|
الشاعر ليس موظفًا
عند أحد الحياة هي موقد
البحث والسفر
س: "القلق المطمئن" وقود المبدع
المتحوِّل إلى المختلف. ما الهاجس الذي
يكوِّنه هذا القلق لقاسم حداد؟ ج:
مبكرًا قلت إن أخطر ما يمكن أن يتعرَّض له
الإنسان، في سعيه لتحقيق حريته وكرامته، هو
استسلامه ليقين البهائم. وعندما يتعلق الأمر
بالمبدع فإن الشكَّ النشيط وقلق الأسئلة هو
ما يجعل النصَّ الإبداعي قادرًا على التحول
المستمر إلى فعل حيٍّ في الحياة، وبعدها.
فالإبداع الإنساني هو ما يصدر دائمًا عن شهوة
الأسئلة، وليس مما يعلن قبول الأجوبة
المستقرة المنجزة من جاهزية الماضي. الحياة
هي موقد البحث والسفر. من هذه الشرفة، أرى
إلى مشهد الحياة والفن. فأمام المخيِّلة
البشرية ليس ثمة مقدسات تضع الإنسان في مستوى
التابع. المبدع هو أيضًا سيد القلق ومدير
الحوار العميق بين الكائنات. ومن هذه الزاوية
أقرأ المتنبي على طريقتي عندما يقول: "على
قلقٍ كأن الريح تحتي"، لكي لا نقف عند حدود
المعنى الذي اقترحَه علينا الشرَّاح القدماء
الذين لا يرون أبعد من النص، خشية الوقوع في
هاوية الدلالات – والشعر بدون تأويل مستمر
للدلالات يظل جثة تتفسَّخ. وسيتضاعف قلقي عندما
أصادف مبدعًا قليل اليأس، لأن الشك والقلق
هما ما يضع الإنسان في موقع اليأس الجميل –
يأس هو مثل النقد الفاتك بالنسبة لمشاريع
الأمل المهيمنة، كأنها الخلاص الناجز. المبدع
اليائس هو أكثر فعالية وأهمية وجمالاً من مئة
مفكر يروِّجون لأمل غير موجود. لا ينبغي
للمبدع أن يتنازل عن حقِّه في القلق والشكِّ
واليأس. فهذا حق مشروع، مثل حرية الهواء في
أروقة القلب. وإلا فكيف أفهم شخصًا يعلن عن
اطمئنانه ويروِّج له في عالم مثل الذي نقع تحت
وطأته 24 ساعة في اليوم طوال السنوات والقرون
والمجرات. مَن يجرؤ على الجزم بأن ثمة ما يدعو
إلى الاطمئنان الأبله في هذا الكون؟! فنحن، في
أحسن الاحتمالات، متخلفون ثلاثة قرون ضوئية
عن حقِّنا كبشر – مجرد بشر فحسب. ليتني أتذكر الآن اسم
الفيلسوف الذي قال ذات جحيم: "إن الاطمئنان
دناءة روحية" لكي أشكره. س: "الشعر – بوصفه إبداعًا – أحد
معطيات عزلة الشاعر الذهبية." ما الأمداء
التي وفَّرتْها لك العزلة؟ ج:
أكثر من الشعر، العزلة تمنحني حريات أعمق
وأجمل مما أحقِّقه في النص. في العزلة أعرف
نفسي تحت ضوء يصهر الجليد المتراكم في مرايا
الذات بفعل سطوة القطيع. المبدع يكون منتجًا
وفعالاً وحده، وبمفرده، في مواجهة العالم.
وهذا أمر يختلف عن دوره الإجرائي في الحياة
اليومية. الإبداع لا يصدر عن الجماعة، لكنه
يتجلَّى فيهم فيما بعد. لكن دعني أوضح أكثر.
إنني، في مراحل حياتي كلِّها، كنت دائمًا
منهمكًا في مشروع يتصل بالآخر، إن كان
سياسيًّا أو فكريًّا أو أدبيًّا، منذ النضال
الحزبي حتى شبكة الإنترنت؛ وبينهما انشغالات
كثيرة. صحيح إنني صرت ميالاً أكثر في السنوات
الأخيرة إلى العزلة، غير أنها، في العمق،
اتصال أكثر بجوهر الحياة، وليس بظواهرها
السطحية الطارئة والعابرة التي تستنفد طاقة
إنسانية باتت غالية ونادرة في هذه السن.
