|
على
صعيد أعلى حياة جبران خليل
جبران وماري هاسكل
رسمان
لماري هاسكل وجبران على الورقة نفسها، بقلم
هذا الأخير (1910) ثمة
إجماع على الإقرار بأن رسائل جبران الفنية
والأدبية تتصادى على تواتر روحي. فمؤلَّفاته،
إذ تخاطب الروح، تراها تغذي روح الإنسانية في
مسعاها الدائم. لكن مهما تعددت الأحداثُ
والشخصياتُ التي أثَّرتْ في جبران خليل
جبران، فقد كان لامرأة، هي ماري هاسكل
ماينِس، أكبر الوَقْع عليه. فهي، بوصفها
مؤازرة لفنِّه وأدبه، قد منحتْه الأمل
والحرية؛ وبوصفها أستاذة وموجِّهة أدبية،
زوَّدتْه بالحدس وبالنزاهة، إضافة إلى
تمكُّن عميق من اللغة الإنكليزية؛ وبوصفها
صديقة، قدَّمتْ له المودة والتشجيع وإيمانًا
لا يتزعزع بإمكاناته. وفي المقابل، قدَّم
جبران لماري المودة والتشجيع والثقة
بملَكاتها كأستاذة ومؤمنة بالمذهب الإنساني.
ومعًا ارتبط جبران وماري هاسكل برباط لا
يفنى، كان لا بدَّ أن يتجاوز حدود الموت. التقى جبران وماري هاسكل في
بوسطن في العام 1904 لدى افتتاح معرضه الأول في
مشغل المصوِّر والناشر فريد هولاند داي. وقد
بلغ تأثُّر ماري بموهبة جبران حدًّا دفع بها
إلى دعوته للعرض في مدرسة البنات التي كانت
تديرها، على أمل إطْلاع تلميذاتها على عمل
فنان وليد. وبعد فترة وجيزة من تعارفهما، صارت
ماري تدعو جبران إلى مرافقتها في مآدب عشاء،
وقدَّمتْه إلى أصدقاء لها، وزوَّدتْه بدعمها
المادي. ومع تطور العلاقة الشخصية بينهما
تطورًا بطيئًا، ارتبطا برباط أساسه فلسفتهما
المشتركة في الوجود والدين. ذلك أن كلاهما
تخلَّى باكرًا عن تربيته المسيحية التقليدية.
ففي العام 1897، صرَّح جبران لداي: "لم أعد
كاثوليكيًّا، بل صرتُ وثنيًّا."1
وفي العام 1894، قبلئذٍ بثلاث سنين، كانت ماري
قد أسرَّتْ لإحدى صديقاتها بأنها "لم تعد
مسيحية متنصِّرة أرثوذكسية"2.
علاوة على ذلك، لم يكن كلٌّ من جبران وماري
على سجيتهما في نيو إنغلاند. فلعل جذور ماري
الجنوبية ولَكْنتها
المحتملة كانت تبدو غرائبية، لكنْ مألوفة، في
نظر اللبناني الشاب الذي كثيرًا ما كان يشعر
بنفسه غريبًا وسط نخبة بوسطن. في العام 1908، أرسلت ماري جبران
إلى باريس لدراسة الرسم. وهناك، إذ أصاب جبران
بعض النجاح، شارك في العديد من المسابقات،
وأقام معرضًا لدى الجمعية الوطنية للفنون
الجميلة، كما دُعِيَ لتقديم لوحاته في
الاتحاد الدولي للفنون الجميلة والآداب. وقد
منحتْه هذه التجربة القيِّمة أساسًا
أكاديميًّا بنى عليه، من بعدُ، مساره الفني. لدى عودته إلى الولايات
المتحدة في العام 1910، كاشَف جبران – وعمره
آنذاك 27 عامًا – ماري بحبِّه ووعدها بالزواج.
وقد قبلتْ ماري ذات الـ37 عامًا، السعيدة
والعاشقة، التي سبق لها أن رفضت العديد من
عروض الزواج، عرضه ذاك. لكن خطبتهما لم تدمْ
طويلاً؛ إذ إن ماري كانت تتألم من فارق السنِّ
بينهما، وكانت تعتقد بأن زواجهما سيؤذي مساره
كرسَّام. وإذ أمِلَتْ أن تثنيَه عن الأمر،
أرتْه صورًا لها غير جميلة بنظرها. ومع أن
موقفها لم يؤثر البتة على الحبِّ الذي يكنُّه
جبران لها، لكنه قبل الانصياع لرغباتها.
