|
الـAIDS آفاق للمستقبل
تبدو لنا مشكلةُ الـAIDS (تناذُر نقص المناعة المكتسَب Acquired Immune Deficiency Syndrome) من الظواهر الكبرى المسايِرة لنهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين؛ وهي اليوم قيد مساجلات عديدة. لقد طُرِحَ العديدُ من الآراء حول أسباب المرض وطُُرُق مكافحته – وهي آراء نابعة من مرجعيات دينية وعلمانية مختلفة، ومن أوساط طبية، وحتى سياسية. أما من جانبنا، فسوف نحاول أن ننأى قليلاً عمَّا هو مطروح عمومًا، لنتصدى للمسألة في إيجاز من وجهة نظر مغايرة تستلهم معطيات الحكمة القديمة. يتعيَّن علينا، بادئ ذي بدء، أن نفقه شيئًا عن دور الدافع الجنسي لدى الإنسان – وهو دورٌ ينفرد به عن سائر الكائنات الأخرى. فبحسب معطيات الحكمة القديمة، التي تنوَّعتْ صياغاتُها بتكيُّفها مع حاجات الحضارات والعصور، مع بقائها واحدة من حيث الجوهر، كان الإنسانُ في بدء تكوُّنه أحديَّ الجنس hermaphrodite، وكان التكاثر إذ ذاك يتم تلقائيًّا بسُبُل متعدِّدة على كرِّ الذريَّات البشرية الأمَّهات Mother-Races الأولى.[1] ومع حتمية انغلاق الوعي في المادة، ومع ضرورة اختبار الإنسان لكلِّية وجوده الأرضي، انقسمتِ الوحدةُ الأصلية إلى قطبيَّتين polarities اثنتين دُعِيَتا بالقطب المذكَّر والقطب المؤنَّث، إيذانًا ببدء رحلة طويلة يتم فيها، على مرِّ العصور، اختبارُ هاتين القطبيَّتين في مختلف أوجُههما، قبل استرجاع تلك الحالة "الخنثوية" androgyny البدئية استرجاعًا واعيًا، وقد اغتنتْ باختبارات هذا الدور الأرضي وبتجاربه. وهذا ليس إلا أحد عناصر سيرورة التعيُّن والتفتح، أو الانغلاق Involution والانطلاق Evolution – تلك السيرورة المرتبطة بالوجود ككل. هذه الرحلة الأرضية، لدى ابتداء فَقْدِ مستوى معيَّن من التحقُّق، يُرمَز إليها بـ"سقوط آدم"، الذي يحدِّد بدءَ التجربة الجنسية كضرورة للتكاثر. وهذا شوط ضروري لهذه المرحلة من الانغلاق، لأن الفعل الجنسي كان من شأنه أن يهيِّئ لظهور القشر الدماغي الجديد neo-cortex الذي هو مقر الوعي المتحسِّس للعالم الخارجي. ظهور الجنس، إذن، يسير يدًا بيد مع الاكتشاف الواعي للواقع المادي الخارجي، أو للمادة منقطعةً عن أصولها؛ ولقد هيَّأ الجنسُ تكاثُفًا أكبر للجسم وجسمانيةً أكثر تماسكًا. إذن فالجنس، بما هو مرحلة تطورية لا بدَّ منها، كان ضرورة رائعة لتعبير الحياة عن ثنويَّتها الظاهرة في وحدتها الباطنة.