وعمومية الشخص أو حضوره الانتشاري ليست
دليلاً على مساهمته الحقيقية في الحياة،
خصوصًا إذا وضعنا في الاعتبار أن حياتنا باتت
محاصرة بما لا يحصى من السلطات التي تهندس
مصادرة الإنسان كطاقة إبداعية نقدية. ومن هنا
تبدو العزلة هي حرية الشخص من كلِّ السلطات
وتجلِّياتها وأوهامها في المجتمع والحياة. التجربة علَّمتْني
أن المبدع الضعيف في عزلته أكثر حرية وأقوى من
كلِّ السلطات. وهذا ما أحب أن أسميه الضَّعف
الذي لا يُهزَم، لأنه لا يطلب من العالم
شيئًا، ربما لأنه، عمقيًّا، لا يحتاج شيئًا
من العالم؛ فقد بات مكتفيًا بالكتابة، كأنها
الحياة. من يصل إلى هذه
المرحلة لا تعود أشياء العالم تغريه. وهنا
تكمن قوة النصِّ والشخص معًا. لذلك لا يتحصَّن
بالعزلة الذهبية إلا الأقوياء؛ وليس أقوى من
المبدعين، لو أنهم يدركون ذلك! س: انفتاح النصِّ الشعري بتمهيد مدرسة
الأربعينات بشعر التفعيلة لفكِّ تكبيل
التناظر العمودي (مع الاعتبار بالتجربة
الجمالية لسعيد عقل في التشكيل الشعري داخل
الوزن)، وحتى مرحلة الشعر الحر، كما يقول قاسم
حداد في الكتابة خارج الوزن – أهو التوق
إلى الينابيع والصفاء الطفوليين، كما كان عند
محاكاة شاعرين مهمين (في الشعر ذي المزاج
الحديث)، مثل أدونيس (أرواد) لأجواء
النصِّ الفينيقي الشعري القصصي، وأنسي الحاج
في نصِّه ماموت وشعتاقات، حيث الشعر لا
شكل يحدُّه؟ ج:
لعل الشعر بدأ منذ الأزل بشهوة الانعتاق
والحبِّ في آنٍ واحد. وكلا الهاجسين يذهبان
إلى الحرية من كلِّ طريق. طبيعة الشاعر أن
يفتتح الطرق الجديدة، ويحاول تفادي الطرق
المطروقة التي عبَّدتْها أقدامُ المارة.
الطرق المعروفة سهلة ولا تحتاج لشجاعة أو
موهبة لاكتشافها. فمع كلِّ تجربة شعرية يضاف
نوع من الجمال إلى هذا العالم. وبطبيعة
الأشياء، فإن كلَّ جديد هو غريب وجميل؛ إنه
العالم مضافة إليه الذات الشاعرة. العودة إلى صفاء
الينابيع التي أسَّستْ لطفولة الشخص
الإنساني هي، بشكل ما، الاستعداد الحقيقي
لاقتحام آفاق المستقبل الجديد، حيث لا ينفصل
المستقبل عن الماضي إلا في العقل القاصر عن
إدراك تلك الحركة الجوهرية للحياة. فوهم
القطيعة أحد مظاهر جهلنا للعمق الإنساني
ولفعالية النصِّ وهو يصدر من جذوره الأولى مع
كلِّ تجربة إبداعية حقيقية، فيما يذهب إلى
خفق الأجنحة وهي تصعد إلى الأعالي. وهو ما
سمَّيتُه، ذات نصٍّ، بـ"شهوة الجذور
والأجنحة". س: البحث عن الجانب الإنساني، في وجودنا
الحالي، لعصر قاسٍ على البشر أكثر من قسوتهم
على أنفسهم – أكان سببه ذلك الدافع إلى
الاحتواء الحنون والبعد الحميمي لديك، حين
تشارك مبدعين مرموقين من حقول مختلفة –
كرسامين مثل: جمال هاشم، إبراهيم بوسعد،
وخطاط أيضًا، كضياء العزاوي، أو موسيقي، مثل
خالد الشيخ، أو مغنية مثل هدى عبد الله، أو
روائي مثل أمين صالح – في تجارب جماعية أشبه
بالمغامرات؟ ج:
عبر التجربة، وربما استجابةً لنزوع جماعي
غامض (ولكي أعطف على كلامي قبل قليل)، كنت أشعر
كثيرًا برغبة في خلق حوار إبداعي بيني وبين
التجارب الأخرى. فلديَّ إحساس بأن ثمة، في
الفن، ما يكتمل ويزداد جمالاً كلما تقاطع،
عمقيًّا، مع رؤية إبداعية أخرى. وأظن أن
الأعمال المشتركة التي حقَّقتُها مع مبدعين،
تختلف آليات تعبيرهم وأدواتها، تتصل بشهوة
اقتحام التخوم بين أنواع التعبير الأدبية
التي بدأتها مبكرًا. ففي الاتصال بالفنون
الأخرى طُموح مضاعف لتقمص تعدُّد الرؤى ووضع
الآفاق في حدود التجربة، حيث لا نهاية لنص.