وعلاوة على الأسباب التي كانت ماري تتذرع
بها، كانت ربما قلقة من انعكاسات زواج كهذا
على مسيرتها المهنية وعلى عائلتها؛ لكن
القرار النهائي الذي اتخذته يعود، على
الأغلب، إلى أنها لم تكن تشعر بأنها مرغوبة
بما يكفي. وقد بقي الصديقان مرارًا ما يأتيان
على ذكر احتمال الزواج، فكانا يتوصلان دومًا
إلى النتيجة نفسها. لكن جبران وماري، على الرغم من
كلِّ ما كابدا في علاقتهما، ظلا صديقين
حميمين. لا بل إن علاقتهما ازدادت قوة مع
الأيام، حيث كانا يعتبران نفسيهما روحين
شقيقتين تعرف كلٌّ منهما الأخرى منذ آلاف
السنين. فكانا يتخذان قراراتهما الوجودية
انطلاقًا من مفهوم "الذات الكبرى" في
كلٍّ منهما، في مقابل "الذات الصغرى" أي
"الذات الأنانية". ففي العام 1915، في أحد
رسائله إليها، كتب جبران يقول: مثل ما بيننا كمثل المطلق في
الحياة. كلٌّ منَّا، أنت وأنا يا ماري، يفهم
الذات الكبرى للآخر؛ وهذا الأمر في نظري أروع
ما في الحياة.3 فصِلتُهما الحميمة كانت تتجاوز
بكثير التجاذب الجسدي والروحي. كان كلاهما
يعمل مع الآخر لتطوير الآخر ولتطوير المجتمع
عبر فنِّ جبران وأدبه. وقد سئم جبران أجواء بوسطن
المحافظة، فانتقل إلى نيويورك التي استقر
فيها في العام 1911 على أمل تسريع مساره. وهناك
انتهى به الأمر لأن يجد مرسمًا كبيرًا في ذلك
البناء الشهير من الشارع العاشر. وقد بقيت
ماري تؤثِّر فيه وتسانده ماديًّا؛ لا بل إنها
شجعته على الكتابة وعلى التفكير باللغة
الإنكليزية، وذلك بحضِّه على القراءة بصوت
مرتفع. ثم، حين طفق يكتب بهذه اللغة، أصبحت هي
"محرِّرته". ففي أحد رسائله إليها، في
العام 1917، كتب جبران يقول: كما ترين يا ماري، أنا أيضًا
أعتبر نفسي تلميذًا في مدرستك، لأني متأكد من
أني لولاك لما كان بوسعي كتابة كلمة واحدة
بالإنكليزية. لكنْ مازال عليَّ تعلُّم الكثير
قبل أن أتمكَّن من تجسيد أفكاري بهذه اللغة
الرائعة.4 وقد نشر جبران بعدئذٍ ثمانية
كتب بالإنكليزية، منها كتابه الأشهر: النبي.
وبعد نشر النبي، أدلتْ ماري بنبوءة فيه،
جَسورة لكنها صحيحة: سوف يُعتبَر هذا الكتاب أحد
كنوز الأدب الإنكليزي [...]. إنه أكثر الكتب
التي كُتِبَتْ محبةً. وهذا لأنك أكبر العشاق
الذين كتبوا على مرِّ العصور [...]. ومع مرور
السنين سيحبك الكثيرون، حتى بعد أن يستحيل
جسمك ترابًا بزمن طويل. فهم سيجدونك في
أعمالك، لأنك تبدو جليًّا فيها جلاء الله.5 إن كلمات الثناء والإعجاب
القليلة هذه تصف الصلة التي كانت تربط بين
روحيهما. لقد كانت ماري تتناقش وجبران
حول أفكاره، سواء تلك المتعلقة بكتاباته أو
برسومه، كما كانت تبسط معه خطط عرض أعماله
وبيعها. وكانت تزجيه النصح في قضايا الصحة،
وتهتم لأسلوب عيشه، وتسهر على شقيقته في
بوسطن حين يكون متغيبًا في نيويورك؛ لا بل
إنها، بدءًا من العام 1910، باتت تشعر بأنها
أصبحت مكلَّفة بمتابعة أدنى جوانب حياته.
