|
عن سانت إكزوبِري
وأدونيس وحشرجة "الأمل"
إنهم يستضيفونه في...
بيته 1 دائمًا،
بسبب خيلاء الضعيف وإعاقات روح المهزوم، نكره
في "الآخر" تواضُع قلبه، ونجرِّده من قيم
جماله الإنساني، فيما نحن – كالفئران –
نتذلَّل أمام قوَّته وجبروت معادنه: "الآخر"
شرٌّ مطلق – ما لم يثبت العكس. وبانتظار "ثبوت
العكس"، غالبًا ما يكون الوقت قد فات على
الندم، ونكون قد هُزِمْنا مرة أخرى وأخرى في
امتحان الجمال! نقطة: من أول السطر... * قبل
عشرين سنة من الآن، كنتُ في زيارة للجزائر.
وإذ كنتُ – بحسبما أوْهَمَني صديقي الشاعر
أزراج عمر – على مرمى حجر بحري صغير من التراب
الفرنسي، فقد قررتُ زيارة باريس... للمرة
الأولى. صباح
اليوم التالي كنتُ في السفارة الفرنسية. وبعد
محاورة قصيرة ومرتبكة مع القنصل الفرنسي،
تبيَّن لي أن الحصول على الـ"فيزا" أمر
شبه مستحيل، أولاً (كما أوضح لي القنصل
الصارم، المتجهِّم، "غليظُ القلب"، كما
وصفتُه في قلبي) لأن الطلب كان يجب أن يُقدَّم
من طريق السفارة الفرنسية في بلادي؛ وثانيًا
لأن الإجابة عنه – في مطلق الأحوال – تتطلب
أسبوعين على أقل تقدير. وهكذا: لا "فيزا"! واستسلمت
لواقع الحال. ومن
قاع قنوطي، في لحظة نادرة من لحظات شجاعة
القلب، التفتُّ إلى القنصل، وقلتُ له، ماضغًا
كلَّ حرف من كلماتي برصانة من يطلق رسالة
استغاثة كونية: "سيدي القنصل... أرجوك أن
تسمعني جيدًا. أنا مجرد شاعر ضعيف يعيش على
لقمة الجمال. ليس لديَّ ما أطمح إليه في
فرنسا، ولا رغبة لديَّ في البقاء فيها. كلُّ
ما في الأمر أنني أحلم بزيارة وطن أصدقاء لي،
لعلك تعرفهم..." ومضيتُ أعدُّ له ما
حَضَرَني من أسماء: فيكتور هوغو، بلزاك، بول
إيلوار، آراغون، ألبير كامو، والقديس العظيم
إكزوبِري (نطقتُ الاسم كاملاً وعلى مهل –
أنطوان دُهْ سانت إكزوبِري – مترنِّمًا به
كمن يترنَّم باسم نبي). "لا شيء سوى ذلك،
وأرجوك أن تقدِّر هذه الرغبة الصغيرة."
أنطوان دُهْ سانت
إكزوبِري صمتَ
الرجل الصارم... وصمت. دام صمتُه القاحلُ بضع
ثوان دهرية كأنها الأبدية... ثم غرس نظرتَه في
وجهي، مضيِّقًا عينيه، كأنه يحاول قراءة قلبي.
وإذ كنتُ أتهيَّأ لسماع حُكمه بإعدامي، قال
جملة من الأمير الصغير لإكزوبِري، كمن
يرتِّل آية مقدسة: Les étoiles sont belles à cause d’une fleur que l’on ne voit pas.
.
خرج ضوءُ قلبي من عينيَّ. ورحت أرتِّل وراءه
بعربية ضاحكة، معطَّرة بالموسيقى: "النجوم
جميلة لأن فيها زهرة لا نراها...". ثم
لم يلبث الرجل (الذي كان – قبل دقيقتين فقط –
صارمًا وغليظ القلب) أن مدَّ يده لمصافحتي،
وقال: "تعال صباح الغد وخذ الفيزا." أتذكَّر
أن دمعة خذلتْني. كانت دمعة امتنان فصيحة،
نظيفة، مسموعة، ذات عطر ورنين. وبعد
يومين كنتُ في باريس، ضيفًا على مائدة صديقي
الكريم: "القديس إكزوبِري". * أيها
الرجل الغامض، الصارم، الرقيق، الغريب، الذي
لم أعرف اسمه ولن أراه. كيف لي – الآن، أو بعد
ألف سنة – أن أردَّ إليك بعضًا من ديون
الصداقة – صداقة القلب؟! أين أنت الآن، أيها
الرجل؟ لعلك، في هذه اللحظة السرية من الزمن
الإنساني، تطوف حول الكوكب B
612.
ولعل زهرة إكزوبِري مازالت، فوق، تنتظر من
يحملها!
"الأمير الصغير"
(من رسوم الكتاب بريشة سانت إكزوبِري) * ذلك
الرجل – القنصل الإكزوبِري الرائع – الذي
وثق بصوت القلب، كان واحدًا من "الآخرين"
– الآخرين الذين نبغضهم، الآخرين الذين
استطاعوا، دونما كثير عناء، أن يؤكِّدوا لنا
على الدوام أن الجَمَال حكمة القلب، والثقافة
حاضنة الضمير، وأن "الآخر" – أيًّا كان
– ليس إلا صورتنا الصريحة تتلألأ في عمق مرآة
النبع. كان
علينا أن نخاف "الآخر". ومع الوقت، صار
خوفُنا مبرِّرًا للكراهية والنبذ وشهوة
الإعدام: هكذا يتحول الخائف إلى جلاد،
والضعيف إلى وحش، والبريء إلى نقيض براءته!
وهكذا تغدو مزاعم الإخاء الإنساني هي "الحيلة
السرية" لتسويغ ضرورة الكراهية: هكذا ينهزم
الحب، وتنتصر آلة الموت. 2 ...
فإذن: "الآخرون" قبيحون وأشرار وغلاظُ
القلوب. ذلك ما علَّمتنا إياه كتب البغضاء.
ذلك هو "عارُ القلب"، خالصًا وصريحًا. ومع
ذلك: لا ننصتُ، ولا نرى، ولا نتعلَّم. فعلى
مائدة "الآخرين" – القساة،
المتجبِّرين، ذوي القلوب المسكوكة من المعدن!
– تتنفس، وتعيش، وتحلم، أجمل أزهارنا
الثقافية التي هربت من "خنَّاق" الظلام
إلى فضاء العافية والنور: شعراء، فنانون،
فلاسفة، روائيون، موسيقيون، عَبَدَةُ جمال
وخير وفضائل روح... ، يعيشون هناك أو هنالك –
منذ عقود وعقود – باحثين عن زهرة إكزوبِري
الكريمة، زهرة كرامة القلب و الضمير. خرجوا
من بيوتهم الوطنية شبه منفيين (أوَليس الظلمُ
قرار نفي؟!) مختنقين في ضائقة الإجحاف
والتخوين وانعدام الصداقة! من لم يُنفَ
صراحة، نُفِيَ صوتُه أو اسمُه أو قيمةُ
إبداعه أو حقُّه في تنفس نسمة الحياة. وهكذا
تحول "بيت الآخرين–الأشرار" إلى بيت
صداقة، وملجأ حياة، وفضاءٍ إنساني مفتوح
للإبداع والحلم وغبطة الإحساس بكرامة العقل. لن
أحصي الأسماء: الكواكب تفصح عن مواقعها.
والذين يملكون فطنة القلب قادرون على الإنصات
إلى أصوات تفتُّح أزهارها... هناك في "بيت
الحياة السخيِّ" الذي ما يزال الكثيرون من
معاقي الأرواح يسمونه "المنفى"! وفي ذلك
المنفى، طوال أكثر من ربع قرن، عاش أدونيس. ومن
هناك، من "المنفى" – بيت ضيافته الأخير
– يعود أدونيس الآن إلى بيته الأول: يعود
ضيفًا! الطفل
الذي كان اسمه "علي أحمد سعيد" قبل نصف
قرن وأكثر، يعود الآن ضيفًا على بيت الشيخ
الذي صار اسمه "أدونيس"! – يعود ليبكي.
المحزن
أن الذين استضافوه إنما يستضيفونه في بيته.
والمحزن أكثر أن هؤلاء المُضيفين كان يُفترَض
– جغرافيًّا على الأقل – أن يكونوا هم ضيوف
المائدة والبيت. لكنْ، بما أن الثقافة لا
تعترف بجغرافية التراب قَدْرَ اعترافها
بجغرافية القلب، انقلبت الآيةُ: المضيف صار
ضيفًا – ضيفًا على مائدة بيته! حقًّا: القلبُ
له ناموس آخر. و بحكم هذا الناموس – ناموس
القلب – ها هم "الآخرون" يمسكون ابن
البيت الضال، الضعيف والمستضعَف، ويعيدونه
إلى بعض مكانه وقلبه، في بيت العائلة، أو...
قبرها. لكن...
كيف يمكن لنا، الآن أو بعد دهر، أن نثبت لمن
يحرسون "زهرة البيت" أن هذه الزهرة
المباركة إنما تتنفس هواء قلب زارعها –
الشاعر الضعيف – الذي، في نوبة عمى وعماء،
قرر المؤتمنون على "حصن الثقافة الوطنية"
أن يكون "مطرودًا" خارج فردوس العماء. غالبًا،
الذين يحرسون مائدة البيت: ناموسهم البغضاء.
لكن... كيف لهم أن يصدُقوا: البغضاءُ مهنة
ُالموتى. على
أنه الآن – ولو إلى حين – في البيت، وعلى
مائدته. إذن:
أيها الضيف العجوز القادم من بيتك هناك في
قارة الصداقة والورد، عُدْ إلى هناك، إلى بيت
إكزوبِري القديس. وإذا كان لا بدَّ للجثمان من
حلم، فلا تحلم جنوبًا أو شرقًا، احلم مسقط
روحك... فوق. احلم الكوكب B
612.
وهناك ستعثر على أختك الزهرة. * الآن
متأخرًا، متأخرًا جدًّا، يُستعاد صوتُ
أدونيس. ولعل ذلك ما هيَّج بَكْوَة الشاعر. أو
لعله مذاق الصداقة، والجمال، ووفاء القلب... وعلى
أيِّ حال، من حقِّ الشاعر–الضيف... أن يغتبط. فاستعادة
الصوت خير من استعادة الجثمان. سلامًا
زهرة إكزوبِري! حشرجةُ "الأمل" 3 في
مهمته التاسعة من مهمات الحرب، لم يعد أنطوان
سانت إكزوبِري إلى قاعدته. السماء خذلت "الأمير
الصغير"... والبحر استعاده ميتًا! تعثرتْ
طائرتُه في شعاب الجغرافية السماوية الوعرة،
وقادته إلى الخلود... مجرد جثة ضائعة... وبضع
مئات من الصفحات في امتداح الحياة، والبشر، و"أرض
البشر"!
قديس
الحياة مات في مهمة حرب! تلك كانت آخر مفارقات
"الأمير الصغير": تلك كانت مفارقة الوردة! فمنذ
الأمير الصغير – زارع الورد وراعي الخراف
على فوهات البراكين الميتة – وحتى رسالته
الأخيرة "إلى الجنرال س"، مرورًا بـأرض
البشر وبريد الجنوب وطيران الليل،
لم يتوقف سانت إكزوبِري عن تمجيد الحياة.
مَجَّدَ الوردة اليتيمة المتواضعة الخجولة،
المحروسة بعطف أميرها على سطح الكوكب B
612،
تمامًا وبالحماسة الروحية نفسها التي مجَّد
بها طائرة البريد التي كانت تنقل صوت الإنسان
من مجاهل الصحارى الإفريقية إلى ما فوق جبال
الآندِس المدفونة تحت ثلوج الأزمنة؛ واحتفى (من
فوق، فيما هو يبحث عن شاخصات أرضية يسترشد بها
الطيار) بقطعان الخراف، وراعيات الأرياف،
والسواقي المنسية، وشجيرات البرتقال الثلاث
الضائعة في المتاه الأرضي، بالقوة نفسها التي
احتفى بها بعظمة المجرَّات والكواكب التي
ترسم، حوله وفوقه، حدود خارطة السماوات. مجَّد
الراعي والميكانيكي والشاعر وطيار البريد
وزارع الورد والبدوي الهائم في صحرائه باحثًا
عن بئر ماء مباركة تروي عطش الإنسان... لكنه
كان يعرف أن الإنسان – الإنسان الذي احتفى به
ومجَّده – ليس على الدوام شاعرًا وقديسًا
وزارع ورد، بل هو، في كثير من الأحيان، مجنون،
خائف ومخيف، وصانع موت. وفي
ميدان صناعة الموت، تعثرت طائرة إكزوبِري...
وعاد القديس إلى كوكبه، حطامًا خالدًا في
وصايا وكلمات ودموع قلب. ولأنه
مات في مهمة حرب، لا يزال بعض المؤرخين
والكسالى ومعوقي الأرواح ينظرون إليه كـ"طيار
حربي" يعشق الكتابة والتأمل، لا كحامل
رسالة إنسانية جاء في غير ميعاده، ورحل قبل
ميعاده، وظل خالدًا. ولأن
أبواب الديانات (سماوية وأرضية على حدٍّ سواء)
كانت قد أُقفِلَتْ على ثلاث، فقليلون هم
الكهنة الذين يقرأون سانت إكزوبِري كـ"صاحب
ديانة". ولأعترف: أنا واحد من هؤلاء الكهنة.
كلما تعبتُ من سماع صلوات البطولة وتمجيد
الدم والتمتع بلعبة الموت، أعود إلى
إكزوبِري؛ أعود إليه لأحتمي برسالته من فظاعة
البطولة، وأتعبَّد للحياة: مع سانت إكزوبِري
أشعر أنني أحتمي بالقلب. -
لكن، لماذا يتمتع إكزوبِري
بهذا الموقع الاستثنائي على خريطة الرسالات
الإنسانية؟ -
لأنه، مهما حاول أن يتخفَّى
وراء قناع الإنسان البسيط، لا يكفُّ عن أن
يكون "سانت إكزوبِري" القديس وصاحب
الرسالة–الديانة: لا يكفُّ عن أن يكون رسولاً
ومرشدًا روحيًّا لأزمنة وأجيال. وإذا
شئنا أن نكون منصفين، فالجميع قبله أنجزوا
رسالات الأرض. هو وحده – لسبب ميكانيكي بحت –
أنجز رسالته في السماء. هو وحده الذي قتلتْه
شهوة السماء. وحين تحطمت طائرته (في الواحدة
والنصف من ظهيرة آخر يوم في تموز 1944)، لم
تفتقده البشرية كطيار أو كاتب أو منظِّر
أخلاقي فحسب، لكنْ افتقدتْه كإنسان يبشِّر
بواحدة من أنبل رسالات الإنسان.
بصلابة
روحه، كان إكزوبِري يحترم ضعف الإنسان،
تمامًا كما يقدِّر قوته وعبقريته وشهوته إلى
المجد. لكن، أيضًا، كان يرى في قوة الإنسان
المنفلتة من عقالها ما يجعله يخافه، أو يخاف
عليه: كان يفزع من قوة الوحش. وبهذا المعنى كان
يشعر أنه "مريض" لأجل إنسانيته ومريض بها.
ولهذا يعترف: "إنني مريض في سبيل زمن مجهول.
لكنني لا أعرف الحقيقة التي لا تجعلني مريضًا."
وفي موضوع آخر من "رسالته" إلى الجنرال س
يقول أنطوان: "خذ بعين الاعتبار كم كان يمكن
أن تتضافر الجهود لخدمة إنسانية الإنسان! كم
نحن اليوم جافُّون أكثر من القرميد! الألبسة
الرسمية والأعلام والأناشيد والموسيقى
والانتصارات..." (هل كان يقصدنا؟!) والآن
أستطيع – على بعد آلاف الأميال وعشرات السنين
– أن أسمع صيحة القديس طالعة من قلب الإنسان
القانط: "أكره عصري بكلِّ قواي لأن الإنسان
فيه يموت من العطش." وإذا كان يرى كيف يتم
تحويل البشر إلى ماشية، فقد كان قادرًا على
إيصال رسالته إلينا، مثقلة بالغضب والمرارة
وحمَّى اليأس: "إنها صحراء الإنسان!" بلى،
هي صحراء الإنسان – صحراء ممتدة على خمس
قارات وما شئت من الأزمنة والأنظمة وعقائد
الموت! هي صحراء الإنسان كلِّه. وفي هذه
الصحراء المدوِّخة كان سانت إكزوبِري يرى:
"إننا نسير نحو أزمنة تُعتبَر أكثر أزمنة
العالم سوادًا." منذ
أكثر من خمسين سنة، كان إكزوبِري يرانا. ولأنه
كان يرانا، لأنه كان يرى خذلاننا وضعفنا
ووحشيتنا وقدرتنا على احتقار الحياة؛ ولأنه
كان يرى كلَّ هذا الموت، وكلَّ هذه الخساسة،
وكلَّ هذا النكران لقيمة الإنسان وقداسة
حياته – لهذا كان لا بدَّ من أن تضجر روحُ
القديس الخائب الضعيف من أولئك و"هؤلاء"
الأبطال الجشعين المسترخين على أرائكهم،
كحيتان منفوخة بالصراخ والنفاق ورائحة
البارود، يدفعون بأرواح البشر إلى هاوية
الموت، كأنما "هم" الذين أشرفوا على
صناعتهم، أو على صناعة الحياة! لأنه كان
يرانا، كان قادرًا على التصريح، دونما تحفظ
أو حياء: "لم يعد يهمني أن أموت في الحرب.
فماذا بقي مما أحببت!" أجل،
ماذا بقي لنا، نحن أيضًا، من كلِّ ما أحببناه؟ وسواء
أقالها سانت إكزوبِري أو لم يقلها، فلنعترف
الآن، بكثير من الخوف، وكثير كثير من فقدان
الأمل: لا
شيء مما بقي يصلح للحب. وبيت الإنسانية الكبير
يتحول، مع الوقت، إلى حظيرة مفزعة للذئاب. *** *** *** تنضيد:
دارين أحمد
|
|
|