الحضارة ثقافة

تتجاوز المفهوم السلبي للقَدَر والمصير

 

ندره اليازجي

 

تأمَّلتُ العمقَ القائم في الموضوع الذي أطرحه الآن على بساط البحث، ساعيًا إلى معرفة المعنى الجوهري الكامن في مفاهيم الحضارة، والثقافة، والقَدَر، والمصير. وقادني تأملي هذا إلى تصور المغزى المتضمن في القيمة الحضارية الماثلة في حياة الشعوب والمجتمعات والأفراد وإلى إدراكه. ولما كانت "الثقافة" مفهومًا أو تصورًا يستغرق الروح الإنسانية التي تبلغ ذروة "مصيرها" في إبداع لانهائي، ينتشر في أرجاء العالم، ويفعل فيه على نحو "مبدأ" يحقِّق ذاته في التاريخ البشري، فإن الحضارة تعبِّر عن ذاتها في "مثال" أسمى للثقافة. ومتى بلغ المجتمع أو الفرد هذا المستوى من الإبداع الثقافي والعمق الحضاري أصبح شموليًّا وعالميًّا، وترسَّخ في جوهر الحقيقة الإنسانية. وعندئذٍ، لا يتلاشى الإشعاع الفكري ولا يتضاءل، بل يتألَّق في المحيط الشامل الذي يغلِّف الوجود الإنساني على نحوِ خلفيةٍ يسجَّل عليها ما تدوِّنه الشعوبُ والمجتمعاتُ والأفرادُ من مآثر وإنجازات ثقافية وحضارية وعلمية.

ثم تأملت مفهوم "الثقافة"، فوجدت أنه مفهوم حضاري، يرتكز على قواعد، هي مقوِّمات ومكوِّنات أساسية تتمثَّل في "العقل المنفتح"، و"العقل المكوِّن"، و"الفعالية الناشطة" التي تحقِّق غاية إنسانية، وتستغرق في تصور الماضي الحضاري الذي عاشه أسلافنا. وفي هذا المفهوم عاينتُ الشمولية والإنسانية المتمثِّلة بالعرفان. لقد عرف حكماؤنا القدامى القيمة الأساسية للوجود الإنساني، وتمثَّلوها في مفهومين:

1.    شمولية الإنسان وعالميَّته، ومحبة الإنسان للإنسان؛ و

2.    الارتقاء بالمستوى الإنساني إلى الحدِّ الذي يليق بكرامته ويحافظ على خصوصية ثقافته وحضارته.

أدركت أن تلك الشمولية، التي تألَّقتْ في صميم ماضينا الحضاري، حقيقةٌ دائمة لأنها توحَّدتْ مع "المثال" الكامل والوعي المنفتح اللذين يعبِّران عن جوهر الثقافة والحضارة. أدركت كيف بلغتْ حضارتُنا الماضية تخوم الوعي والمثال، وكيف توحَّدتْ مع القيمة الإنسانية التي تبقى المصدر الأول والغاية القصوى للوجود. لذا أسمح لنفسي أن أقول: إننا نتحدَّر من أصول حضارية أمدَّتْ التاريخ الإنساني بمبادئ خالدة في سجلِّ الوعي الإنساني والكوني.

تأملت المسيرة التاريخية لثقافتنا، فرأيت القيمة الحضارية والثقافية فيها تتراجع وتتقهقر: رأيت ذبول "المثال" وهو يتعثَّر في مسيرته التاريخية؛ وشاهدت ألق الشعلة الحضارية وضيائها يتضاءل حتى يكاد يخبو. وتساءلت عن الأسباب التي أدَّتْ إلى هذا التراجع أو التباطؤ، فوجدتها في الهزيمة العقلية والروحية التي ألحقتْ ضررًا كبيرًا بـ"العقل المنفتح" و"العقل المكوِّن" و"الطاقة الناشطة": لقد استسلم العقل المكوِّن والمنفتح وغرق في سباته العميق، سبات أهل الكهف.

بدأت أستشف معالم هذا السبات العميق الذي تتراقص في حلبته أطيافُ المفاهيم الخاطئة، المتمثِّلة بالقَدَرية والحتمية، من جهة، والمصير المأساوي الناجم عنهما، من جهة ثانية، فأدركت أن المجتمع الإنساني الذي يغلِّف ذاته في ثنايا المفهوم السلبي للـ"قدرية الغيبية" "يحتِّم" على وجوده "مصيرًا" مفجعًا، ينتهي إلى انطفاء مشعل حضارته وثقافته.

***

تشير هذه المقدمة الوجيزة إلى ما تعانيه ثقافتُنا من قَدَرٍ حتَّمتْه على ذاتها، ومصير جعلتْه سيرورةً لها وصيرورة. ولما كنَّا نسعى إلى خلاصٍ ينقذنا من "سلبية" هذا الفهم، يجب أن نتفهم "إيجابية" المصير الناتجة عن قَدَرٍ خالٍ من شوائب السلب، وذلك من أجل تحقيق مفهوم الحرية الملازمة للوعي.