وهذه اللفتة كانت عربون رضاها الأخير. وحين
كانت ماري ما تزال طالبة في ولِّسلي، فهمتْ
بأن الاحتفاظ بيوميات حميمة يتيح للمرء نقل
رسالة قد تنجو من الموت. وكان ي. و. هِغِّنسون،
الأستاذ المكلَّف في ولِّسلي، قد قرأ مقتطفات
من يوميات قام بتدوينها بمناسبة رحلات قام
بها إلى إنكلترا. وهكذا كتبتْ ماري في أول
يومياتها في العام 1894: لقد اجتمع هناك إلى داروِن
وتينِّسون، ولست قادرة، لا بل إني لا أجرؤ على
البوح بغيرهما من الكبار والمرموقين، وقد
تحلَّى بحكمة أن يحتفظ بيوميات عن كلِّ هذه
الأحداث المشرِّفة.6
وقد تنبأتْ يومذاك بقولها: وهذا الأمر أوحى إليَّ بفكرة أن
أكتب شيئًا قد يمكِّنني، ربما بعد انقضاء
سنين عديدة، من اكتشاف إطار عادات شبابي
وظروفه وأفكاره، فيما لو اتفق ذات يوم لراوية
أن يسعى إلى معرفة هذا الإطار.7 بالإضافة إلى ذلك، شجعتْ
صديقةً لها على كتابة يوميات عن حياتها مع مَن
سوف تتزوج، الذي كان من خرِّيجي هارفَرد وكان
يباشر مسيرة فذة كصحفي في لندن. وهكذا فإن
قرار ماري بتدوين يوميات مخصَّصة لجبران
حصرًا يعني أنها كانت تعتقد بأن الفنان لم يكن
شخصية مهمة في نظرها وحسب، بل فرد جدير بكتابة
سيرة معاصرة له. وكما كانت منزلة ماري في حياته،
كذلك كان جبران كاتم أسرار صديقته والناصح
لها. فقد صمَّم لمدرستها شعارات وجوائز،
وتباحث معها حول تعليمها وجوانب أخرى من
حياتها المهنية. ففي دروس ماري الأدبية حول
"نَفْس العالم"، التي كانت ترتكز على
مقتطفات من كتاب الموتى المصري وسفر أيوب
وإسخيلوس وسوفوكليس وإفريبيذِس والقرآن
ودانتي وشكسبير وفاوست وبلزاك ونيتشه
وإبسِن وويتمَن،8
كان الصديقان يتبادلان الأفكار وكتَّابهما
الأثيرين مع طالبات ماري. وحين كانت ماري تشعر
باليأس من عملها، كان جبران يواسيها. ففي
العام 1920، كتبت له ماري معبِّرة عن قلقها من
الوضع الذي ولَّده عرضُ عدد من رسومه في
مدرستها، ومن بينها أم السماء (وهو على
الأغلب ذلك الرسم بعنوان الأم السماوية،
المتضمَّن في مجموعة متحف تِلفير للفن). لقد
نصحت لها إحدى الأمهات، إضافة إلى عدة
أساتذة، باستبعاد لوحات جبران العارية، لأن
"من شأن الصور أن تسبب حرجًا للفتيات"9.
لذلك كتبت لجبران – وهي الوفية لأفكارها
التقدمية – تشرح رؤيتها متألِّمة: شعوري بخصوص الشخوص العارية
هاهنا هو أن الصبايا محظوظات إذ يستطعن
رؤيتها وسط أشخاص يحببنهم ويحترمنهم. فوجودها
يعلِّم بأن لا شيء مخجل في العري أو في الجسد
– وبأن الأمر ليس حرامًا بين أشخاص مرغوبين –
وبأن هذا لا ينبغي أن يُحرِج الصبايا. فالصور
تطمئِن في الصمت. فإذا اتَّفق لصبية أن ترغب
في النظر إلى أجسام عارية، فلترَها علنًا
هنا، ولنوفِّر عليها الخجل من رغبتها. إذا
كانت تريد أن ترى العري فهل الرغبة مذمومة؟
يبدو لي أنها ليست كذلك. فلم لا نلبِّي لها هذه
الرغبة؟ [...] يبدو لي هذا القلق بخصوص أثر هذه
الرسوم على الصبايا جزءًا من هذا الموقف
المعقد جدًّا، المتخوِّف والملول حيال
الحياة، الذي يجعلني الناس أستشعره على
الدوام.10 وقد قدَّم لها جبران، جوابًا عن
تساؤلاتها، النصائح التالية: لعل إزالة جميع تلك الصور التي
تسيء إلى لصبايا وأمهاتهنَّ من على الجدران
هو فعل الشيء الأوفر حكمة والألطف [...]. ففي
النهاية، أي حرج في هذا الأمر لكِ أو لي؟ ما من
شيء ينبغي أن يُظهِر الأشياء سوداء لعينيك أو
لعينيَّ. فما يشعر به الناس ويفكرون فيه هو
جزء من الحياة، وأنتِ
وأنا قبلنا دائمًا الحياة بأسرها. فجذر
الشجرة ليس أدنى من أعلى أغصانها.11
ورسائلهما لا تشهد على
توادُدهما العميق وحسب، بل تبيِّن كذلك
أفكارهما التقدمية. لعب جبران، بالمثل، دورًا
هامًّا في قرار ماري بالإقامة في سافانا في
أعقاب وفاة ابنة عمتِّها لويز غيلمِر ماينِس.
