تحوُّلات في وجهي

(البدء)

 

منيف السعد، للرسام أحمد معلا

منيف السعد

 

إلى الصديقة التي ألهمتْ هذه الكلمات وهذا التصوف، ومنحتْني أجمل صداقة وأعمق مشاعر وأنقاها...

إلى مَن ترى إلى الحياة كـ"مغامرة رائعة" (هكذا تقول)، وتغامر باكتشاف حقائق الحياة بعناد وصبر – ولو بتحطيم شرائع البشر... عبقرية مجنونة!

إليها... بسمو.

 

البدء

1

... يا طلَّة الطير والزنبقة

ما لِحالم متمرِّد

سقط في مئات المعارك

من أجل ملامسة الله

وتغيير سُنَنِ الكون

وشرائع البشر!

 

... كيف يضمُّكِ قلبُه الكتيم

يا آتيةً من الحارات العتيقة

حاملةً في روحك اللطيفة

كلَّ قيود البشر

الآتين في قوافل

من أطراف الصحراء؟!

 

... يا هاربةً من دير

في ديرة محمَّدية أفْسَدَها الزمن

كيف يكون لكِ

أن تحبلي وتلدي طفل المغارة سرًّا

بدون آلام؟!

 

... كيف يكون لكِ

يا زنبقة برية بيضاء

أن تنفصل أفكارُكِ العتيقة عن جسدكِ

لتصلي إليَّ عبر اللهيب

بدون أن تَمَسَّكِ النار

لنتوحَّد معًا

وترحل الآلام؟!

 

... أناجيكِ، يا طلَّة الحمامة البيضاء

وعذوبة المطر الليلي

وأقول لكِ إني أكتشف بكِ ذاتي وقيودي، فأتوق إلى الحرية والنماء.

أعلن لك همسًا أني بكِ تعرفت إلى نبيِّ جبران الذي زارني منذ زمن، فلم ألتفت إليه، وهو يقول لي بودٍّ وصدق: "لا يكسر شرائع البشر إلا العبقري أو المجنون، وكلاهما أقرب الناس إلى قلب الله."

... لربما مسَّتْني روح هذا النبي. بل الأدنى إلى الواقع أنها مسَّتْنا كلينا. الأدنى إلى القلب أننا مجنونان قريبان من قلب الله! وإلا، فلماذا هذا الشعور بعذوبة الحرية، بالرضا وسموِّ الروح؟

لكأنما تحقَّقَ بنا هدفُ الحياة؛ لكأنما بلغتْ بنا الحياةُ بعض أجمل غاياتها: سلام القلب وسكون الروح العميق.

 

... لست أقدر

إلا أن أحمل هذه الأجنحة

تضرب ماء النهر أمامي

توسع دربي

في الريح والعاصفة

تضيء لي الأفق البعيد.

 

... ألا ترين معي، يا مَن أتعبَها السفر، حاملةً عقلها المتيقظ دائمًا، أن هدف الحياة من إيجاد الإنسان هو الوجود، وليس شيئًا آخر؟

ألا ترين معي أن الحبَّ، في حدِّ ذاته، هدف، لأنه جزء من الحياة، وأن الإنسان لا يملك أن يقرر أن يحبَّ أو لا يحب؟ ألا ترين أن السموَّ بالحبِّ هو أيضًا جزء من الوجود؟

ولكن مَن يستطيع أن يسمو بالحبِّ، ويصفو، ويمتلئ بالفرح والقداسة؟! فإذا ما لامستْ وجهَه أشعةُ شمس الصباح، هَمَسَ السلامُ في قلبه: "يا رضا الله... ورضا مَن أحببت!" ويُدني اسمَ مَن أحبَّ من شفتيه، ويمضي يناجي القوة الخفية اللطيفة: "يا إلهي، امنحْ قلبَ من أحببتُ السلامَ الذي يملأ قلبي الآن!"

 

... مَن سوى العبقري أو المجنون يقدر أن يجتاز هذه العتبة، ويدخل في قلب الوجود الجميل، ويمتلك الحياة؟!

لماذا لا نصدِّق النبي القائل إن الإنسان منذ ملايين السنين كان كالوردة – مليكة الزهور – ثنائيَّ الجنس، جسدًا واحدًا، ولذلك كان ممتلئًا بالفرح والغبطة الدائمة؟! ولماذا لا يكون حقًّا ما قاله هذا النبي من أن الإنسان كان يمشي ويطير، ولكنه، بتطور فاجع، هبط وانقسم، رجلاً وامرأة، وبهذا بدأتْ معاناتُه المُرَّة: توجُّع الروح الغامض المضني، وتشوُّق كلٍّ منهما للآخر؟

 

... إني أصدق هذا! وإلا فما هذا الشوق، وما هذا الحب في أعماق كلِّ كائن؟! بل إني أومن أيضًا بقول النبي إن الإنسان سيعود ويتطور، ليولد كما كان منذ ملايين السنين، ثنائيَّ الجنس، جسدًا واحدًا: لا شوق، لا توجُّع، بل فرح وغبطة، وعطر وعالم جميل.

 

قد تعوَّد البشر قبول ما يقرُّه العقل. ولكن، ألا يقف العقل عاجزًا عن فهم توحُّدنا... عناقنا وتوحُّدنا، هكذا، بدون ترتيب وتصميم مسبق، بدون تخيُّل، وفي أول مرة نلتقي؟

ترى، هل فكرتِ بسلام توحُّدنا، فكتبتِ لي أن العقل يقف عاجزًا عن فهم بعض حقائق الحياة؟ ألا ما أندر الداخلين من بوابة النار، الذاهبين إلى الأفق المضيء بمجد عظيم! ألا ما أقلَّ مَن يقدرون على كسر شرائع البشر!

 

... ترى، ألم نتجاوز ما شرَّعه البشر؟ ألم نعدْ إلى ما قبل الشريعة والحدود، إلى منبع المعرفة الروحية التي توحي بها الطبيعة،

إلى ما كنَّا عليه منذ ملايين السنين

بما كنَّا فيه منذ أيام

وإلى ما سنعود إليه فيما بعد

إلى الروح التي تختلج في جسد واحد

إلى ما تهدف إليه الحياة من إيجادنا؟

 

... ومع ذلك، تعودين بقلق إلى بعض التفاصيل! لماذا كنتِ، إذن، مليئة بمعرفة نبوية روحية بما سيكون لنا، وأنتِ آتية بخطًى قوية للقائي أول مرة؟!

أتظنين أن ما كان لنا قد تمَّ بدون ترتيب كوني؟ أم أن لديكِ ترجمة أخرى؟

لا تذهبي إلى التفاصيل! آمِني أن عناقنا لم يكن لأول مرة، بل كان لنا مثلُه في أزمنة قديمة، عندما كنَّا واحدًا كالوردة، غبطة وفرحًا، نمشي ونطير، وسيكون لنا كلما عدنا إلى هذا الكون.

 

... أفكر: لماذا لم يكتب القدرُ في كفِّكِ المتناسقة الشاعرية خطوط الحظِّ والعمل والحبِّ، بل تركه صفحة ملساء دافئة؟ ألترسمي قدركِ بنفسكِ، وتكوني كما تشائين؟ أم أنكِ انفصلت عني يومًا بفاجعة، وما كُتِبَ عليكِ ظلَّ مرسومًا في كفِّي، وخاصة خط العناد وخط الحبِّ العميق؟! وأي بدء جديد سيكون لكِ معي؟

 

... قولي: كيف عرف بعض العارفين ممَّن مررتِ بهم طوال حياتك أنك مختلفة عن الناس؟ ولماذا كرَّر آخرون هذا لي؟ ترى أي بدء في أننا التقينا، أيتها الهاربة من دير محمدي؟ لا تتحيري! أوقفي العقل العاجز. ففي الأمر حكمة بعيدة الغور. وإني أعي بعمق أننا عدنا والتقينا هذه المرة لنتحرَّر من جديد في مملكة الحب.

 

... لا تفكِّري كباقي البشر الذين لا يستطيعون التوحُّد في الحب. إن إيمانًا آخر، أجمل وأقوى، يقوم في أعماق الكائن العاقل – حتى الجنون.

 

... تذكَّري عندما كنَّا متعانقَيْن متوحِّدَيْن... حدَّقتُ في وجهكِ في الضوء الخافت، رأيتُ إلى عينيكِ، وجدتُكِ تحدِّقين في وجهي أيضًا. ولست أشك أنكِ كنتِ تتساءلين، وتحاولين قراءة ما لا تستطيعين فهمه. ولم أستطع أن أفهم لماذا كان وجهكِ مدورًا كما في هالة نور! كان مضاءً من الداخل بضوء عطَّل تفكيري. حاولتُ أن أستعيد مقدرتي على التفكير والفهم، فلم أقدر. حاولت أن أراكِ كما أنت في الواقع، أن أستردَّكِ كما أنت، فعجزت. كان لك بعض ملامحكِ الحالية، وملامح أخرى متداخلة بعضها ببعض كالظلال والطيوف. ألم تكن تلك أطياف وظلال وجوهكِ الأخرى، التي كانت لكِ فيما سبق، ووجهكِ الجميل الذي لكِ الآن؟ أكان هناك أيضًا وجهكِ الأول الذي كان وجهي جزءًا منه؟

أغمضت عينيَّ، وعدت إلى التحديق في عينيكِ وجمالكِ مرات، فما استطعت أن أراكِ كما أنتِ الآن. ورحت أتلاشى مع الزمن، وأستسلم لخدر عذب.

ولم نعد جسدين... أصبحنا ضوءين متقاربين، عائمين في الضباب، يعيدهما العقلُ مادتين منفصلتين.