نستطيع أن نفهم كلمة "القَدَر" على صعيدين:

1.    صعيد الفرد؛ و

2.    صعيد المجتمع

يشير مفهوم القَدَر المطروح على الصعيد الفردي إلى المعالم والمقوِّمات التي لازمتْ الفرد عن طريق الوراثة أو التربية، ليتخلَّص أو لينعتق منها إنْ كانت تشكِّل قيودًا وإشراطات، أو يسمو بها بفعل "حرية" ملازمة لجوهر كيانه. وفي هذا السياق، تصبح الحرية قوةً فاعلة في الكيان الإنساني، ترفعه إلى صعيد أعلى للوعي، وتنقذه من إشراطاته وقيوده السابقة الموروثة. وفي وفاق مع هذا المنظور، يُعَدُّ "القدر" كلَّ ما يترتَّب على الإنسان من "حتمية" حمَّل نفسه وزرها أو أغرق نفسه في إشراطاتها، وتجسَّدتْ في الأفعال التي قام بها في ماضي حياته. وتُعَدُّ "الحرية" وعيًا ضمنيًّا وكامنًا يساعد الإنسان على الانعتاق من "قَدَره". لقد زرع الإنسان أفعاله السابقة، وصارت تلك الأفعال "قَدَرًا" له، يدفعه إلى تحقيق خلاصٍ منه خلال صيرورته الحياتية المتسامية إلى الوعي.

هكذا تُعَدُّ الحرية فعلاً داخليًّا، وقوة فاعلة وملازمة لجوهر الإنسان، ووعيًا يسمو به إلى ما يجب أن يكون عليه من حكمة، وتعقُّل، وعلم، ومعرفة، وفضيلة، وإنسانية. ولما كان الوعي هو الغاية التي تنشدها الحرية، من حيث هي قوة ضمنية فاعلة، يمكننا أن نقول إن الحرية، في أصلها، فعل وعي. وهكذا نستطيع أن نعلن أن القَدَر، بمفهومه السلبي، خروج عن نطاق الوعي، يحتِّم، في خروجه هذا، نتائج مأساوية تُلزِم الإنسان، بمفهومها الإيجابي، على القيام بفعلٍ واعٍ يتمثَّل بالحرية. إذن، فالقَدَر، بمفهومه الإيجابي، إلزامٌ على الخلاص، ودافع يحثُّ الإنسان على الفعل المبدع الذي يتألَّق في حرية العقل ووعي الحقيقة. وإذا كان القدر "تحتيمًا" على الإنسان، وإلزامًا له، ودعوةً للخلاص من إشراطات وقيود زَرَعها في ماضي حياته، فإنه يحمل مفهوم الحرية، وينشد الانعتاق، ويأبى أن يكون خضوعًا واستسلامًا. فليس القدر "حتمية" تُلقى على الإنسان من وجود قائم خارج وجوده، أو من كائن متعالٍ عليه ومفارق له، بل هو حتمية ألقاها الإنسان على نفسه، وأمرٌ صادر من كيانه إلى ذاته لكي يتحرر من أغلفته المادية المؤسفة، وحرية تفعل من خلال وعي يسعى إلى التحقيق.

يشير القَدَر المطروح على المستوى الاجتماعي إلى الإشراطات العديدة التي تقيِّد المجتمع أو الجماعة، والأعمال السابقة التي أصبحت دَيْنًا عليه أو عليها و"قضاء" له أو لها. وفي هذا السياق، لا أقصد بكلمة "قضاء" عقوبةً يفرضها على المجتمع محرِّكٌ خارجي أو قوة خارقة له ومفارقة لوجوده. القضاء، من هذا المنظور، هو ما يترتَّب على المجتمع من "واجب" و"مسؤولية" حيال الأخطاء التي اقترفها، وذلك ليفكَّ إساره من القيود التي طوَّق ذاته بها، والمسؤوليات التي تهرَّب من القيام بها. ويتركز هذا "الواجب" في تنشيط الطاقة الفاعلة بإرادة حرة؛ وهذا لأن المجتمعات – كالأفراد – تزرع وتحصد. وإن ما زرعه مجتمع، في الماضي البعيد أو القريب، "لاوعيًا" متمثِّلاً بالأخطاء التي يمكن لنا إحصاؤها، لا بدَّ من أن يتحول إلى "قَدَر" يحتِّم عليه، بفعل الواجب القائم في تنشيط الطاقة الفاعلة، الفعلَ الحرِّ الذي يساعده على الخلاص من مآسي الماضي والانطلاق إلى رحاب المستقبل.

وهكذا يتجنب المجتمع العيش في الماضي أو البقاء في تضاعيفه، ويتجنب المعاناة من "ضمير" مشحون بالندم ومن وعي يلقي عليه الظلامُ ظلالَه، ويعمد إلى "تكوين" عقله من جديد، بحيث ينفتح على الحضارة الإنسانية والثقافة العالمية، وينشِّط فعاليته الخامدة. وعلى هذا الأساس، يتمثل "القَدَر" في قوة دافعة إلى الأمام، لا تسمح للمجتمع بأن يعيش في الماضي الذي "حتَّم" عليه المعاناة، وألقى على كاهله مسؤولية الخلاص من إشراطات ذلك الماضي. ويمكننا أن نشبِّه "القَدَر" بمهماز يحثُّنا على الانطلاق إلى الأمام. وعلى غير ذلك، يظل "القَدَر" قيدًا أو عبودية للمجتمع الذي يقبع في زوايا الماضي الحافل بالأخطاء المتراكمة في اللاوعي. ويشير هذا الوضع إلى خضوع المجتمع واستسلامه إلى ما "قَدَّرَ" على ذاته من إشراطات. وفي هذه الحالة، يُسقِط المجتمع إشراطاتِه الذاتية على قوى خارجة عنه، معتقدًا أنها ستصغي إليه أو ستندفع باتجاهه على نحو استجابة لخضوعه المتمثِّل في "قَدَرٍ" "حتَّم" عليه الخروج عن تقاليد موروثة وسلفية على حدٍّ سواء. وهكذا يقبع المجتمع في ظلِّ ماضيه دون أن يتقدَّم إلى الأمام بفعل تطور عقلي متنامٍ يتألَّق في الحرية والوعي.