فقد شجعها على التصرف على هَدْيٍ من قلبها،
وعلى التفكير مليًّا في الإحباطات، وضيق
الذهن بخاصة، التي كان عليها أن تواجهها في
مدرستها، وهي تَزِنُ خياراتِها. فلعل قرار
ماري بالعودة إلى الجنوب يعود إلى أنها كانت
تشعر بأنه لم تعد ثمة حاجة إليها في بوسطن.
فبالإضافة إلى خيباتها في المدرسة، كانت قد
أدَّت التزاماتها حيال الفنانين والباحثين
الآخرين الذين كانت تدعمهم، وكانت – أغلب
الظن – مستعدة للتغيير؛ ناهيك عن أن مسيرة
جبران كانت في بداية انطلاقتها. فكتابه
الأشهر النبي نُشِرَ بعيد انتقالها إلى
الجنوب مباشرة. في العام 1923، باشرت ماري هاسكل
حياتها الجديدة في سافانا، كرفيقة لجاكوب
فلورانس ماينِس، زوج ابنة عمتها المتوفاة؛
وفي العام 1926 تزوجا. أما جبران، العارف بأن
الوقت الذي بات بالإمكان أن يقضياه معًا
محسوب، فقد أكد لها في العام 1922 إخلاصه: سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت
أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن
طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان
ذلك هو القَدَر [...]. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي
الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا
دائمًا. أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم.
وهذه القربى، هذه الحميمية في كياننا الروحي،
لن تتغير، حتى وإن اتفق لك أن تتزوجي سبع
مرات، ومن سبع رجال مختلفين.12 أما ماري فقد استمرت بعد
انتقالها تعمل "محرِّرة" لجبران؛ لا بل
إنها ساعدته على حلِّ صعوباته المالية. لكن
اتصالاتهما باتت محدودة، وخاصة بسبب غيرة
فلورانس. حتى إن ماري غيرت في يومياتها الحرف
الذي تشير به إلى اسم جبران من G
إلى C.J.، وذلك
خشية أن يقرأ فلورانس يومياتها. ومع ذلك فإن
الفراق لم يقطع الصلات بين جبران وماري. لقد كانت ماري، إضافة للدعم
الذي تقدِّمه لجبران، تساعد العديد من الشبان
على إكمال دراساتهم. وهكذا دعمت المهاجر
اليوناني الشاب أريستيذِس فوتريذِس – الذي
أصبح بعدئذٍ أستاذًا للإنسانيات في جامعة ييل
– إبان فترة دراسته بكاملها؛ لا بل إنها
موَّلتْ حتى تحضيره للدكتوراه في جامعة
هارفَرد. كما أنها قدمت للمهاجر اليهودي
الشاب جاكوب غيلِّر المساعدة المالية التي
مكَّنتْه من فتح مكتبة. كذلك استفاد من دعمها
الكثير من النساء، وخاصة منهن شارلوت تيلِّر
وإيميلي ميشيل وبربارة يانغ. وشارلوت تيلِّر
هذه لم تكن تفوق مودتُها لماري سوى مودتها
لحبيب قلبها جبران. فهذه المرأة المطلَّقة من
كولورادو كانت مناضلة نسائية عنيدة؛ وكانت
تحقيقاتها الصحفية ومسرحياتها تتناول، في
جملة أشياء أخرى، الحركات الاجتماعية
التقدمية، كـHull House
جين أدامس، ونزاعات العمل في كولورادو، و"دكاكين
العَرَق" sweatshops (مشاغل كان يُستغَلُّ فيها
العمال) في شيكاغو، كما والعديد من المسائل
النسوية.13
وفي العام 1906، كتبت ماري بضعة سطور في يوميات
مختصرة على حدة بخصوص لقاء مع شارلوت: تحدثت طوال اليوم مع شارلوت [...]
عَبَرْتُ الجسر مع ش. حبكة كتابيها "قانون
آخر" و"عودة الساحرة"، "جان دارك".