[2] حصل "الانحراف" عندما انحطَّ الإنسان بالجنس إلى المستوى البهيمي، فلم يعد يجعل منه إلا أداة لالتذاذ الحواس وإشباع للشهوة متمحورٍ حول الأنية ego الضيقة. واليوم، فيما نحن نعبر مرحلةً تطوريةً حاسمة، نعود فيها – أو يجب علينا أن نعود – إلى شعلة الحقيقة الروحية في أعماقنا، نجتاز دورًا تاريخيًّا يتطلَّب منَّا السيرَ في الاتجاه المعاكس: اتجاه تصعيد الطاقة الجنسية والتسامي بها، حتى تكون إحدى الأدوات الرئيسية لتحقيق التطور المذكور. ذلك أن الدافع الجنسي مصدر هام من مصادر الطاقة libido التي ينحطُّ تبديدُها غير الهادف بالإنسان، جسمًا ونفسًا، إلى أدنى من مستوى البهيمة. أما إذا تمَّ لنا فهمُ هذا الدافع، من حيث وظيفتُه الحقيقية، وتم تحويلها وتصعيدها sublimation (ليس بالمعنى الفرويدي قطعًا)، فيمكن لنا جَعْلُها خزانًا هائلاً من الطاقة المتاحة لإمداد النشاط الخلاَّق للإنسان، الذهني والنفسي والفنيِّ والإبداعي إجمالاً، والإسهام في بناء الفرد الصحيح، والمجتمع الصحيح، بالتالي.[3] يقوم تنظيمُ الحياة الجنسية السليم من الوجهة النفسانية على تفهُّم واضح أساسًا لمستوى تطور كلِّ فرد، ولمنزلة الجنس في تفتُّح شخصيته. ومن الواضح أن مسألة الجنس لا تنطرح على الجميع على السوية نفسها من العمق: فبعضهم يحيا الجنس على صعيد الوظيفة التكاثرية وحدها، دون أن يكون ذلك علامةً على نضح نفساني داخلي خاص. وإن لفي وسعنا أن نميِّز بين عدة مستويات للخبرة الجنسية التي تعيشها البشريةُ اليوم؛ وهي مستويات ليست متمايزة إلى الحدِّ الذي نعتمده هاهنا، تسهيلاً للدراسة، بل هي متداخلة بعضها مع بعض: 1. الجنس كمجرَّد وسيلة للالتذاذ الجسماني والحسِّي لا بدَّ أن ينعكس سلبًا، لا على الصحة النفسية وحسب، بل وعلى وظيفة التكاثر نفسها. 2. اعتبار الجنس وسيلة للتعمُّق في فهم النفس والآخر والتواصُل معه. وهذا مستوى من العلاقة الجنسية أرقى، لأنه ينطوي على إحساس واعٍ بطبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. 3. أما ما يلوح لنا أنه المستوى الذي يجب أن ترتقي إليه البشريةُ الحالية فهو المستوى الذي يصبح فيه الجنسُ الواعي والراقي سبيلاً يلتقي فيه كلُّ قطب مع القطب المقابل ويتواصل معه، بما ييسِّر اجتماع القطبيَّتين المتقابلتين والمتكاملتين – مع الغنى كلِّه الذي يُكسِبُه الأمرُ لكلِّ قطب، ومع الوضع الصحيح من حيث توازُن الذكورة–الأنوثة في كلِّ إنسان. الجنس، على هذا المستوى، مصدرٌ للإبداع، من حيث إن طاقاته الداخلية تعبِّر عن نفسها تمامًا وبالكلِّية وفقًا لمبدأ التناغم أو التكامل بين الذكورة والأنوثة. جدير بالذكر أن الطاقة الجنسية غير المستعمَلة، الموجَّهة توجيهًا سليمًا، يمكن لها أن تتحوَّل إلى طاقة خلاَّقة في خدمة تحقيق الوعي. والإنجاب، في هذا السياق، يتَّخذ بُعدًا قدسيًّا، ينعكس إنسانيًّا عِبْرَ ولادة نفوس بشرية أنضج وأكثر تفتحًا على المرتبة الأرضية. وقرار الإنجاب يتم على هذا المستوى مترافقًا مع تفكُّر عميق ونضج نفساني وفحص دقيق عن الدوافع العميقة. أما المستويات الأخرى، الأرقى، للجنس