يجدر بي، وقد بلغت هذا الحدَّ من حديثي، أن أعالج الأسباب التي تجعل المجتمعات البشرية تركد في ظلال وادي "القَدَرية"، وأبحث في العوامل التي تساعد على الخلاص من الإشراطات الماضية التي قيَّد المجتمعُ ذاته بها.

أولاً: تمثُّل الماضي على نحو عرفان وحكمة

يتَّجه المجتمع، الذي يسعى إلى الانعتاق من قيوده وتجاوز إشراطاته، إلى الماضي ليستشفَّ منه العرفان والحكمة. ويشير هذا الاتجاه إلى دراسة الماضي بدقة ووضوح، وإلى تفهُّم الأسرار العميقة القائمة فيه. ولما كنَّا نسعى إلى إدراك المغزى العلمي والثقافي والحضاري القائم في ماضينا، فإننا نتمثَّل العرفان الذي حقَّقه أسلافُنا وبنوا حضارتهم على أساسه. فقد بلغ أسلافُنا مستوى عاليًا في نطاق المعرفة، نجدها مسطَّرة في الكتابات الكثيرة والرُّقُم المكتشَفة. وإذا ما تعمَّقنا إلى باطن حضارتنا وثقافتنا القديمة، وجدنا العرفان الماثل في حكمته. وعندئذٍ ندرك أن الحضارة التي احتوتْها ثقافةٌ راقية في ماضينا لا تقلُّ أهمية عن سرَّانية الهرم المصري وعن حكمة مدرسة ذلفُس الإغريقية. وهكذا نقول: إن العودة إلى تلك الحكمة أو العرفان الكوني والإنساني لا يُعَدُّ انكفاءً أو إسقاطًا أو ارتكاسًا إلى العيش في الماضي على نحو "قَدَرٍ محتَّم" بقدر ما يعني أننا نتلمَّس مواطِن القوة الكامنة، ونبحث عن الحقيقة القائمة في ذلك الماضي، لنجدها تتوافق مع أحدث القواعد الفلسفية والفكرية المطروحة على بساط البحث في العصر الحديث. وفي هذا النطاق، ندرك أن حكماء العصر الحديث ومفكِّريه يعترفون بأهمية المشعل الحضاري القديم الذي أضاء في هذا الجزء من العالم بشمولية فكرية، وعالمية إنسانية، وثقافة راقية، وحضارة بنَّاءة. وبالفعل يدرك العلماء والباحثون المحدثون أن ثقافتنا القديمة إنسانية في جوهرها، وحكيمة في عمقها، وعلمية في أساسها، ولا تتناقض مع مبادئ الثقافات الأخرى التي تميَّزتْ بعالميَّتها وإنسانيتها وشمولها.

ثانيًا: تجاوُز الماضي المشروط

تحدثتُ في الفقرة السابقة عن عودة إلى الماضي، أشارتْ إلى رؤية الحقيقة العرفانية القائمة فيه – الحقيقة التي تجلَّتْ فيها المعرفة على نحو عقلاني – وذلك في سبيل تحقيق ثقافة عصرية. ويمكنني أن أشبِّه العودة إلى الماضي الاجتماعي الغابر بالنظرة التأملية التي يلقيها الإنسان على نفسه، هادفًا إلى تجاوز الأخطاء التي اقترفها سابقًا، وساعيًا إلى إعادة تقييم كيانه. ولما كنت من أنصار مفهوم "التجاوز" فإنني أدعو إلى عودةٍ إلى الماضي تنأى عن البقاء في إرهاصات مضامينه. وكما أن الفرد يسعى إلى الخلاص من أخطائه السابقة بفعل حرية داخلية، كذلك يسعى المجتمع إلى الخلاص من أخطاء الماضي بوعي أصيل يفعل فيه. ومع ذلك، لا أشير، لا من قريب ولا من بعيد، إلى التخلِّي عن التاريخ الماضي، حتى لو حفل بالمآسي وبالآلام الكثيرة، بل أشير إلى جهد يبذله المجتمع لكي يتجاوز محدوديته وضيق نطاقه وانغلاقه. وعلى هذا الأساس، أستطيع أن أمثِّل العيش في الماضي بـ"العمودية الساكنة" وتجاوز الماضي بـ"الأفقية المتحرِّكة".

يُعَدُّ العيش في الماضي "عطالة" تسعى إلى البقاء في موضعها على نحو جمود غير قابل للحركة وللتقدم. وهكذا تكون "العمودية" قضية سكونية تتموضع في المكان وفي الزمان. فهي

"مكانية ساكنة"، من حيث إنها لا تقبل بوجود أبعاد مكانية أخرى تزدهر فيها حضارةٌ أو ثقافة غير ثقافتها وحضارتها؛ وهي "زمانية ساكنة"، من حيث إن الزمان قد توقف عند اللحظة الخاصة بها، وامتلأ هذا الزمان بما يحتويه من حقٍّ مزعوم وقدسية مفترَضة، ولم يعد قابلاً للتقدم في صيرورته التاريخية الأفقية. وعلى هذا الأساس، يتركز التاريخ الثقافي والحضاري في مكانه المحدود وزمانه المعيَّن؛ الأمر الذي يدعو إلى تركيز الزمان المقبل في اللحظة العمودية الماضية والمكان المقبل في المكان الماضي المحدَّد والمعيَّن الذي لا يقبل بالوجودات المكانية والزمانية الأخرى، ولا يعترف بها. وهكذا يخضع الحاضر والمستقبل للماضي المحدَّد بالزمان وبالمكان، وتسيطر العمودية الجامدة على الأفقية المتحرِّكة والمتقدمة.