سيرة حياتها وحياتي. المهم إيجاد مركزنا.14 لكن على الرغم من حميمية
علاقاتهما فقد انقطع الاتصال بين المرأتين في
بداية العشرينيات. أما إيميلي ميشيل، أو ميشلين،
كما كانت تُدعى توددًا، فكانت من أصل فرنسي،
وكانت تدرِّس لغتها الأم في مدرسة ماري،
وتطمح لأن تصبح ممثلة. فساندتْها ماري في
سعيها لتحقيق حلمها في نيويورك. لكن محاولتها
باءت مع الأسف بالفشل، الأمر الذي أرغم
المرأة الشابة على العودة إلى التدريس. أما
بربارة يانغ، سكرتيرة جبران عند مماته، فقد
استطاعت، بفضل دعم ماري المادي، التدخل
باسمها في بعض القضايا المتعلقة بتَرِكَة
جبران، باعتبارها كانت مقيمة في نيويورك.
وهذا الدعم، على محدوديته، هو الذي مكَّن
بربارة من قرض الشعر، إضافة لكتابة سيرة
لجبران. لقد
كان ربيبو ماري عديدين، لكن جبران ظلَّ
أعزَّهم؛ وهو الذي حالفه النجاح الأكبر.
وسخاء ماري واهتمامها الدائمان حرَّضا
أحيانًا منافسات خفية بين المستفيدين
الرئيسيين من جودها، وتحديدًا بين جبران
وشارلوت؛ لكنهم إجمالاً كانوا ممتنين لها على
برِّها. ثم إن شارلوت هي التي دفعتْها إلى دعم
جاكوب غيلِّر. وجبران نفسه كان يعبِّر عن
سعادته البالغة برؤيتها بهذا السخاء. ففي
العام 1913، دوَّنت ماري في يومياتها: عندما أخبرت خ بأني إبان
السنوات السبع الأخيرة أنفقت ما يقارب الـ40000
دولار، حدجني بنظره محبذًا، وكأني أخبرته
بأني حسَّنتُ روح الإنسان – وقال لي إن هذا
بديع.15 وكانت ماري أبعد ما تكون عن
حياة البذخ، بل كانت توفر المال بعيشها حياةً
بسيطة جدًّا، ولا تتردد غالبًا في تحمُّل
سائر أنواع الشظف. فهي كانت تعتقد بأن المال يمرُّ فقط بين أيدينا
بكلِّ بساطة؛ إنه مسؤولية، وليس ملكية [...].
فالعلاقة الجيدة مع المال هي في حُسْن
استعماله.16 وحتى حين عاشت حياة أكثر رغدًا،
تتضمن الأسفار وحفلات الاستقبال، بعد زواجها
من ج. فلورانس ماينِس في سافانا، لم تتخلَّ قط
عن كرمها. وإذ بقيت وفيَّة لسجيَّتها، اهتمت
بمصير خَدَم ماينِس، وتعاملت مع هيئات
ثقافية، كـ"أكاديمية تِلفير للفنون
وللعلوم" (التي أصبح اسمها اليوم "متحف
تِلفير للفن"). كانت مساهمةُ ماري هاسكل
ماينِس الاجتماعية مساهمةَ المحسنة الصامتة.
كانت تعمل وراء الكواليس، بشكل غير مباشر
وشخصي. فهي، كحال غالبية نساء جيلها ومكانتهن
الاجتماعية، كانت طريقتها المتكتمة في
العطاء هي المقياس السائد، بحيث إن القليل
جدًّا من الناس كانوا على علم بمساهماتها في
ميادين التربية والثقافة والقضايا
الاجتماعية. لقد كانت تشعر – ولا ريب –
بمسؤوليتها حيال الإنسانية، لكن أعمالها
الخيرية لم تكن تبدو في نظرها أقل تحريضًا،
سواء من الناحية الذهنية أو الفكرية، وذلك،
إلى حدٍّ كبير، بفضل القضايا التي اختارت
الدفاع عنها، ولأن ربيبيها كانوا يسعون
لتحقيق اختراقات إبداعية وفكرية. وما كان
يميِّز ماري عن غيرها من الرعاة هو أنها لم
تكن فقط تساند فنانين وباحثين وحركات تربوية
وقضايا اجتماعية ماديًّا، إنما كانت أيضًا
تساهم مساهمة فعالة في فعالياتهم. لقد عرفت ماري هاسكل، المولودة
في العام 1873، إبان طفولتها صراعات ونزاعات
اجتماعية. فقد كانت واحدة من الأبناء العشرة
لضابط كونفدرالي شارك في الحرب الأهلية
الأمريكية. وعلى الرغم من أن عائلتها تمكَّنت
من استعادة ثروتها مع منعطف القرن، إلا أنها
تعلَّمت في تلك الأزمنة الصعبة، الساحقة
أحيانًا، لإعادة إعمار الولايات الجنوبية،
الشجاعةَ والاقتصادَ والمثابرة. ولدت في
كولومبيا، كارولينا الجنوبية، ودرست في
جامعة ولِّسلي، ماساتشوستس، قبل أن تؤسِّس
مدرستها الثانوية الخاصة للبنات في بوسطن في
العام 1902. وبحكم كونها مربية تقدمية،
وفَّرت ماري لتلميذاتها تربية ليبرالية،
فجعلتهن يعشن تجارب متنوعة تمثِّل للواقع
الاجتماعي، فاصطحبتهن لزيارة المعامل
والمستشفيات والمتاحف. كما أنها كثيرًا ما
كانت تدعو شخصيات، ولاسيما فنانين
وكتَّابًا، لزيارة صفِّها. فإليزابث مورغان،
التي كانت إحدى تلميذات ماري هاسكل، والتي
عملت بعدئذٍ في صالة العرض الوطنية وأصبحت
مديرة لمتحف جامعة سميث للفن في نورثمبتون،
ماساتشوستس، احتفظت عن ماري بذكرى أنها كانت
امرأة تشجع تلميذاتها تشجيعًا حاذقًا، لكنه
فعَّال. لأني أتذكَّر جيدًا الحصة
الأولى في ذلك الصباح – وكنت يومها في سنتي
المدرسية الأولى؛ كان عمري [بين] العاشرة
والثالثة عشر، وكان شعري مضفورًا. ثم جلسنا
على مقاعد طويلة. عندئذٍ دخلت علينا الآنسة
هاسكل وكأنها تسير على غيمة – ولا أجد غير هذا
الاستعارة للتعبير. كانت تنبثُّ منها هالة
ييتسية، بالفولار المعقود حول عنقها، وشرعت
تلقي علينا أبياتًا من ييتس: "سوف أقف،
الآن، وأذهب إلى إينِسْفري." كان هذا
رائعًا، وكنا جالسات على حواف كراسينا. كان
الأمر عبارة عن عرض مسرحي عظيم، بدون موسيقى،
ولا صلاة رسمية. ثم قالت ما كانت تريد قوله
بهدوء شديد، وانصرفت. كنَّا كأننا في مصلَّى.
لم ننشد تراتيل ولا مزامير، بل ببساطة شديدة:
"سوف أقف، وأذهب إلى إينِسْفري." أي فقط
الوقوف والسمو والمغادرة، أجل، الذهاب إلى
إينِسْفري. كان شيئًا لا يصدق حقًّا، يومذاك
وكلما استرجعته بالذاكرة. لقد تركت فينا
انطباعًا عميقًا. لم يخطر ببال أية منَّا قط
أن ترتكب حماقات. لقد كنَّا على صعيد أعلى...
وكانت هي تقودنا بشكل غير مباشر. ونحن نبذل
قصارى جهودنا المرعبة، بدون أن نتنافس فيما
بيننا، بل كنَّا فقط نجاري ضربًا من الفكرة
تسبح في الهواء. يصعب عليَّ التعبير عن ذلك،
لكنها كانت تمرِّر الفكرة. لهذا تراني أعتقد
اليوم بأن المدرسة كانت نجاحًا باهرًا.17 لكن ماري لم تُبهِر فقط
طالباتها بحضورها الأخَّاذ وبسموِّ منظورها،
إنما كانت تقدم لهن أيضًا القدوة الحسنة. فهي،
إذ كانت تسعى دائمًا إلى تحسين ذاتها وإلى
تحسين الآخرين، فقد اجتهدت في الإخلاص لشعار
المدرسة: Truth
and Gentle Deeds (أي "الحقيقة والغيرية").18 كذلك، إذ سعت ماري هاسكل إلى
بلوغ صعيد أعلى باستمرار، كانت تضع نفسها
دومًا أمام تحديات على مختلف المستويات. فهي،
جسديًّا، كانت رياضية جيدة؛ فقد قضت أصيافًا
عديدة سيرًا في غرب الولايات المتحدة.
وغالبًا ما كانت تقوم برحلاتها مع مجموعة
إيكولوجية، هي نادي السييرَّا؛ لكنها أيضًا
مرارًا ما كانت تسير وتخيِّم بمفردها. ففي
العام 1914، بينما كانت في يوسمايت،
كاليفورنيا، كتبت تقصُّ على جبران إحدى هذه
الرحلات: ما أعظمه وألطفه وأهدأه، في هذه الأوقات،
يا خليل – كم هو مؤثر، مهدئ، طبيعي، رائع [...].
