوقُ... محضُ خرافةٍ وحكاية الحُبِّ الكبير خيالُ فديارُ عُذرةَ قدْ تقوَّضَ رسمُها والعاشقون تبدَّلوا... واحتالوا ما عادَ قيسٌ في الهوى بمتيَّمٍ وعَرَتْ كُثيِّرَ فترةٌ ومَلالُ وسلا جميلٌ عن بثينةَ طائعًا والحميريُّ – وما السُّلوُّ محالُ وأفاقَ من سُكْرِ الغرامِ مُرقَّشٌ وتزوجتْ ليلى، وعزَّةُ مزَّقتْ كُلَّ القصائدِ... فالهوى أطلالُ هذا زمانٌ فيهِ تنتكسُ الرؤى وتثورُ فيهِ على الشخوصِ... ظلالُ (ص 102) 8 ما تبقى من سيرةِ الوجد سيرةُ شاعرٍ عاشقٍ حتَّى العظم، مخارجُ حروفِه، وكلماتُه، وتفعيلاتُهُ الخفيفة، تقولُ أكثرَ من ذلكَ أنَّهُ حالمٌ ومتيَّمٌ، حتَّى آخرِ حدودِ الكلمةِ والشوقِ والاحتراقِ والألم. *** *** *** * كاتب وشاعر عراقي.
|
|
|