فليس هاهنا مقام الكلام عليها. لقد بلغت البشرية، كجماعة، حدًّا تقضي فيها ضرورةُ تطوُّرها بأن تعدِّل الكيفيةَ التي تحيا بها طبيعتَها العاطفية والجنسية وتُوازِنَها. في عبارة أخرى، عليها أن تَعْبُرَ من الجنس كمجرَّد أداة للالتذاذ الحواسي والانفعالي إلى الجنس بما هو أساسًا وسيلةُ مُنَاغَمَةٍ داخلية وجَمْعٍ بين القطبيَّتين المتقابلتين والمتكاملتين، المذكرة والمؤنثة – مع الانضباط الذاتي الذي يفترضه هذا التطور، ومع إطلاق الطاقة الخلاَّقة الذي يَعْقُبُه. بهذا التوجُّه الجديد، يصبح الإنسان، من حيث الداخل، أكثر تفتُّحًا، وتكون في متناوله، من حيث الخارج، طاقةٌ أعظم لتلبية حاجاته الإنسانية وعمله الخلاَّق. وهذا العمل جزءٌ من الواجب المنوط بالجيل الحالي لتمهيد الطريق للأجيال المقبلة. والمهم هاهنا هو أن يبقى الإنسان يَقِظًا على مستويين اثنين: أ. مستوى الداخل، حيث يتحقَّق التوازن؛ و ب. مستوى الخارج، حيث تجري التحوُّلات الجماعية الكبرى. إن هذه الضرورة القاضية بإعادة توجيه الطاقة الجنسية، كما ألمحنا، هي في الواقع المغزى الحقيقي من ظاهرة الـAIDS ومن التحدِّي الكبير الذي يطرحه هذا الداءُ على البشرية جمعاء. وهذا التناذُر أو المتلازمة syndrome تتبدَّى بانهيار تدريجيٍّ لخطوط الدفاع المناعي للبِنْية، وكأن الذات الداخلية تسحب تيَّار الحياة من الشخصية الظاهرة وترفع عنها حمايتَها المعتادة. وإن كون أصل المرض فيروسًا[4] (حمى راشحة) طبيعيًّا أو مركَّبًا مخبريًّا (قصدًا أو نتيجة خطأ علمي)، أو كون جملة اجتماعية معينة أو بلدًا معينًا مصابًا قبل غيره بأعراضه، لا يقدِّم في المسألة أو يؤخر فيها كثيرًا، بل يهدِّد بحَجْبِ جوهرها عن العيان. ثمة العديد من العناصر يدخل في نطاق تطوُّر المرض، من نحو: أ. النفسية الجماعية لفئة معيَّنة أو بلد معيَّن، ب. النفسية الفردية للفرد الناقل للمرض أو المصاب به، ت. مستوى الفهم والوعي والتفتح، إلخ؛ لكن المسألة الحقيقية تكمن في التحدي الذي يطرحه هذا الوباء (والوباء هنا اختلال في توازُن النفسية الجماعية) على البشرية جمعاء وفي كيفية استجابتها لهذا التحدي. ولعل من الممكن للعلماء، في المستقبل المنظور، أن يتوصَّلوا إلى علاج شافٍ يمحو هذا الوباء من على وجه الأرض، شأن الطاعون الذي لم يعد اليوم، لدى الغالبية من سكان الأرض، غير ذكرى مؤلمة من الأمس الغابر. لكن إذا تمَّ هذا من دون تغيير حقيقي في النفسية الفردية والجماعية، ومن دون التعديل الذي ألمحنا إليه في وُجْهة الطاقة الجنسية، فسوف يكون الأمر نجاحًا على الصعيد المادي، لكنه إخفاق على الصعيد النفساني العام. إن الفهم العميق لمشكلة الـAIDS وحلَّها الممكن لا بدَّ أن يمرَّ عبر استيعاء البشرية لأبعادها الداخلية