هذه الأشجار، هذه الصخور، والسماء وخرير
النهر، وتلك الجبال الجرداء الثلاثة التي نقف
على سفوحها.19
فنحن كلُّ ما بوسعنا أن نرى، ما عدا بعض
القيق، وفأرة، وجرذًا، وسنجاب قرمزي باسل –
والكثير من الحشرات. أحيانًا يبدو وكأن
أصواتًا تتصاعد من الدرب في الأسفل – لأني
أقف الآن عند طرف وادٍ، حيث تصير الجبال أشد
وعورة والشلالات أسرع، وحيث لا يصعد من الناس
للصيد أو لمجرد النظر إلا القليل. لكني لا
أراهم، ولا أحد يراني [...]. فأنا أعيش في خبايا
أكداس من الصخور – كأصابع اليد الخمسة. لقد
كنا نتخيَّل مثل تلك المخابئ للُّصوص حين
كنَّا صغارًا. مرة كلَّ يوم أغادره – عند غياب
الشمس، فأنزل راكضة حتى النهر، الذي يتسع،
تحت الشلالات، إلى مساحة أوسع من الماء
المنعش، لكن بدون تيار على الجانب الذي أقف
عنده – ومباشرة من على الصخرة، أغطس في الماء
حتى صدري. إن دزينة من الغطسات في هذا الماء
المثلج لتعادل مسيرًا جيدًا – ثم أملأ دلوي
وأعاود الصعود ركضًا. وإذ لا أحد عن مقربة
مني، في مثل هذا الوقت المتأخر – لذا أتجرَّد
كذلك من ملابسي – يكون هذا أيضًا بمثابة
التمرين لي. للإفطار والعشاء أطبخ أو أسخِّن
شيئًا على النار. أمَّا عند الظهر، فإني
أُخرِج شيئًا من حقيبتي – بسكويت، ثمار
مجففة، وشوكولا.20 لقد كانت هذه الحياة في الهواء
الطلق تمنح ماري إمكانية التحرر من القيود
الاجتماعية ومن السلوكيات التي تفرض نفسها
على معظم النساء اللواتي في مثل منزلتها. فهي،
المقيَّدة بعوائد بدايات القرن العشرين،
كانت تتخلَّى – ولو لفترة براءة وجيزة كلَّ
صيف – عن أسلوب عيشها الاتباعي. وقد شاركت
جبران، الشخص الوحيد الذي كان يفهمها، خبرات
هذه الحياة البرية في الغرب. فأفكار ماري
المتقدمة ما كانت إلا لتتوازى مع فلسفة جبران
العميقة حول العلاقات بين الأشياء كلِّها.
روحيًّا، كانت ماري قد نبذت تربيتها المسيحية
التقليدية، لكنها بقيت تؤمن بالمسؤولية
الأخلاقية للفرد. وكانت قناعاتها هذه تنعكس
من خلال التربية التي كانت تلقِّنها
لتلميذاتها ومن خلال برِّها. كانت أفكارها
حول الله والدين مبثوثة هي الأخرى في سياق
يومياتها ومراسلتها مع جبران. توفي جبران خليل جبران يوم
الجمعة الموافق للعاشر من نيسان 1931. لكن
الصداقة الأبدية التي ربطت ماري هاسكل وجبران
خليل جبران أبقت على الصلة بينهما قوية لا
يطالها موت. فحتى بعد وفاته، بقيت ماري تتصرف
باسم صديقها الحبيب. فقد كانت رغبات جبران
الأخيرة ووصيته تشير بأن تعود مقتنيات مرسمه
إلى ماري هاسكل ماينِس، وما يتبقى إلى شقيقته
مريانا. لذلك، مواجِهةً كلَّ العقبات –
متمثِّلةً في بُعد المسافة بين سافانا
ونيويورك، في استياء زوجها، وفي شخصية
سكرتيرة جبران بربارة يانغ – تمكَّنتْ ماري،
على الرغم من ذلك كلِّه، من تحقيق حلم جبران
بإرسال أعماله الفنية إلى مسقط رأسه بشرِّي
في لبنان. كما أنها لم تنسى المساهمة التي
خصَّصها لوطنه بالتبنِّي، الولايات المتحدة
الأمريكية، فقدَّمتْ مجموعتها الخاصة من
أعمال جبران لأكاديمية تِلفير للفنون
والعلوم في سافانا، جورجيا. وكان سبق
للصديقين أن تحادثا حول هذه التقدمة، كما
تشهد على ذلك هذه الرسالة من ماري إلى جبران
في العام 1914: وأنا بالتأكيد، من بعدُ، أفكر
في باقي المتاحف. ربما بوسطن أو شيكاغو، وحتى
في صالة تِلفير الصغيرة الوحيدة تلك في
سافانا [جورجيا]، التي خصَّها غاري ملكرز
باختيار بعض الأعمال.21 وبالإضافة إلى أكاديمية
تِلفير، تركت ماري أعمالاً لجبران لمتحف
بوسطن للفنون الجميلة، ولمتحف فوغ للفن في
هارفَرد، ولمتحف المتروبوليتان للفن، ولمتحف
نيوارك في نيو جيرسي. وفي العام 1937، بعثت ماري
بوثائق ومخطوطات جبران، التي استُعيدت من
مرسمه، إلى شقيقته مريانا. وفي أواسط القرن،
قدَّمت الرسائل التي كتبتْها لجبران، مع
يومياتها ورسائل منه إليها، للمجموعة
التاريخية الجنوبية في جامعة كارولينا
الشمالية. وهكذا خُلِّدَتْ قصتُهما في ذاكرة
الأجيال القادمة. عاشت ماري هاسكل حتى الواحدة
والتسعين، أي ثلاثين عامًا بعد وفاة زوجها ج.
فلورانس ماينِس الذي توفي في العام 1936. وهي،
البطلة المجهولة، أدَّت المهمة التي كانت
حدَّدتْها لنفسها في يومياتها في العام 1894: إن حياتي هي أصدق تعبير عني.
لذا، انتبهي لأفعالك، يا امرأة، وصلِّي كي
تكون حياتك أرغنًا جديرًا بالعالم الإلهي؛
أرغنًا أعطِيَ وظيفة، له أن يؤديها وله أن
يهملها، بحسب إرادته. فكما أن حياتك على وئام
أو خصام مع تناغم الله وغايته، كذلك تسهمين في
إعمار الكون أو في إفنائه.22 سافانا، آب 1988 ***
*** *** ترجمة: أكرم
أنطاكي ©
المكلَّفة بإدارة المجموعات الفنية لمتحف
تِلفير للفن. 1
Jean Gibran et Khalil Gibran, Khalil Gibran: His Life and World, New
York, Avenel Books, 1981, p. 57. 2 من أرشيف أسرة ماينِس رقم 2725، 32 مجلدًا،
يوميات ماري هاسكل، 1894، ص 35. في غياب أية
إشارة أخرى، هذا المقبوس وغيره مستقاة من
أرشيف أسرة ماينِس رقم 2725، المجموعة
التاريخية الجنوبية لجامعة كارولينا
الشمالية، تشابِل هيل. 3
Virginia Hilu, Beloved Prophet, The love letters of Kahlil Gibran and
Mary Haskell and her Private Journal, (New York: Alfred A. Knopf, 1972),
p. 261. 4 Gibran et Gibran, p.
300. 5 Dossier 190, Mary Haskell à
Kahlil Gibran, 2 octobre 1923. 6 Volume 32, journal de Mary
Haskell, 12 février 1894, p. 20. 7 Volume 32, journal de Mary
Haskell, p. 5. 8 Gibran et Gibran, p.
222. 9 Dossier 188, Mary Haskell à
Kahlil Gibran, 10 octobre 1920. 10
Ibid. 11 Hilu, p.355-6. 12
Volume 59, journal de Mary Haskell, 12 mars 1922. 13
تركت ماري حوالى الـ272 رسالة وجَّهتها إلى
شارلوت تيلِّر لمجموعة الوثائق التاريخية
الجنوبية في جامعة كارولينا الشمالية. وإن
عدد الرسائل المتبادلة بين الاثنتين،
وكذلك عدد المرات التي ورد فيها ذكرُ
شارلوت في يوميات ماري، يدلان على أهمية
الصداقة بينهما. 14 Volume 37, journal quotidien
abrégé de Mary Haskell, 2 décembre 1906. 15 Volume 40, journal de Mary
Haskell, 20-21 mars 1913. 16 Volume 59, journal de Mary
Haskell, 12 mars 1922. 17 Entretien personnel avec
Elisabeth Morgan, novembre 1997. 18 Ibid. 19
باعتبار الخبرات المشتركة بينها
وبين جبران، تكتب ماري إليه بالمتكلِّم
بصيغة الجمع، وكأنه موجود معها في بعثاتها
غرب الولايات المتحدة. 20 Dossier 173, Mary Haskell à
Kahlil Gibran, 13 juillet 1914. 21 Dossier 175, Mary Haskell à
Kahlil Gibran, 20 novembre 1914. 22 Volume 32, journal de Mary
Haskell, p. 6.
|
|
|