تشير الحقيقة إلى أن المجتمع الحضاري، الذي يتميَّز بثقافة إنسانية متطورة، يسعى إلى إقامة انسجام بين العمودية والأفقية، وإلى إنشاء جسر يصل بين الماضي والحاضر والمستقبل. والحق أن هذا المجتمع يعمل على التوفيق بين العمودية والأفقية؛ وأعني أنه يجعل العمودية متوافقة مع كلِّ نقطة من نقاط الأفقية. ولما كان العلم أفقيًّا في نموِّه، والمعرفة أفقية في تطورها، والتاريخ أفقيًّا في صعوده، والحضارة أفقية في صميم تقدُّمها، والثقافة غائية في سيرها إلى الأمام، فإن العمودية لا تستطيع الاحتفاظ بمحدودية مكانها الماضي وتعيين زمانها الماضي. وإنْ كانت هذه العمودية لا تتطابق مع كلِّ نقطة من نقاط الأفقية فذلك يدلُّ على أنها تسعى إلى إخضاع الحاضر والمستقبل للماضي، دون السعي إلى تجاوزه، وتبذل قصارى جهدها لإلغاء الأفقية، متَّهمةً إياها بالزيف أو بالانحراف والضلال. وإذا كان الواقع يشير إلى التركيز على العمودية دون الأفقية، فإن الحقيقة تشير إلى أن العمودية الجامدة تعاني من أزمة في صميمها.

إن إقامة الانسجام بين العمودية والأفقية من خلال تجاوز الماضي المشروط، والاستعداد لتحقيق مستقبل يعتمد على "تنشيط الطاقة" الفاعلة في المجتمع، قضية تشير إلى ولوج محراب الإنسانية والشمول، وإلى متابعة المجتمع تقدُّمه في نطاق سيرورته وصيرورته المتقدمة على الدوام، التي تحفظه من التخلف والدمار.

ثالثًا: إعادة النظر في الطروحات الفكرية السابقة

يعترف الباحث الدقيق بأن البعد الزمني الوحيد ماثل في الماضي؛ وهذا لأن المستقبل، من خلال الحاضر، يصبُّ في تيار الماضي. ويقرُّ هذا الباحث أن المستقبل، الذي يشاكل الماضي، يشكِّل عقبة كأداء في سبيل التطور والتقدم. والحق أن تأمل الماضي، بكلِّ ما يشتمل عليه، عملية تؤدي، في جوهرها، إلى إعادة النظر في الشوائب التي تخلَّلتْه والأخطاء المرتكَبة فيه.

وإذا كانت عمودية الماضي قد سبَّبتْ خللاً في التقدم أو التطور الأفقي فإن الأمر يقتضي تقييمًا جديدًا، لا يشير إلى الاستغناء عن التاريخ الماضي، بل يعمل على إصلاح الخلل الواقع وملء الفجوات والثغرات.

تتحقق إعادة النظر، كما يتحقق التقييم الجديد، من خلال "عقل مكوِّن" و"عقل منفتح". فالعقل المكوِّن يعدِّل العقل المكوَّن الذي نشأتْ عليه الجماعة. وكما أن العقل المكوِّن الفردي يصوغ من جديد ما دخل في صميم العقل المكوَّن من إشراطات وانفعالات، كذلك يعيد العقل المكوِّن الجماعي إنشاء العقل الجماعي المكوَّن الذي أقام قاعدته على العمودية الساكنة. وفي الوقت ذاته، يعدِّل العقلُ المنفتح الانغلاقَ الفكري الناتج عن العقل المكوَّن، بحيث إن اللاوعي الجمعي المتراكم يخضع لمحاكمة جديدة تنأى عن الانفعال. ولا يتوقف العقل المنفتح عند هذا الحد، بل يتجاوز عملية تعديل الماضي وإجراء محاكمة جديدة إلى الاقتباس من سائر التجارب الإنسانية التي استفادت منها الشعوب الأخرى، وذلك من أجل التوافق مع الحضارات والثقافات الأخرى. ومع ذلك، لا يتخلَّى العقل المنفتح عن الشخصية التي كوَّنها العقلُ المكوَّن إبان العصور الماضية، ولا يخرج العقلُ المنفتح عن نطاق "التعديل"، وذلك لكي يظلَّ محتفظًا بشخصيته. وكما أن الفرد لا يستطيع أن يتحرَّر من شخصيته ومن سيرة حياته الذاتية، بل "يعدِّل" ذاته ضمن تطور متنامٍ باتجاه التكامل، ويتجنَّب الانقسام الداخلي، كذلك يعجز المجتمع عن التجرُّد من شخصيته الماضية، وذلك في سبيل تكامل داخلي يقلِّل من أغاليط العقل المكوَّن. وعندئذٍ يمكننا أن نقول: إن العقل المكوِّن – وهو عقل منفتح – يستطيع أن يعيد النظر في أكثر الثوابت الفكرية والعقائدية التي تبنَّاها العقل المكوَّن.