 

... تذكَّري: كنَّا صامتَيْن، متوقِّفَي التفكير، متوحِّدين، كما كنَّا فيما مضى لنا من حيوات.

تأكَّدي: لم أرَ ما يراه البشر في جسد صُنِعَ بكلِّ إتقان وورع. ترى، كيف يستحيل الجسد إلى باقات زهر ونجوم، وحقول حنطة ولُجَّة خمر؟! أسموٌّ إلى هذا المدى؟!

 

... لا تتوقفي عند التفاصيل الأخرى! فأي خطأ في أن تكون لطفل يحبو في ضوء القمر رغبةٌ في الغور إلى نهدين دافئين؟ أعرف أنكِ لستِ تقولين هذا. ولن يكون لنا غدًا إلا كما هو مكتوب بترتيب كوني جميل.

 

... غدًا، كيف سيكون توحُّدنا في الحب؟ كيف ستشرق الشمس على صنوبرات التل؟ وكيف يهطل المطر على حقول الحنطة؟ من يدرك سرَّ صعود النبتة من حبة الحنطة المبلَّلة في باطن الأرض؟ من يدرك أسرار التنوع الرائع في زهور الحقل؟

 

... اهدئي، يا زنبقة برية! الحكمة بسيطة، لكنها ليست بحسب الظاهر. لا تتحيري! ليس في الحبِّ ضعف. ليس في السموِّ ضعف. توحُّد الجسدين قوةٌ سامية! وأنا لست أهتم للتفاصيل الصغيرة. لست أتوقف عند الرغائب، بل إنني أمتلئ بالصفاء، والرضا، والشعور بأننا مازلنا مقدَّسَيْن.

 

... ما الغد؟ ماذا سيكون لنا؟ أين سيهبط فوقنا الليل وتشرق الشمس؟ أنا على يقين من أني سأرى وجهكِ في النور باستمرار، وأننا سنتوحَّد في اللقاء الآتي بعمق وحنوٍّ أجمل. وسأعود لأتأمل جمالكِ، وأصعد في جسدكِ، وأشعر بحلول روحكِ في أغواري. سأتأملكِ جيدًا، وستتأملينني. ويصرخ في قلبينا توجُّع الانفصال والشوق إلى العودة إلى الجسد الواحد. وستنجذبين في صلاة لا تُبقي من جسدكِ الجميل إلا الضوء والهمس. وستناجين الأرواح الهائمة من حولنا، لتمنحكِ نعمة التوحُّد المستمر بي. وسيكون لكِ ما تطلبين.

وعندما يطلع الفجر، أكون قد تلاشيت، يكون قد حلَّ بعضي بكِ وتوحَّد. ستأخذين مني، لجمالكِ العذب، بعض شعر لحيتي، وشاربي، وتقطيب جبهتي وكبريائها، وسيكون بإمكانكِ المشي والطيران، وتكون لكِ ألوان الورد والزهر والعبير. ولن تعودي إلى ديرتكِ المحمدية: ستتركين المدينة، ولن يراكِ إلا القليل من البشر، ويعلن الحكماء منهم أنكِ الربة القديمة التي كانت تأتي إلى الأرض منذ ملايين السنين. وأعتقد أن الكثيرين منهم سيعبدونكِ لبساطة عقولهم وطيبة قلوبهم، وسيتبعونكِ أينما ذهبتِ صارخين: "هذه ربة الجمال والنور!" ولكن البعض سينطقون كفرًا، مُطالبين بإحراقك! فأطلُّ عليهم من عينيكِ، فيصمتون، ويتفرَّسون بنا ونحن واحد، ماضِيَيْن على الفرس المذهَّبةِ القوائم، الفضيةِ الوجه،

... إلى مملكة الفرح والحرية والحب

... إلى حيث يشرب الطير في قمة الجبل

... يا طلَّة الحمامة البيضاء وعذوبة المطر

... وموت العدم.

15/1/1986

 

2

ماذا؟ هل أعدتِني إلى الزمان؟ ولماذا تحدِّقين بي هكذا من بعيد، ويرتعش وجهُكِ النقي من همٍّ؟ هل أعدتِني إلى عالم البشر، إلى عالم الآمال والوعود التي قد لا تتحقق؟!

لقد عدتُ أرى الناس يملؤون العالم حولنا، وأنت خائفة من شرائعهم.

يا لخيبتي!

 

كيف أنهض من بين الموتى؟

هل أستطيع دحرجة الحجر

لآتي إليكِ

أغمض عينيكِ

وأكشف صدركِ

أرى جراحكِ وألمسها بشفتي

وأريكِ جراح صدري

لتلمسيها بأصابعكِ الدافئة؟

 

هل آتي إلى باب داركم

تحت الشمس في الضباب

لأعلن لكِ

أني قد أبحتُ لكم دمي

لأتلقَّى منكِ أول حجر

قبل أن يصل أول الراجمين الثائرين؟

*** *** ***

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود