|
الفكر
إذ يتحوَّل بالضرورة عنفًا* كانت الجريمة الأولى (قابيل
وهابيل) مجرد تتويج لـ"فكرة" اعتبرت أن
"الآخر" هو العدو الذي يجب أن يختفي. يخطئ
البعض، إذ يتصور حدًّا فاصلاً بين الفكر
والفعل؛ فالفعل – أيًّا كان – هو ثمرة للفكر.
وتتضح هذه الفكرة بوضوح في مجال تسييس الدين
أو تديين السياسة، حيث يصبح الفكر حديًّا
ومطلقًا، ولا يعرف أيَّ قدر من النسبية؛ ومن
ثَمَّ يكون الفكر الآخر مرفوضًا رفضًا مطلقًا.[1]
ولهذا فإننا نعتقد أن الإصبع الذي يضغط على
الزناد ليطلق النار على "الآخر الكافر"
هو مجرَّد مضغوط عليه بفكرة تلبَّستْه،
تصوَّر من خلالها أنه "المؤمن"، وأن
الآخر "الكافر" يجب أن يختفي كشرط لكي
تعلو رايات الإسلام. الفكر، إذن، هو المصدر
والمحرِّض، والمبرِّر، والضاغط، بل والفاعل
الأصلي في الفعل الإرهابي. هذه الفكرة قد
تحتاج إلى إثبات؛ وسنحاول فيما يلي إثباتها،
باحثين عن أبواب "الفكر" التي يتسرَّب من
خلالها أو يتدفق "الفعل" الإرهابي. 1. فكرة جماعة المسلمين تقال هكذا، بدلاً من "جماعة
من المسلمين". وحذف "من" لا يأتي عفوًا
أو سهوًا أو اختصارًا؛ ذلك أن "من" تعني
لغة التبعيض، أي أن يصبح الشيء "بعضًا"
من شيء أكبر. فجماعة "من" المسلمين تعني
جماعة ترى رأيًا، أو تتخذ موقفًا مميزًا عن
بقية المسلمين. أما ادِّعاء البعض بأنهم "جماعة
المسلمين"، فإنه يعني، كما يقولون، أنهم
"الحلُّ والعقد في الإسلام، وأن مَن
والاهُم فقد والى صحيح الدين، ومن خالفهم،
خالفه؛ ومُفارِقهم مُفارِق الإسلام"[2].
ولعل هذه الفكرة تتضح عندما نطالع عبارة
لشكري مصطفى ("التكفير والهجرة") تقول:
"إن الإسلام ليس بالتلفُّظ بالشهادتين،
لكنه إقرار وعمل. من هنا كان المسلم الذي
يفارق الجماعة المسلمة كافرًا."[3]
فقط نلاحظ أن اسم جماعته هو "الجماعة
المسلمة". ومن هنا فقد اعتبر أن كلَّ مَن
لم ينضم إلى جماعته كافر. والعنف يأتي بعد ذلك
سهلاً بالاستناد – في خطأ فادح – على الحديث
الشريف: "ومن خرج على الجماعة فاضربوه
بحدِّ السيف."[4]
وفي اعتقادنا أن الحديث الشريف، إذ يشير إلى
"الجماعة"، فإنه لا يقصد جماعة بعينها من
المسلمين، كبرت أو صغرت، وإنما كان يقصد
الرأي العام المسلم في جملته. 2. التفسير النصِّي
للقرآن والحديث يقول علي بن أبي طالب: "إن
القرآن لا ينطق بنفسه وهو مكتوب، ويحتاج إلى
مَن ينطق به"؛ ثم يقول: "القرآن حمَّال
أوْجُه." والحقيقة أن البعض – وخاصة
الخوارج – قد فسَّر القرآن تفسيرًا نصيًّا،
ولم يعتمد على دراسة أسباب التنزيل والوقائع
المرتبطة به؛ فأدى ذلك بِهِم إلى أفعال مشينة.