رابعًا: تقويم التاريخ العام

يشير مصطلح "التاريخ العام" إلى الروايات المنقولة التي تتحدث عن الماضي، وإلى المعلومات المبلَّغة التي تتبنَّاها الأجيال الناشئة، وتتأثر بما جاء فيها. ولا أبالغ إذا قلت بأن تلك المعلومات تصبح عقلا مكوَّنًا وحقائق ثابتة يصعب أن تتقبَّل التغيير أو التعديل أو التجاوز. ولما كنت أرفض مبدأ "التغيير" في شخصية الجماعة وأتبنى مبدأ "التعديل" في شخصيَّتها، فإنني أعمل على تقويم أحداث التاريخ العام التي تخلَّلتْها الأخطاء، ودُوِّنَتْ تدوينًا انفعاليًّا ليؤخذ بها على أنها حقائق. وإذا كانت وقائع التاريخ العام قد دُوِّنَتْ، في غالبيتها، وفق رغبات فئة أو فئات معينة وانفعالاتها، فلا بدَّ أن تكون مشحونة بأخطاء عديدة. فقد تكون الأحداث المعروفة المدوَّنة عرضة للنقد والتفنيد من قبل فئات أخرى؛ وقد تكون تعبيرًا عن رغبات مَن شاءوا أن توضَع بهذه الصيغة أو تلك. وفي هذا النطاق، أرى من واجبي أن أميِّز بين التاريخ العام، الذي يسرد رواياتٍ ويروي أحداثًا قد تكون خاطئة أو مغلوطة، وبين التاريخ الحقيقي، الذي دوَّنتْ أحداثَه فئةٌ أرادتْ أن تتحدث عن الحقيقة في جوهرها، وعمدتْ إلى الاحتفاظ بتلك الحقيقة المروية للقلَّة التي استطاعت أن تحافظ عليها على مدى الأجيال. والحق أن مَن لا يتعمق في دراسة التاريخ يصعب عليه فهمُ الحقيقة المختبئة في عمق الواقع الإنساني، ويعجز عن تفسير الأحداث، الأمر الذي يدعو إلى كتابة التاريخ العام من جديد بعقل مكوِّن ومنفتح وغير متحيِّز.

خامسًا: الخلاص من اللاشعور الممتلئ باللاوعي الجمعي

ثمة اختلاف كبير بين التفسير الذي تعتمده المدرسة السلوكية في علم النفس وبين التفسير الذي تعتمده المدرسة التأليفية. ولما كنت أتوافق مع التفسير الذي يعتمده علم النفس التأليفي فإنني أفسر اللاشعور واللاوعي تفسيرًا يتناسب مع تكامل الوظائف النفسية، بحيث إن الإنسان أو المجتمع لا ينقسم في كيانه وشخصيته. وفي سبيل فهم أفضل لمفهومَي اللاوعي واللاشعور، فإنني أهدف إلى شرحهما وفق ما تراه مدرسة علم النفس التكاملي أو التأليفي.

يمثِّل اللاشعور الفردي كلَّ ما اختُزِنَ من شعور ماضٍ في باطن الإنسان. ويعود هذا الشعور الباطن، الذي يُدعى "لاشعورًا"، إلى كلِّ ما اختزنتْه الأنا من مشاعر ماضية كوَّنتْها الطبيعة عبر حياتنا. أما الشعور فهو ما تتعرَّف إليه الأنا في ذاتها في أثناء الوقت الحاضر. ويتحقق التآلف بين اللاشعور الماضي والشعور الحاضر عندما تفهم الأنا ذاتها، الأمر الذي يدعو إلى إقامة توازن بينهما. ويعني هذا التوازن أن الأنا قد تكاملت في كيانها، ولم تعدْ منقسمة إلى شعور ولاشعور متصارعين.

من هذا المنظور أتساءل: متى يصير الوعي أو الشعور لاوعيًا مظلمًا أو لاشعورًا مظلمًا؟ أجيب: يتحكَّم اللاوعي المظلم في شخصية الفرد أو الجماعة عندما تتراكم الأخطاء في الوعي و/أو اللاوعي، وعندما يعجز الفرد أو الجماعة عن معالجة هذه الأخطاء المتراكمة.

وأتساءل من جديد: هل يكون الفرد قادرًا أو الجماعة قادرةً على التحرر من أخطاء اللاوعي المتراكمة؟ أجيب: يستطيع الفرد أو الجماعة الخلاص من اللاوعي بـ"التعديل" الدائم عن طريق "العقل المكوِّن" و"العقل المنفتح"، وبإسقاط مغالطات التاريخ العام وإرهاصاته، وبعدم العيش في الماضي و/أو البقاء في نطاق العمودية الساكنة، وبالانعتاق من الأفكار التي تشدُّ الإنسان إلى لاوعيٍ تتلاعب به الانفعالاتُ المظلمة.

سادسًا: تنشيط الطاقة

تعتمد النظرية التطورية التي تحدَّث عنها العالِم الباليونتولوجي تيار دُهْ شاردان على مبدأ تنشيط الطاقة أو دَفْعِ الطاقة إلى الفعل. وفي رأيه أن الطاقة هي "باطن الأشياء"، أي القدرة التي تنتقل أو تتحول من حالة إلى حالة أفضل في عملية التحول، وذلك بفعل حرية داخلية. ولما كان التطور يشير إلى تطور "قبل" الإنسان وتطور "بعد" وجوده، فقد أكَّد على "تفعيل" الطاقة وتنشيطها في شوطَي التطور. ففي الوضع السابق للإنسان، كان باطن الأشياء، المهيَّأ بطاقة مُلازمة، يتميَّز بفعل أكيد، هو حرية تهدف إلى الانتقال من الانغلاق والانطواء والانثناء إلى الانفتاح والانبساط. وفي الوضع الذي تهيَّأ لاستقبال الإنسان، أصبح الكائنُ البشري الطاقةَ الجاهزة لتطورٍ متقدِّم إلى مستويات أمْثَل للحرية وللوعي.

تؤكد هذه النظرية على وجودِ ظاهرٍ للأشياء وعلى باطن لها. وتجعلنا هذه المعرفة نعترف بأن وجود الظاهر – وهو غلاف للباطن، أو بالأحرى انطواء له وقيد – "قَدَرٌ" يحتِّم على المادة المتجسِّدة في كتلةٍ الخلاصَ من انثنائها ضمن غلاف بفعل حرية مُلازمة لها. ولذا كان على الطاقة أن "تنشِّط" ذاتها في مسيرتها التطورية لتحقق مستويات أعلى من الوجود والكيانات. وعلى هذا الأساس، نفهم الطاقة الناشطة والفاعلة في عملية التطور والارتقاء.

عندما ننتقل إلى الوضع الإنساني، نجد أن العملية ذاتها تتكرَّر على نحو مبايِن: الطاقة مازالت تفعل بنشاط يحرَّض على الدوام، داخليًّا وخارجيًّا، لكي يبلغ الكائنُ البشري درجاتٍ أعلى في سيرورة ظهور الوعي الكامن. ويتمثَّل هذا الوعي في الحرية الإبداعية الفاعلة من أجل تجاوز الإشراطات والقيود والأغلفة المتجسِّدة في متعضِّية. وهكذا يحقق الكائن البشري شمول وجوده أو كونيَّته، ويتَّحد وعيُه وحريتُه مع الوعي الكلِّي الفاعل في الوجود.

تشير هذه المقدمة الوجيزة لمفهوم "تنشيط" الطاقة لتكون قدرة فاعلة إلى أن مسألة التنشيط تنسحب أيضًا على المجتمع البشري. والحق أن المجتمع لا يرتقي سلَّم التطور إنْ هو أغرق ذاته في أمور لا تتصل بالحياة أو بالغاية المرجوَّة من الوجود. وإن عدم تنشيط الطاقة حريٌّ بأن يُبقي المجتمع البشري في وضع قَدَريٍّ يحتِّم استسلامه لمعطيات الكتلة التي تميل، بفعل مقاومتها السالبة الناتجة عن عملية الانطواء، إلى المحافظة على عطالتها، تمامًا كما تميل العمودية إلى الثبات في الزمان والمكان. وعندئذٍ يفقد المجتمعُ الإنساني قدرته الديناميَّة والحركية، ويُسقِط عجزه على أسباب لا تمتُّ إلى وجوده أو إلى الوجود الكلِّي بصلة.

يتمثل تنشيط الطاقة أو تفعيلها في دأب متواصل على الخلاص من أغلفة المجتمع القديم وإشراطاته. وهكذا تقف فعالية الطاقة مقابل عطالة القَدَرية، بحيث تكون هذه الفعاليةُ حريةً تهدف إلى المزيد من الوعي والشمول. وإن اختزال هذه الفعالية إلى مفهوم قَدَري قضيةٌ تعني بقاء الطاقة ساكنةً لا تحقِّق ديناميَّة حركتها ووجودها الذاتي. والحق أن تنشيط الطاقة مفهوم يشير إلى ديناميَّة داخلية لا تستمد، كما تستمد الميكانيكية، حركتها من خارجها. وعلى غير ذلك، تتطلَّع القَدَرية إلى حركة تأتيها من محرِّك خارجي. ولما كانت الحياة قد سارت في موكب التطور بفعل حركة داخلية – هي باطن – فقد تجاوزتْ خارجها الذي يمثل القَدَرية، بأغلفتها وإشراطاتها وقيودها. وعلى هذا الأساس، تكمن فعالية المجتمع في ديناميَّته الكامنة في طاقة قادرة على تنشيط ذاتها بفعل وعي كامن.

سابعًا: فلسفة الحضارة

يتركز مفهوم الحضارة في الطاقة البشرية الفاعلة وفي التنشيط الدائم والمثابِر للقدرة العقلية والنفسية. ولئن كانت الحضارة تعتمد، في واقعها، على معطيات الطبيعة، من ماء وفير ومناخ معتدل وأرض زراعية خصبة، لكن العنصر البشري "المتحدِّي"، وفق اصطلاح أ. توينبي، يشكِّل العنصر الفعَّال في مضمار التقدم والازدهار. والحق أن العنصر البشري يشتمل على ما هو أبعد من المقوِّمات المادية وأهم. إنه يشمل العقل المكوِّن، والعقل المنفتح، والفعالية الناشطة. وبالفعل تنحسر الحضارة في الوقت الذي ينحسر العنصر البشري والفعالية الناشطة. وهكذا يكون التخلف، بأنواعه، نتيجةً لما يصيب العنصر البشري من تخلُّف عقلي ونفسي ناتج عن عطالة الطاقة. وعلى هذا الأساس، لا يتميَّز العقل السَّلَفي – أي العقل المكوَّن وفق أخطاء التاريخ الماضي – بحضارة وثقافة.

عندما يبلغ المجتمع درجة عالية في سلَّم الحضارة والثقافة، يتوطَّد وجودُه على ركائز ثابتة يصعب تدميرُها والقضاء عليها. وكما يقول غبرِيِل تارد: ينهزم الشعب الغازي أمام حضارة الشعب المغلوب وثقافته؛ ولا يستطيع الشعب القاهر، أي الغازي، المتخلِّف في مضمار الحضارة، والغارق في انفعال تفكيره، أن يهيمن على الشعب المحتل، مهما بلغ عنفُه وسيطرتُه، لسبب هو أنه شعب حضاري. وبالفعل يعمد الشعب الغازي المتخلِّف إلى اقتباس الحضارة التي يتميَّز بها الشعبُ الذي فقد جزءًا من إقليمه. وكما تنصُّ نظرية التقليد، التي يشرحها غبرِيِل تارد، تنتقل الحضارة من الشعب المتطور بعقله وإنسانيته إلى الشعب المتخلِّف بحضارته وإنسانيته؛ وعندئذٍ تتوافر الغلبة للشعب الحضاري. وعلى هذا الأساس، يخبرنا التاريخ كيف اقتبستْ القبائل البربرية، التي غزت أوروبا في القرن الخامس الميلادي، حضارة الشعب المقهور، وكيف قلَّدتْه وحملتْ مشعل حضارته وثقافته. ويخبرنا التاريخ أيضًا كيف أن جنود الجيش الألماني الذين احتلوا فرنسا تورعوا عن تدمير متحف اللوفر أو سرقة بعض محتوياته أو لوحاته خوفًا من أن يُتَّهَموا بالـ"بربرية"؛ فقد أدرك الجيش الألماني أنه يحتل بلدًا حضاريًّا، وهو عاجز عن إلحاق الأذى بقيمة ثقافته المتطورة وبعظمة ما توصَّل إليه عقلُه الحضاري.

يشير ما تقدَّم إلى أن الشعب الحضاري يقلِّد ولا يحاكي. فقد استطاع الشعب الياباني المتحضِّر أن يقلِّد الشعوب الأخرى، فاقتبس وطوَّر وأبدع. وعلى غرار ما فعل الشعب الياباني المتحضِّر، تقتبس الجماعةُ من غيرها، وتقلِّد وتطوِّر وتبدع. وهكذا تكون الحضارة فعلاً ديناميًّا. لذا تستمد الحضارة تطورها وإبداعها من ديناميَّة ذاتها، على نحو يحافظ على خصوصيتها، تمدُّها إلى غيرها وتأخذ وتتفاعل.

جدير بي، وقد طرحت مفهوم "التقليد"، أن أقيم تمييزًا بينه وبين "المحاكاة": يُعَدُّ التقليد عملية عقلية، يقتبس المجتمع، بفعلها الديناميِّ، مآثر حضارة أخرى، ويطوِّرها تطويرًا يتناسب مع معطيات وجوده، ويبدع في عملية الاقتباس. وهذا يعني أن الشعب الحضاري يضيف إلى ما اقتبسه، أي قلَّده، الإمكاناتِ والقدراتِ الحضارية الساكنة التي يتميَّز بها. لذا لا يؤدي التقليد – الذي هو اقتباس – إلى تقدُّم يحرزه الشعب المقلِّد ما لم يكن هذا الشعب يتميَّز أصلاً بطاقة خلاقة، يُحتمَل أن تكون ساكنة أو كامنة في ثنايا وجوده أو أغلفته. أما المحاكاة فهي تقليد زائف، أو هي ميكانيكية مجردة من العقلانية. فكما أن الطفلة تحاكي والدتها في مجال التبرُّج، أو تحاكي معلِّمتها، عندما تتظاهر بأنها تقوم بدور تعليم الفتيات الأخرى الأصغر سنًّا، كذلك "يحاكي" المجتمعُ الذي يقبع في غياهب العطالة المجتمعَ الحضاري المتقدِّم، دون أن يتفاعل معه.

ثامنًا: الثقافة والدولة

لما كانت الدولة هي الصورة المثلى للمجتمع الحضاري، فإنها تحوي، في ذاتها، جميع الفعاليات والإمكانات. وتأبى هذه الفعاليات تنشيط إمكاناتها في ظلِّ الفردية. وفي هذا الوضع، يعجز المجتمع عن تمثيل ذاته في دولة أو جعل حضور ثقافته في إطار جامع، شامل وفعَّال. وعلاوة على هذا، يعجز المجتمع عن تشكيل دولة في ظلِّ تاريخ لم يعبِّر عن وجود مفهوم الدولة، فظلَّ ساكنًا في مفهوم الجماعة أو الأمَّة؛ وهذا لأن الفعل الفردي لا يتحوَّل إلى فعل أو نفع اجتماعيين إلا في نطاق الدولة التي هي الظاهرة الأسمى للمجتمع. إذن، فالفرد و/أو المجتمع الذي لا يرسم لذاته صورة ثقافية وحضارية ضمن إطار الدولة، يبقى فردًا و/أو مجتمعًا ينتمي إلى تقاليد وأعراف وطقوس تنأى به عن نطاق الثقافة والحضارة؛ وفي هذه الحالة، يعجز عن تكوين الدولة، وهو مازال عالقًا بفرديته التي ترتسم على صفحة الانتماء إلى الطقوس أو الشعائر التي تقضي على مفهوم الحضارة و/أو الثقافة.

في الدولة تنصهر الفردية، وينحلُّ معها التاريخ الذي يحمل في ثناياه عقيدة عمودية ثابتة، لا تعبِّر، لا من قريب ولا من بعيد، عن حضارة الدولة وثقافتها؛ في الدولة تبلغ شخصيةُ المجتمع أرقى درجات كمالها؛ في الدولة تسجَّل فعاليات الأفراد، وأعمالهم، ومآثرهم، وإبداعاتهم، وقدراتهم، ومُثُلهم؛ ومن الدولة يستمد الأفراد وجودهم الاجتماعي، والإنساني، والفكري، والتربوي، والنفسي، والحضاري، والثقافي؛ وفي الدولة يبلغ "المثال" المعبِّر عن الروح الإنسانية ذروةَ تكامل فعالياته.

عندما نتأمل المقولة التي تقوم عليها مبادئ الدولة، نجد أن المجتمع الذي يعاني من الفردية المشبعة بمفهوم تاريخي يعتمد العمودية دون الأفقية، والعقل المكوَّن دون العقل المكوِّن، والعقل المنغلق دون العقل المنفتح، والآلية السكونية دون الديناميَّة المتحركة والمتطورة، يُقصي ذاتَه عن مضمار الحضارة والثقافة. وعندما يتألَّق مجتمع الدولة في ضياء الشخصية والكيان، ويتجاوز مفهوم الأمة، يتمثَّل الحضارة والثقافة في نطاق الدولة. وعلى هذا الأساس، أقول: لا كيان للفرد أو للجماعة أو للأمة إلا في إطار الدولة؛ وهذا لأن الدولة هي فلسفة الإنسان الحضاري و"روح" الشعب الذي يسعى جاهدًا لتحقيق كيانه الإنساني والثقافي.

وإذا كان التاريخ، في لحظة من لحظات حضور "المثال"، قد هيَّأ لمجتمع الدولة حكيمًا أو مصلحًا ينطلق بهذا المجتمع إلى انفتاح وتكوين جديد، فلأن الضرورة تقضي بأن يتخلَّص الشعب من مآزق ماضيه، ويسعى جاهدًا إلى تحقيق ثقافة الحضارة. وعندئذٍ ينبغي على الجماعات التي أغرقتْ ذاتها في خضمِّ الفردية والعمودية والطقسية، وظلَّت قابعة في ماضٍ لم يحفل إلا بالمعتقدات التي تنأى بالمجتمع عن حقل وجوده – إذ لم تسجِّل هذه المعتقدات شيئًا يُذكَر عن تاريخ الشعب المعبِّر عن حقيقة الدولة – أقول: ينبغي عليها أن تصغي إلى هذا الحكيم أو المصلح الاجتماعي–الإنساني، وتأخذ بالمفاهيم والمبادئ التي يعلنها من أجل بناء دولة ترتكز قواعدُها الحضارية على جماعية الشعب ومفهوم المُواطنة، وليس على ذاتية أفراده و/أو قومياته و/أو طوائفه.

هكذا تكون الدولة هي القاعدة الأساسية لبناء ثقافة الحضارة، والنطاق الذي تنصهر فيه الفردية لتنبثق، من جديد، في شخصية أو كيان يحقِّق الغاية التي من أجلها يوجد الأفراد ويتآلفون في روح جماعية متكاملة في "مثال" الحياة الاجتماعية المتمثِّل بالمواطَنة.

وهكذا تكون الدولة هي "روح" المجتمع، وهي تسعى إلى تحقيق ذاتها من خلال أفراد أحرار، عقلانيين وفعالين، يتجاوزون الأهواء التي تتلاعب بهم على نحو نشوة غيبية، إلى الفعالية الناشطة في المواطَنة. وهكذا تكون الدولة هي النطاق الذي يحقِّق فيه الفردُ إنسانيتَه وكيانَه في اجتماعية وجوده.

تاسعًا: المصير

تشير كلمة "مصير" إلى استمرارية سيرورة الفعل الإنساني، الديناميِّ والفعَّال. وعلى غير ذلك، لا تشير هذه الكلمة إلى "نتيجة" أو "نهاية" تتصل بالشؤم أو باليأس، أو حتى بالتفاؤل المؤقت؛ فمثل هذه النتيجة أو النهاية، الحافلة بالاستسلام والخنوع، ترتبط بالقَدَرية أو الحتمية التي لا تحمل مفهوم الحرية في أحشائها. والحق أن "المصير" لا يعني بلوغ حدِّ اللارجوع، أو التلاشي في نهاية مأساوية أو شبه مأساوية، أو استسلامية، أو ناجحة مؤقتًا، أو في عدم القدرة على "التكوُّن" من جديد.

إذا كان "المصير" يتمثل في فترة معينة تشير إلى حصاد الأفراد أو الشعوب لما زرعوه في الماضي على المستوى الاجتماعي، فإن المستقبل – أي سلسلة الوجودات المقبلة – يرتبط أو ترتبط عضويًّا بما زُرِعَ في الماضي. وهكذا "يحتِّم" المجتمع أو الفرد على ذاته "قَدَرًا" سيصير إلى "تحوُّل" في المستقبل.

عندما يدرك المجتمع مفهوم "المصير" المعبَّر عنه في صورته الحقيقية، يسعى جاهدًا إلى العمل على مستويين:

أ‌.       مستوى الماضي، وهو المستوى الذي يتخلَّص فيه المجتمع من البذور السيئة التي زرعها؛ و

ب‌.  مستوى الحاضر، وهو المستوى الذي يطور فيه المجتمع بذور ماضيه الحسنة ويُلغي أو ينهي بذور ماضيه السيئة، فيزرع بذورًا جديدة نافعة وصالحة. وهكذا يزرع المجتمع "مصيره" بذاته، وبالتالي، يبدع "تحولاً" في سيرورة "مصيره".

ولما كان "التحوُّل" يتمثَّل في المرحلة الأساسية والهامة لإحداث "قَدَر" جديد، هو "مصير" جديد يلي الأفعال الديناميكية المزروعة، فإن المجتمع أو الفرد يكوِّن وجودًا قادرًا على تجديد ذاته من خلال "تحوُّل" أو "تعديل" يصلح الماضي، ويتجاوزه، ويرسم صورة الحياة الجديدة التي تقوم على العقلانية المستنيرة.

خلاصة

تُعَدُّ الثقافة، ممثَّلةً بالحضارة، فعلاً ديناميًّا ينبثُّ في التاريخ الخاص للمجتمع وفي التاريخ العام للعالم وللكون. وتتمثل هذه الثقافة في حضارة لا تتلاشى، بل يظل مشعلُها مضيئًا في كلِّ الأجيال والعصور المتعاقبة. ويُعَدُّ المصير تحولاً أو تعديلاً دائمًا للماضي، وقوة فاعلة باتجاه المستقبل. لذا كان المصير تجددًا دائمًا وصيرورة لا تنقطع، يحصد المجتمع من خلالها ما كان قد زرعه على نحو ثقافة وحضارة. وعندما يزرع الشعب عقلانية وجوده، "يقدِّر" على نفسه مصيرًا يتمثل في عقلانية هذا الوجود ذاته. ومثل هذا المصير يدوِّن ذاته في سجلِّ تاريخ العالم. وهكذا يزرع المجتمع مصيره بيده، ليكون انعتاقًا من المفهوم السلبي للقَدَر والحتمية.

*** *** ***

تنضيد: دارين أحمد

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود