|
الكتاب أمس،
المكان، الآن III هوامش (يوميات
المتنبِّي) [مقتطفات] 1.
تخيُّل أتخيَّلُ بغدادَ، لكنني
أُحيِّي حلبًا،
وأحيِّي كوفةَ الثَّائرين – اتْركِ
الحبَّ يدخلْ إليكْ دونَ أن يقرع الباب. كالحلمِ
يأتي إلى مقلتيكْ، دون أن يسألَ اللَّيلَ. طَيْفٌ يترصَّد
بين شقوقِ النَّوافذِ: مِن
أين قلبكَ يمضي إلى سِرِّهِ؟ أتُراه يُحيِّي، وهو يمضي إلى
سِرِّهِ، شجرَ الورد في ساحة البيتِ؟ هل
يتلفَّتُ؟ أيقظتُ في
داخلي أصدقائي لِيرَوْا مِنْ جديدٍ سيفَ
سُلطانِنا كيف يَهْوي عليكَ – وَها هُم
حولَ قبركَ. ماذا؟ هل تقومُ لِتلقاهُمُ، ونُصغي
إليهم ينشدون: سلامًا على عَهدنا وسلامًا
عليكْ. 2. رغبة أتخيَّل بغدادَ، لكنني أُحيِّي حلبًا،
وأُحيِّي كوفة الثَّائرينَ – اهْدَئي،
ذكرياتي، وَاجْلسي.
ركبتايَ سريرانِ. هذي
عروقي عَطشٌ
جارِفٌ. وهذا كبِدُ
الوَقْتِ: من جَمْرِهِ تتدفَّق هذي الوجوهُ التي
تتشرَّدُ. ماذا؟
إهْدَئي واجلسي. أفلاَ ترغبينَ هنا، الآنَ، أن
تَسمعيه يتكلَّم:
ذاك الذي كان يَحيا أبدًا
صامِتًا، بيننا؟ 3. وداع أتخيَّلُ بغدادَ، لكنني
أُحيِّي حلبًا، وأُحيِّي كوفةَ
الثائرين – تَجرَّأْ قلْ وداعًا لأرضكَ، للعشب
فيها، ولأشجارها وأنهارِها. قلْ وداعًا لِسَجَّانها،
لخليفة أنْقاضِها وهو يُملي عليها تعاليمَهُ، وقصائدَ
غِلمانه. وتوسَّلْ إلى غيمةٍ تتفيَّأُ
في ظِلِّها. قُلْ وداعًا لهذا التمزُّق،
هذا الألَمْ وازْفُرِ الآنَ ما خَطَّهُ في يديكَ وفي ناظريكَ وفي
خطواتِكَ وَاصْرخْ: لكمُ
كلُّ شيءٍ وأنا
مثلما تقولون: شخصٌ غريبٌ ليس لي
غيرُ هذي الدَّواةِ وهذا القلَمْ. 4. إمكان أتخيَّل بغدادَ، لكنَّني
أُحيِّي حلبًا،
وأُحيِّي كوفةَ
الثَّائرين – الأزِقَّةُ مَحْشوَّةٌ بالبكاءِ
وبالموتِ، رأسٌ يتدحرجُ. صدرٌ ثَقَبَتْهُ الرِّماحُ. دماءٌ تتحوَّلُ غَزْلاً، وتُنْسَجُ
للأفْقِ منها ثيابٌ. هل ستُصبح، يا أيُّها الأفْقُ،
بُوقًا أم ستُصبح مرثيَّةً؟ يمكن الفكر أن يُطفئَ الآنَ
مصباحَهُ كي يسيرَ على هَدْي تاريخهِ. يمكن الآنَ أن تتحوَّل شمسُ
الغروبِ إلى بُومةٍ. 5. قِباب أتخيَّلُ بغدادَ، لكنَّني
أُحيِّي حَلَبًا،
وأُحيِّي كوفةَ
الثَّائرين – القِبابَ، الشيوخَ
ينامون في ظِلِّها، أو
يقصُّون أيَّامهم. ألدَّقائقُ أوتارُ قيثارةٍ والمصلُّون: كُلٌّ حاضِرٌ
غائبٌ، وكلٌّ يتحدَّثُ في نَفْسهِ إلى غيرهِ: كلُّ ما
يخلق الضَّوءَ فينا، لُغَةٌ
مُرْجَأَهْ. وَطَنٌ
– حِبْرُهُ جِراحاتُنا وَنجهلُ
أنْ نَقْرَأهْ. 6. لَوْ أتخيَّلُ بغدادَ، لكنني
أُحيِّي حَلبًا،
وأُحيِّي كوفةَ الثائرينَ – ترصَّدْ كيفَ
تَعجنُ بغدادُ أحزانَها في
الميادينِ، في كلِّ حيٍّ، وفي كلِّ بيتٍ وتُزاوِجُ
بين الرَّغيفِ وأحلامِها والسَّهَرْ. لَوْ ترصَّدْتَها، لَصنعتَ من اللَّيل قيثارةً
وغنَّيتَها وتَمثَّلْتَ فيها هواكَ
ومَهْديَّكَ المُنتظَرْ. ***
|
|
|