النصُّ هو الحياة. إلى ذلك، فإن هذه التجارب
المشتركة تمنحني المزيد من المعرفة، وتصقل
روحي الشعرية، وتنقذني من النوم بلا أحلام.
كنت دائمًا أقول إن المبدع يتأكد بوجوده مع
مبدعين، وتتأجج أحلامُه وتشتغل مخيِّلتُه
بنشاط عندما يتألق حوارُه مع غيره من
المبدعين. س: وجوه تجربة فارقة وكونية،
استطاعت أن تجمع – بإصرار وحساسية – نزوحًا
إلى إعادة تشكيل علاقة الحرف بالصوت واللون
والجسد، إنما بفداحة حضور الكلمة–الشعر، حيث
نقع عليها بين الإلقاء والغناء والخط. أهو
تصور يعنيه ويعوِّل عليه شاعر مفتون باللغة
مثل قاسم حداد؟ ج:
تجربة وجوه واحدة من الذروات التي شعرت
بأنني أطير فيها بأكثر من جناحين أو ثلاثة!
كنا معًا سربًا يحلِّق بما لا يقاس من
الأجنحة، نخرج ملطَّخين بالكلمات والألوان
والأشكال والموسيقى والغناء والأداء والعناق
الحميم بين أصدقاء لا يتكرَّرون كثيرًا.
والحق أن كلَّ الأصدقاء الذين شاركوا في
التجربة كانوا يمارسون لذة حرية التعبير عن
ذواتهم، بلا قيود ولا خوف ولا سلطات. وهذا أهم
ما كنت أحلم به في مجمل تجربتي. حتى الصديق
الشاعر أدونيس، الذي تفضَّل مشكورًا
بالمشاركة معنا، ما كان له أن يفعل ذلك لولا
روحه الشعرية العالية التي تستشعر مكامن
الصدق في التجربة وذهابها إلى حريات المبدع.
فعندما يقرأ أدونيس الشعر لن تقدر على مقاومة
شغفك بالإصغاء لكي تكتشف شيئًا جديدًا في
كلِّ مرة، كما لو أنه يقوله لك الشعر أنت
بالذات. فإنني لم أصادف شاعرًا يقرأ مثل
أدونيس! لقد كانت لحظة لا توصف من لحظات
الصداقة الحميمة بين مبدعين أحرار. كما أنني تولَّعتُ
مجددًا بالرسم من خلال التشكيل الذي حقَّقه
الصديق إبراهيم بوسعد. وإبراهيم هو،
بالمناسبة، مطلق الشرارة الأولى في التجربة،
وهو فنان يعمل دائمًا على تجاوز نفسه ويسعى
إلى صياغة تجاربه في ضوء تفجُّره الداخلي. وقد
حقق في وجوه رحابة مهمة في سياق تجربته،
إضافة إلى رحابة صدره التي لا توصَف، لكي يثبت
لنا درسًا في ديموقراطية المبدع مع أحبَّائه. أما الصديق خالد
الشيخ فقد منحني معرفة إضافية لم أعهدها من
قبل. عشت معه يوميات الجحيم وهو يخلق الموسيقى
ويصوغ الألحان. ولعل في طبيعة خالد الشيخ
الشكَّاكة والقلقة ما جعلني أشعر بالاطمئنان
بأن كلَّ شيء سيكون على ما نشتهي، وأن الفشل
ليس في برنامج عملنا. ومن يريد أن يتعلَّم
أجمل طريقة للانتحار بلا ندم يشترك بعمل فني
مع خالد الشيخ! بقي أن أقول بأننا في وجوه
وضعنا الآخرين في مواجهة تجربة تشغيل بعض
الحواس المعطَّلة والمسكوت عنها، أو التي ظلت
توظَّف منعزلة بعضها عن بعض طوال الوقت.
فالإنسان العربي يصدر عادة من ثقافة تأسَّستْ
على خبرة سمعية وشفهية بالدرجة الأولى، مما
جعل الحسَّ البصري فقيرًا أو ضعيفًا؛ أو أنه
يصير مهملاً وغير نشط، مما أدى إلى ضموره.