وللمغزى الحقيقي منها، بحيث يكون خطوةً حاسمة إلى الأمام. وهذا الاستيعاء ينطوي على عدة أوجُه: 1. فهمُ قانون السببيَّة Karma على صعيد النفس، بمعرفة أن نتائج جسمانية معينة، مثل المرض المذكور، ليست إلا عواقب سلوك ينتهك حرمةَ قوانين الحياة في تفتُّحها التي لا تمت بِصِلَةٍ تُذكَر إلى القوانين الوضعية التي تسوِّغ، في كثير من الأحيان، سلوكًا شائنًا لا يليق بالإنسان. 2. إعادة توجيه جذرية للطريقة التي يحيا الإنسانُ بها الجنسَ وطبيعتَه العاطفية. إن توزيع "العازل الذكري" على أوسع نطاق لن يغيِّر في الأمر شيئًا إذا بقي الموقفُ الداخلي على حاله، وإذا لم يُفهَم الجنسُ في طبيعته وموقعه الصحيحين من حيث التوازُن المتناغم للدوافع والوظائف الطبيعية الأخرى، ومن حيث الجمال الذي ينطوي عليه بوصفه وظيفةً مقدسة. 3. موقف تفهُّم الجماعات المهمَّشة، مثل اللوطيين ومدمني المخدِّرات، وإعادة دمجها الاجتماعي. فمع القيام بكلِّ ما في الوسع للحدِّ من انتشار الوباء، يجب عدم الوقوع في فخِّ التمييز والإقصاء: إن استبعاد مَنْ يضايقنا (بتذكيرنا بحياتنا الجنسية الفوضوية) هو التهرُّب الأسهل من المواجهة المباشرة للمشكلة. 4. متابعة البحث الطبي، مع الوعي بأن العمل العلمي يجب أن يترافق دومًا مع فهم حقيقي للمشكلة المطروحة، ومع ضرورة تحويل للطاقة الجنسية على الصعيد الجماعي. 5. تشجيع التضامن بين الأفراد والجماعات والفئات والأوساط الطبية والاجتماعية والسياسية لتلبية الأمور الملحَّة التالية: أ. محاصرة الوباء؛ ب. إعادة دمج الفئات المهمَّشة؛ و ت. تسهيل سيرورة الفهم وإعادة التوجيه الضروريين في الحياة العاطفية. فيما يخصُّ هذه النقطة الأخيرة، توفِّر العودةُ إلى معطيات الحكمة القديمة ورَفْدُ العلم الحديث بها سَنَدًا قويًّا لتحقيق الفهم العميق المطلوب. وفي هذا الصدد، يبدو لنا تشكيلُ (لدى مَن باتت لديهم الحاجةُ ماسةً إلى ذلك) مساحاتٍ يمكن أن تتم فيها سيرورةُ التحوُّل في صورة متناغمة أمرًا لا غنى عنه – على أن يقودها أشخاصٌ مسؤولون مقتدرون ويوجِّهوها. على غير ما يُظَنُّ، تختبئ خلف الـAIDS إمكانيةٌ رائعة للتفتح الداخلي؛ وما علينا إلا أن نكشف عنها ونُخْرِجَها إلى النور. *** *** *** تنضيد: نبيل سلامة [1] راجع في أرشيف معابر دراستنا: "العين الثالثة بين الحكمة القديمة والفسيولوجيا الحديثة". [2] راجع، في إصدار معابر لشهر حزيران 2005، مقال الأستاذ ندره اليازجي "الرجل والمرأة". [3] يشير مصطلح ليبيدو، بحسب كارل يونغ ومدرسته، إلى الطاقة النفسية إجمالاً، وليس إلى طاقة الرغبة الجنسية حصرًا، كما ذهب فرويد وأتباعُه. [4] تنشيط الفيروس تجسيمٌ حي لاختلال جماعي في التوازن يُعرَف في الطبِّ الصيني النقلي بـ"الطاقة المنحرفة".
|
|
|