فلما عُرِضَتْ عليهم الآية الكريمة التي تقول
على لسان نوح عليه السلام: "وقال نوح لا تذر
الأرض من الكافرين ديارًا إنك إنْ تذرهم
يُضِّلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا"،
أفتوا بقتل أطفال خصومهم حتى لا يشبُّوا
كافرين ويلدوا كفارًا. أما الآية الكريمة: "قاتلوهم
يعذِّبهم الله على أيديكم وينصركم عليهم
ويَشْفِ صدور قوم مؤمنين"، فقد فسَّروها
بضرورة قتل الخصوم وتعذيبهم والتشفِّي
بقتلهم وتعذيبهم. ويروي ابن حزم في كتابه الفصل
أن الصحابي عبد الله بن خباب كان يمضي وزوجته
في طريق به جماعة من الخوارج، فعلَّق المصحف
في عنقه ومضى مطمئنًا، فقبضوا عليه قائلين:
"الذي في عنقك يأمرنا بقتلك"؛ وسألوه:
"ماذا تقول في خلافة أبي بكر؟" فقال: "خيرًا."
"وماذا تقول في خلافة عمر؟" قال: "خيرًا."
"وماذا عن عثمان؟" فقال: "خيرًا." ثم
سألوه: "ماذا تقول في عليٍّ وفي قبول
التحكيم؟" فقال: "إن عليًّا أعلم بكتاب
الله منَّا." فقرَّبوه من النهر بمرأى من
زوجته وذبحوه." وكان صحابي آخر هو واصل بن
عطاء يمرُّ بالطريق ذاته – وقد عرف بقصة ابن
خباب –، فلما اقترب هو وجماعته سألوه: "من
أنتم؟" أجاب: "مشركون يستجيرون بكم."
فقالوا: "ابتعد بعيدًا." فقال: "ألم
تسمعوا بالآية الكريمة "وإنْ أحدًا من
المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله"؟"
فتلوا عليهم بعضًا من القرآن وقالوا: "ارحلوا."
فقال واصل: "ألم تسمعوا ببقية الآية، فهي
تقول "ثم أبلغه مأمنه". فأرسلوا معهم
حراسًا حتى أبلغوهم مأمنهم." ولعل ابن حزم
قد حرص على إيراد هذه المفارقة المثيرة
للدهشة ليوضِّح الخطر الفادح من التفسير
النصِّي. فالذي علَّق المصحف في عنقه ودافع عن
الخلفاء الراشدين قتلوه، والذي ادَّعى أنه
مشرك تركوه، بل أبلغوه مأمنه! ولعل أكثر من عانى من التفسير
النصِّي كان علي بن أبي طالب. فعندما رفع جيش
معاوية المصاحف طالبين التحكيم، رفض علي
إيقاف القتال وصاح قائلاً: "يا عباد الله،
امضوا إلى حقِّكم وقتال عدوِّكم. فمعاوية
ورجاله ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن؛ فأنا
أعرَف بهم. ويحكم ما رفعوها إلا مكيدة وخديعة!"
فإذا بمسعد بن فداك التميمي وزيد بن حصين،
ومعهما مجموعة من الناس، يصيحون فيه: "أجِبْ
إلى كتاب الله، وإلا دفعنا برمَّتك إلى
القوم، وفعلنا بك ما فعلنا بعثمان." وإذ
قَبِلَ عليٌّ التحكيم، وكان ما كان، انقلبوا
ضدَّ عليٍّ، واتهموه بالكفر لأنه قَبِلَ
التحكيم بينه ومعاوية، "بينما الله قد أمضى
حكمه في معاوية ومن معه"[5].
وهكذا فإن أصحاب التفسير النصِّي (الذين
أصبحوا فيما بعد الخوارج) قد اتخذوا موقفين
متناقضين: قبلوا التحكيم ثم رفضوه، وكفَّروا
مخالفيهم في الحالين، مستندين، في كلِّ مرة،
إلى تفسير مخالف للآية "إن الحكمة إلاَّ
لله". وفي العصر الحديث، يسري أيضًا
أسلوبُ التفسير النصِّي. فحسن البنا فسَّر
الحديث الشريف "فاضربوه بحدِّ السيف"
على هواه، وضرب خصومه من أعضاء جماعته. وشكري
مصطفى برَّر العنف والقتل بتفسير نصِّي للآية
الكريمة "بل نقذف بالحق على الباطل فيدفعه
فإذا هو زاهق"، فقال: "إن الله لم يضع
الحقَّ على الباطل، بل يقذفه، أي بقوة وبشدة،
فإذا هو زاهق."[6] بل إنه يفسِّر الآية الكريمة
"وما خلقت الأنس والجنَّ إلا ليعبدون"
تفسيرًا مثيرًا للدهشة؛ فهو يرفض على أساسها
مبدأ تعلُّم العلوم الحديثة، فيقول: "أيما
ذرة تعلُّم يُقصَد بها غايةٌ غير غاية
العبادة فإنها ذرة خارجة عن العبودية، مضافة
إلى التألُّه في الأرض بغير الحق. فالأمة
الإسلامية المقبلة أمَّة أمِّية، لا تكتب ولا
تحسب إلا بقدر الحاجة، تمامًا كما كانت أمَّة
رسول الله؛ فقد كانت جماعة رسول الله لا
تتعلَّم لمجرَّد العلم، ولا تتعلَّم للدنيا،
ولكن للعبادة."[7] وبهذا، فإن أيَّ قصد لفهم
النصِّ الديني أو لتفسيره يتعيَّن عليه، كيلا
يخطئ، أن يتفهم أسباب التنزيل، ظروفه،
والوقائع المتعلقة به؛ وإلا اقتادنا هذا
التفسير النصِّي إلى أخطاء كتلك التي تحدثنا
عنها. 3. الخلط المتعمد بين
الدين والفكر الديني فالدين إلهيٌّ، مطلق
الصحة، والفكر الديني إنساني، نسبي
الصحة؛ والخلط بينهما يُضفي على الرأي مسحة
مطلقة، تجعل صاحبه متحصِّنًا بادِّعاء أنه
صحيح الإسلام، وأن مخالِفَه مخالِفٌ للإسلام.
وفي هذا يقول ابن المقفع: "إن الدين يَسْلَم
بالإيمان، والرأي يثبت بالخصومة. فمَن جعل
الدين خصومةً فقد جعله رأيًا، ومَن جعل الرأي
دينًا فقد جعله شريعة، ومَن كان يشرِّع الدين
لنفسه فلا دين له." ومثل هذا الخلط كثير في
كتابات الجماعات المتستِّرة بالدين؛ وهو
مجرد محاولة إضفاء حصانة على رأي بشري،
تحميه من الانتقاد، وتفرضه على الناس فرضًا
بزعم أنه صحيح الدين. ولعل أوضح نموذج لمحاولة الخلط
هذه هو قول الأستاذ حسن البنا، متحدثًا عن
منهاج جماعته: "على كلِّ مسلم أن يعتقد أن
هذا المنهج كلَّه من الإسلام، وأن كلَّ نقص
منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة."[8]
فنتأمل فقط هذه العبارات وما تحتويه من
مطلقات: "على كلِّ مسلم"، "كلَّه
من الإسلام"، "كلَّ نقص منه نقص من
الفكرة الإسلامية الصحيحة"؛ ثم فلنتأمل
ردَّ الفعل عند صاحبها إذا حاول أحدٌ انتقاد
منهج الجماعة، أو رفضه، أو معارضته: المنطق
الطبيعي هو اتِّهامه بالكفر! وقد وصل الأمر في
الخلط بين الدين والفكر الديني أن الأستاذ
صالح عشماوي (أحد أقطاب الأخوان) كتب يقول: "إن
أيَّ اضطهاد للأخوان هو اضطهاد للدين ذاته."[9]
وهكذا يكون تكفير خصوم الجماعة سهلاً. وعندما يصل أيٌّ من هؤلاء إلى
الحكم فإنه يحاول أن يكسو نفسه بحصانة غير
مفترَضة. فالحكم يكون "حكم الإسلام"،
وليس حكمًا شخصيًّا أو حكم جماعة؛ ومن ثَمَّ
فإن كلَّ مَن يحاول انتقاد هذا الحكم أو
معارضته أو الاعتراض على أيٍّ من قراراته
يكون منتقدًا أو معارِضًا أو معترضًا على
الإسلام ذاته. ولسنا في حاجة إلى مزيد من
إيضاح لمدى خطأ هذه الفكرة وخطرها. 4. تسييس الدين وتديين
السياسة وهو الوجه الآخر للخلط بين
الدين والفكر الديني. لكن المشكلة هنا تزداد
تفاقمًا: فالسياسة ترتدي ثيابًا دينية،
والفكرة السياسية تصبح فكرة دينية، وتختلط مع
الدين، فتحاول أن تتخذ صفة "المطلق" –
كامل الصحة؛ ثم "فمَن والاه فقد والى صحيح
الدين، ومَن خالفه فقد خالف صحيح الدين"،
كما جاء. ومن هنا يتحول التنظيم الذي يعمل على
تسييس الدين – بالضرورة – إلى ممارِس للعنف.
ألم ترَ كيف أكَّد حسن البنا أن منهاجهم كلَّه
من الإسلام، "كل نقص منه نقص من الفكرة
الإسلامية" ذاتها. وهنا لا مجال أمامنا سوى أن نقف
في ميدان السياسة، مستسلمين أمام ما يطرحون
من أفكار. فإن انتقدنا أو اعترضنا، كان الردُّ
هو الاتهام بأننا ضد الإسلام الصحيح! ومن
ثَمَّ يأتي التكفير وما تلاه من عنف. والعنف
هنا يستدعي نفسه، وليس في حاجة إلى مَن
يستدعيه؛ فهو يتولد – تلقائيًّا – من الفكرة
ذاتها؛ وإلا فكيف نبرِّر هذا الحديث العنيف
والمتشدِّد الذي يتفجر منذ الأيام الأولى
للمحاولة الأولى لتسييس الدين (جماعة الإخوان).
فحسن البنا يقول شعرًا: الدين شيء والسياسة غيره * دعوى
نحاربها بكلِّ سلاح[10] وواحد آخر من مؤسِّسي الجماعة
يهدِّد قائلاً: لنجرينَّـها دمـاءً جـد ثائرة *
وثورة الحقِّ لا يُدرى لها أمد أو يرجع الشرعُ دستورًا
لأمَّتنا * فليحذرِ القومُ إني منذر صعد[11] وفكر العنف والتهديد به – بل
وممارسته – تنبع من تصور "السياسي" أنه
وحده يمتلك صحيح الدين، وأنه مفوَّض أو
مكلَّف بفرضه؛ فإن لم يفعل فقد أصبح غير مكتمل
الإيمان. فحسن البنا يقول: "أتحسب أن المسلم
الذي يرضى بحياتنا اليوم، ويتفرَّغ للعبادة،
ويترك الدنيا والسياسة للعجزة الآثمين،
يُسمَّى مسلمًا؟ كلا، إنه ليس بمسلم."[12]
وهكذا فإن مسلمًا متفرغًا للعبادة ليس بمسلم! وتمتلك الجماعة الوهم بأنها
تمتلك الحقَّ في فرض أفكارها على الناس رغم
أنوفهم (أليست هي صحيح الدين؟!). ولعل هذا
الوهم يتضح بجلاء من مقال كتبه عبد الرحمن
الساعاتي (والد حسن البنا) في أول عدد من مجلة النذير
التي أصدرتْها الجماعة. فلنقرأ: "استعدوا
يا جنود، وليأخذ كلٌّ منكم أهبته، ويعدَّ
سلاحه، ولا يلتفت منكم أحد، وامضوا إلى حيث
تؤمَرون." ثم يقول: "خذوا هذه الأمة برفق؛
فما أحوجها إلى العناية والتدليل. وصِفوا لها
الدواء؛ فكم على ضفاف النيل من قلب مريض وجسم
عليل. واعكفوا على إعداده في صيدليتكم،
ولتقمْ على إعطائه فرقةُ الإنقاذ منكم."
ولكن: "إذا الأمة أبَتْ فأوثقوا يديها
بالقيود، وأثقلوا ظهرها بالحديد، وجرِّعوها
الدواء بالقوة؛ وإن وجدتم في جسمها عضوًا
خبيثًا فاقطعوه، أو سرطانًا خطرًا فأزيلوه...
استعدوا، يا جنود. فكثير من أبناء هذا الشعب
في آذانهم وقر، وفي وعيهم عمى."[13] تأملوا هذا النوع من الممارسة
السياسية: هم يصفون الدواء، وهم أيضًا
يعدُّونه في "صيدليتهم"، وهم كذلك
يفرضونه على الأمة؛ فإن أبَتْ فالويل لها!
وتأملوا أيضًا هذا الذي يسمونه في أدبياتهم
"الاستعلاء بالإيمان". فهُم فوق الشعب؛
وهم يفرضون إرادتهم عليه بالقوة، حتى لو
أثقلوا ظهره بالحديد. والأمر منطقي، ماداموا،
كحزب سياسي، يعتقدون امتلاكهم وحدهم مفاتيح
الصيدلية، أي صحيح الدين؛ والاستعلاء على
الشعب أمر مفترَض في أدبياتهم، بل هو طبيعي.
استمعوا إلى سيد قطب: "إنه استعلاءُ الذي
ينظر من عَلٍ إلى القوة الطاغية، والقيم
السائدة، والجماهير المتجمعة على الضلال.
فالمؤمن يكون دائمًا في حالة استعلاء إزاء
كلِّ شيء، وكلِّ وضع، وكلِّ قيمة، وكلِّ أحد."[14]
بل إن سيد قطب يحتقر كلَّ شيء: "إن المؤمن هو
الأعلى، الأعلى سندًا ومصدرًا. فما تكون
الأرض كلُّها، وما يكون الناس، وما تكون
القيم السائدة في الأرض، والاعتبارات
السائدة عند الناس؟"[15]
بل هو يرفض بوضوح "شعارات القومية والوطن
والشعب والطبقة وتقرير الشرائع باسمها،
والمطالبة بالتضحية في سبيلها، وإقامة أصنام
تُعبَد من دون الله"[16].
وبهذا يصبح من المنطقي أن يكون العنف والقتل
جزءًا من أساسيات فكر الجماعة. فبصراحة تامة،
يؤكد حسن البنا: "الأخوان يعلمون أن أول
مراتب القوة قوة العقيدة والإيمان، ثم يليها
قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد
والسلاح."[17] بل إنهم يعتبرون "القتل"
جزءًا من أدوات عملهم السياسي. ففي مضبوطات
قضية جماعة الأخوان المسماة قضية "سيارة
الجيب" عثر المحقِّق (المستشار عصام حسونة،
وزير العدل فيما بعد) على ورقة تقول: "إن
القتل الذي يُعتبَر جريمة في الأحوال العادية
يفقد صفته هذه، ويصبح فرضًا واجبًا على
الإنسان إذا استُعمِلَ كوسيلة لتأييد الدعوة."
وتقول: "إن من يناوئ الجماعة، أو يحاول
إخفات صوتها، مُهدَرٌ دمُه، وقاتله مُثاب على
فعله."[18]
بل إن أحد قادة الجهاز السري لجماعة الأخوان
يتباهى بموقعه فيه، ويتباهى بأفكاره،
وينشرها في زهو، فيقول: "إن أعضاء التنظيم
الخاص يمتلكون الحقَّ، دون إذن من أحد، في
اغتيال من يشاؤون من خصومهم السياسيين؛
فكلُّهم قارئ لسنَّة رسول الله في إباحة
اغتيال أعداء الله."[19] ولعل البعض يقول: لكن جماعة
الإخوان تقول غير ذلك، وتعلن أنها ضدَّ العنف.
وعلى هؤلاء نردُّ بأقوال هذا القائد المسلَّح
في جماعة الأخوان؛ فهو يقول: "ومن خدع الحرب
أن يسبَّ المجاهد المسلمين، وأن يضلِّل عدوَّ
الله بالكلام، حتى يتمكَّن منه ويقتله."[20]
ثم هو يقرِّر صراحةً بـ"جواز إيهام القول [أي
الكذب] للمصلحة". بل إن الكذب يبرز واضحًا
في كثير من ممارسات جماعة الأخوان. فعندما
أصدر الأستاذ سيد قطب كتابه معالم في الطريق،
وكان ما كان من ضجيج، تبرَّأ المستشار حسن
الهضيبي من هذا الكتاب علنًا، وأصدر ردًّا
عليه عنوانه دعاة لا قضاة. لكننا نكتشف
بعد ذلك أن هذا كلَّه كان تمويهًا وخداعًا.
فالأخت زينب الغزالي تؤكد أن الأستاذ الهضيبي
"قال لـ[ـها] إنه قرأ كتاب معالم في الطريق،
وأعاد قراءته، وأن هذا الكتاب قد حصر أمله
كلَّه في سيد قطب، وأنه [أي سيد] هو الأمل
المرتجى للدعوة"[21].
وفي الوقت ذاته الذي أصدر فيه الأستاذ
الهضيبي كتابه دعاة لا قضاة كان قد أرسل
إلى مجموعات الأخوان المسجونين بالواحات
ليؤكد لهم أن "تفسير سيد قطب للقرآن هو الحق
الذي لا يسع أيَّ مسلم أن يقول بغيره"[22].
ثم يتقدَّم واحد من قادة الجماعة، هو الأستاذ
محمد فريد عبد الخالق، فيقول: "كان المرشد
العام مقتنعًا في هذه الفترة [الفترة ذاتها
التي صدر فيها كتاب سيد قطب معالم على
الطريق والتي أصدر فيها هو ردَّه عليه]، بأن
عبد الناصر كافر، وأن الإخوان هم جماعة
المسلمين، وأنه وافق على طبع كتاب معالم في
الطريق."[23]
بل إن قطبًا آخر من أقطاب الجماعة يقول: "لقد
كان حسن البنا البذرة الصالحة للفكر
الإسلامي، وكان سيد قطب الثمرة الناضجة."[24] ولعلنا جميعًا قد لاحظنا أن
جماعة الأخوان قد تدين العنف وتتبرأ منه
آنيًّا، وأحيانًا تدين "التسرُّع" في
اتخاذه أسلوبًا؛ لكنها أبدًا لم تقل بإدانة
الأفكار التي نَبَتَ منها العنف، ولم تقل
بإدانة التنظيم الذي ارتكبها. فهُم تحت مظلة
فكرية واحدة؛ فقط البعض "متسرِّع"،
والبعض يتأنى في الاستعداد. ولعل هذا يبدِّد
تمامًا كلَّ ادِّعاء للجماعة أنها "معتدلة"
وأن الآخرين متطرِّفون. ويبقى فقط أن كلَّ
هؤلاء الإرهابيين المتفرقين في جماعات، مثل
"الجهاد" و"طلائع الفتح" و"الجماعة
الإسلامية" وغيرها، وقبلها جماعة "التكفير
والهجرة"، هم من أتباع الأستاذ سيد قطب،
إلى درجة أنهم يُسمَّوْن إجمالاً بالـ"قطبيين".
ومن ثَمَّ فلا غرابة في أن يقال إن جميع
الإرهابيين قد خرجوا من عباءة جماعة الأخوان.
وكان هذا كلُّه هو بعض من ثمار مريرة أنبتتْها
الفكرة الشريرة القائلة بتسييس الدين،
والفكرة الساذجة القائلة بوجود "معتدلين"
تحت مظلة تسييس الدين. 5. رفع شعار "الخلافة"
و"الحكومة الدينية" الإسلام لم يعرف الحكومة
الدينية؛ فلم يَرِدْ عنها شيء في القرآن
والسنَّة. والرسول الكريم، الذي علَّم
المسلمين كثيرًا في شؤون حياتهم، لم يقل
شيئًا عن أسلوب حكم الناس لأنفسهم. ولهذا "السكوت" حكمة واضحة.
فالمسكوت عنه متروك لاجتهاد البشر، ولإعمال
العقل وفق مستجدات الحياة. فالقاعدة الشرعية
الأصلية تقول: "ما يتناهى لا يضبط ما لا
يتناهى"؛ ومن ثَمَّ تُرِكَ ما لا يتناهى
لاجتهاد البشر. مات الرسول الكريم دون أن يترك
خليفة أو وصية بخليفة، أو حتى أسلوبًا
لاختيار الحاكم؛ ولو شاء لفعل، ولو فعل لألزم
لناس بالتمسُّك بما رأى حتى يوم الدين. لكنه –
رحمةً بالعباد، وتأكيدًا لحقِّهم في
الاجتهاد وإعمال العقل وفق متغيرات الزمان
والظرف والمكان – سَكَتَ عن هذا الركن الهام. ونلاحظ كذلك أن الخلفاء
الراشدين تولَّى كلٌّ منهم بأسلوب مختلف: عمر
غير أبو بكر، وعثمان غير عمر، وعلي غير الجميع.
وهذا يعني أن الأمر متروك للاجتهاد وللظروف.
بل إنه بعد وفاة عمر كان أوصى مجلسًا باختيار
خليفته، وجعل عليهم حَكَمًا عبد الرحمن بن
عوف. أراد عبد الرحمن أن يبايع عليًّا، لكنه
اشترط عليه عندما مدَّ له يده ليبايعه:
اتِّباع الكتاب والسنَّة وسيرة الشيخين أبي
بكر وعمر، فأجابه علي بأنه سيتَّبع الكتاب
والسنَّة، ولم يقبل الشرط الآخر، قائلاً إنه
سيجتهد برأيه. ألح عليه عبد الرحمن مرتين،
ورفض علي مرتين؛ فتحول عنه، وبايع عثمان.
ونقرأ رأيًا لجماعة من فقهاء المسلمين أصدروه
في تركيا كتابًا أسموه الخلافة وسلطة الأمة
يقولون فيه: "ولو كانت مسألة الخلافة، كما
يظن البعض، من المسائل الدينية الرئيسية
لبيَّن الرسول الأكرم، الذي لم يضنَّ ببيان
وصاياه في أبسط الفروع والآداب – بيَّن لنا
مسألة الخلافة. وفضلاً عن هذا، فإنها لو
عُدَّتْ من المسائل الدينية الأصلية
لَلَزِمَ حينئذٍ أن يكون دين الإسلام ناقصًا،
لم يكتمل في زمن النبي، لأنه لم تَرِدْ نصوصٌ
شرعية بخصوصها في زمنه – والآية الكريمة تقول:
"اليوم أكملت لكم دينكم"."[25] ويقول الفقيه الآمدي في كتاب غاية
المرام في علوم الكلام: "واعلم أن الكلام
في الإمامة ليس في أصول الديانات، ولا من
اللابُدِّيات [من "لا بدَّ"، أي من
الضروريات]، بحيث لا يسع المكلَّف الإعراض
عنها والجهل بها، بل – لعمري – إن المُعرِض
عنها لأرجى حالاً من الواغل فيها؛ فإنها لا
تنفك عن التعصب والأهواء وإثارة الفتن
والشحناء."[26] ولعل الحوار التالي، الذي
أورده ابن الأثير في الكامل في التاريخ،
يكفي لإيضاح كيف أن الأمر كلَّه كان للتجربة
والاختبار: "عندما وُلِّيَ أبو بكر ناداه
أحدهم "خليفة الله" فغضب قائلاً: "إنما
أنا خليفة رسول الله." وعندما وُلِّيَ عمر
بن الخطاب ناداه المغيرة بن شعبة "يا خليفة
الله"، فقال عمر: "ذاك نبي الله داوود."
فقال: "يا خليفة رسول الله." فقال عمر: "ذاك
صاحبكم المفقود [أبو بكر]." فقال: "يا
خليفة خليفة رسول الله." فقال عمر: "ذاك
أمر يطول." فقال: "يا عمر." فقال عمر:
"لا تبخس مكاني شرفه؛ أنتم المؤمنون، وأنا
أميركم." فقال المغيرة: "يا أمير
المؤمنين." لكن الدعوة إلى الحكومة
الدينية هي محاولة للاستقواء بالدين في إدارة
شؤون الحكم، أو في مواجهة مُعارِضي الحاكم،
أو مُعارِضي الحكم. والدعوة التي يطرحها
دعاةُ تسييس الدين تستهدف أن يفرضوا إرادتهم
على البشر دونما رادع. فحسن البنا يقول: "الخليفة
هو الإمام الذي هو واسطة العقد، ومجمع الشمل،
ومهوى الأفئدة، وظل الله في الأرض."[27]
أما عمر عبد الرحمن فيقول: "الخليفة في
الإسلام مهمته وراثة النبوة."[28]
إنهم لا يفتعلون فقط فكرة "الحكومة الدينية"،
وإنما يستعدون لحكمنا بقبضة حادة، مدَّعين
أنهم "ظل الله على الأرض" أو "وارثو
النبوة"! ومن هذه الأبواب الفكرية
جميعًا ينطلق العنف الإرهابي. ومن هنا كان
التأكيد الذي نؤكده دومًا أن "الإرهاب يبدأ
فكرًا". ومن ثَمَّ فإن مواجهة الإرهاب قد
يكون جزئيًّا بالردع الأمني. لكن ذلك الردع لا
يكفي؛ إذ يجب تصويب الفكر. وهنا يتحول العبء
من "الأمن" وحده إلى المدرسة، بتصويب
مناهجها التعليمية، وبضمان أداء تعليمي خالٍ
من هذه الأفكار المشوِّشة، وإلى الإعلام
لسدِّ ثقوبه التي يتسرَّب منها "فكر"
يقود بالضرورة إلى الإرهاب. كما يتحول إلى
ضرورة بذل محاولات جادة لتصويب المناخ العام
الذي جرى طلاؤه بحالات التَأَسْلُم
المتَّخِذ مظهرًا دينيًّا، لكنه في الجوهر
يحيد عن صحيح الدين وعن جوهره. وما لم نعمل جديًّا لكشف هذا
الفكر الضار، ولتصويب المناخ العام، ستظل
الشجرة الشريرة تقذف علينا ثمارًا مريرة. وفي
كلِّ مرة ستكون أمَر. *** *** *** *
من كتيِّب التأسلُم فكر مسلَّح، دار
الطليعة الجديدة، دمشق، ص ب 34404، هاتف: 7775872. [1]
يتضح هذا
الأمر في أغلب الكتابات المنسوبة إلى
محاولات تسييس الدين. فشكري مصطفى يردِّد
ما ردَّده أستاذه سيد قطب في عبارة حاسمة:
"إما كفر وإما إيمان؛ وليس هناك بين بين."
(راجع شكري مصطفى، التوسُّمات، مخطوط.) [2] نلاحظ هنا أن عبارة "أهل
العقد والحل" لم تكن مستخدَمة في العصور
الإسلامية الأولى؛ وكان أول مَن استخدمها
الإمام الماوردي سنة 400 هجرية في كتابه الأحكام
السلطانية. [3] شكري مصطفى، محاضر أقواله أمام
محكمة أمن الدولة العليا في القضية رقم 6
لسنة 1977 (قصة اغتيال الشيخ الذهبي). [4] نلاحظ أن حسن البنا، المرشد
العام الأول لجماعة الأخوان، استخدم
الحديث ذاته لتبرير قراره بضرب مخالفيه في
الرأي من أعضاء الجماعة "علقة ساخنة"،
كما وصفها هو (حسن البنا، مذكرات الدعوة
والداعية، ص 126). وقد برَّر حسن البنا ذلك
بأن المخالِفين "قد تلبَّسهم الشيطان
فشقوا عصا الطاعة"! [5] ابن الأثير، الكامل في
التاريخ، ج 3، ص 171. [6] شكري مصطفى، التوسُّمات،
المرجع السابق. [7]
شكري مصطفى،
أقواله أمام محكمة أمن الدولة العليا،
المرجع السابق. [8] حسن البنا، مذكرات الدعوة
والداعية، ص 183. [9] صالح عشماوي، مقال في مجلة الدعوة،
24/4/1951. [10] إسماعيل أحمد الشافعي، الأخوان
المسلمون: دعوة البعث والإنقاذ (مقتطفات
من رسائل وخطب المرشد العام)، ص 3. [11] عبد الحكيم عابدين، البواكير،
مجموعة شعرية، ص 41. [12] حسن البنا، مقال بعنوان "بين
الدين والسياسة"، جريدة الأخوان
المسلمون (الأسبوعية)، 4/3/1945. [13] عبد الرحمن الساعاتي، مجلة النذير،
العدد الأول، أول محرم 1358 هـ. [14] سيد قطب، معالم في الطريق،
ص 199. [15] المرجع السابق. [16] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج
4، ص 2115. [17] حسن البنا، رسائل المؤتمر
الخامس. [18] عصام حسونة، 23 يوليو وعبد
الناصر، ص 16. [19] محمود الصباغ، حقيقة التنظيم
الخاص، ص 429. (تجدر الإشارة إلى أن كاتب
مقدمة هذا الكتاب هو الأستاذ مصطفى مشهور.) [20] المرجع السابق، ص 433. [21] زينب الغزالي، أيام في حياتي،
ط 5 (1983)، ص 36. [22] أقوال عزمي بكر محمود شافع
أمام النيابة في القضية رقم لسنة 1965، أمن
الدولة العسكرية العليا. [23] شريف يونس، معالم في طريق
القتل، مجلة القاهرة، نوفمبر 1994؛ عن
محضر نقاش مع محمد فريد عبد الخالق أُجرِيَ
في منزله في 25 أكتوبر 1993. [24] صلاح شادي، الشهيدان: حسن
البنا وسيد قطب، ط 1 (1988)، ص 77. [25] الخلافة وسلطة
الأمة، مجموعة من علماء
الدين، ص 92. [26] الآمدي، غاية المرام في علم
الكلام، بتحقيق حسين محمود عبد اللطيف،
إصدار المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية (1971)،
ص 363. [27] حسن البنا، رسائل المؤتمر
الخامس، ص 48. [28] عمر عبد الرحمن، حتمية
المواجهة، ص 63.
|
|
|