وعندما دخل الجمهور معنا تجربة وجوه
خالَجَه فرحُ اكتشاف حواسه وهي تشتغل بنشاط
غير مألوف. بهذا المعنى، أظن أن وجوه
تجربة لا تزال قيد العمل والإنتاج في حقول
الآخرين، بوصفهم أفرادًا مختلفي درجات
الحساسة والاستعداد الذاتي، وليس باعتبارهم
قطيعًا واحدًا متجانسًا. واللغة هنا تتجاوز
مفهوم الدلالات الرمزية المباشرة، لتتحول
إلى أفق الدلالات والتأويل، المفتوح على غموض
النفس البشرية، حيث كلُّ شخص ينطوي على
معانيه وحساسياته ذات الحيوية الخاصة
والمميزة. عندما تأتيك طفلة في
العاشرة تزور معرض وجوه، ثم تسألك عن معنى
"زعفران المرايا"، عليك أن تتسلَّح
بكلِّ الأساطير لكي لا تذوب غبطًا بالسؤال.
مجرد ذلك السؤال من تلك الطفلة كان يكفيني
لبقية العمر! كما أنني لا أعرف توصيف حادث
آخر، حين استوقفني شخصٌ لا أعرفه ليخبرني
أنه، بعد أن استمع لشريط وجوه، رمى بكلِّ
الأشرطة من سيارته، واحتفظ بشريط وجوه
فقط. وبمعزل عن البعد الانفعالي والعاطفي في
هذه الحادثة، فإنها، على صعيد الثقافة
السائدة، لا تخلو من دلالة. س: "الذي يحيد عن التراث، يكون عرضة
للاستثناء؛ والذي يلتزم به يصير عبدًا.
والمرء، في كلتا الحالتين، يمضي إلى هلاكه"،
قال نيتشه. النصُّ في وجوه، على صعد
المنجَز الشعري، لمرحلة مستجدة في تجربة قاسم
حداد، أخذتْ أبعادًا في المناجاة النفسية
وخلقتْ تشكيلاً هندسيًّا في الترتيب السطري.
وفي صورة المأساة احتلتْ نصوص أخرى بالترتيب
السردي. أين يقع صراع قاسم في المضمون والشكل؟ ج:
بالنسبة لي، لم تعد مسألة الشكل والمضمون
تشكِّل هاجسًا. بل إن الجانب الجادَّ في
المشهد الأدبي لم يعد يأخذ هذا الأمر مأخذ
الجد. ثمة تطورات عميقة حدثت في التجربة
الأدبية العربية، وتبلورتْ مثل هذه القضايا
نحو آفاق أكثر عمقًا وحيوية. هي علامات مرحلة
ذهبت إلى غير رجعة. وأظن أن نيتشه، إذا
أردنا مشاكسة منظوراته، لا يريد لأحد أن
يستسلم لرغبة النجاة من المهالك. ففي لحظة
الخطر، حسب نيتشه، يتأكد الإنسان ككائن جدير
بمجابهة أقداره. القوي عنده هو من يختار الصعب
من المسالك. ولذلك سأقترح عليك أن تختار كلمة
نيتشه لسياق آخر غير مقدمة سؤالك الراهن. فثمة
مسافات ضوئية بين ثنائية تقليدية، مثل الشكل
والمضمون، وبين نيتشه، الذي لن يرى في
ثنائياتنا العقيمة غير الاستسلام الفجِّ
لأقدار غاية في الهشاشة. لا مجد لمن يجابه
أقدارًا ضعيفة – فما بالك بالاستسلام لها؟! س: "ليس لك أن تنجو من وهدة الخاتمة؛
فليس ثمة نهاية لنص." وقاسم تحدى العدوَّ بـ"قبره"؛
ثم ينتقل إلى تعميد "الجبل بالظلام"، إذ
يفتح على المكان والزمان الآن جحيمًا
معرفيًّا. كيف ذلك؟ ج:
كلما ازداد الإنسان معرفة ازداد حزنًا – هكذا
في الكتاب المقدس. وهكذا أتبادل
الأنخاب مع أقداري. إنني أعرف ما أفعل، غير
أنني لا أزعم معرفة تفاصيل هذه الأقدار.
فالمسافة بين شهوة المعرفة وإدراكها هي ما
يستحوذ عليَّ في السنوات الأخيرة. وكثرًا ما
ينتابني الرعب لمجرد التفكير في كون الوقت لم
يعد يسعفني لإدراك هذه المسافة. ما يمنحني
الطاقة الغامضة لمواصلة العمل هو أن النصَّ
لا ينتهي بنهاية الشخص. وهذا يكفي – مؤقتًا. *** *** *** حاوره:
أحمد الواصل
|
|
|