المغامرة إلى "راعي الكينونة"

في غابته السوداء

 

فؤاد رفقة

 

أوائل الخمسينات، التحقتُ بفرع الفلسفة في الجامعة الأمريكية، فتعرفتُ إلى ملامح الفلسفة الألمانية من بعيد، وشعرت بأنها الوارث الطبيعي للفلسفة اليونانية القديمة. وهكذا بدأتُ أحلم بالسفر إلى ينابيعها في مغاور الألب. وشاءت الأقدار أن يتحقق الحلم، فقدمت إلى بلاد الرايْن أوائل الستينات، وفي زوَّادتي رغبةٌ متوهجة في المغامرة في أدغالها الفلسفية.

بادئ الأمر، كانت التجربة بالغة الصعوبة. فالوجوه غريبة، واللغة غريبة، والمناخات غريبة. كنت كطائرٍ يستفيق عند الفجر ليرى نفسه في غابة مجهولة الأطراف.

أمضيت أربعة شهور في دراسة اللغة الكالحة التعقيد. بعد ذلك، التحقتُ بجامعة غوتِنْغِن، فعرفتُ الضياع الكبير. الإقامة، والطرقات، وقاعات المحاضرات، والأساتذة – كلها كانت أسئلة ضبابية. وعزائي الوحيد في تلك المدينة كان أن علماء الذرة الكبار، من أمثال أينشتاين، عبروا شوارعها – تلك الشوارع التي أجوبها، أنا القادم من مجاهل الأرض ورمالها.

وأخيرًا تمكنتُ، إثر محاولات متكررة، من مقابلة رئيس الدائرة الفلسفية في الجامعة؛ ذلك أن أستاذ الجامعة الألمانية جزيرة يصعب العبور إليها، أو قمة جبلية يبلغها صاحبُ الحظ وحده. في تلك المقابلة، أبديت له رغبتي في الدخول إلى مناطق الفكر لدى مارتن هَيْدِغِّر، إلى نظرية الفنِّ والشعر عنده؛ فكان الجواب أنه هو نفسه يدور في أجواء هيغل، وأن مارتن هَيْدِغِّر بعيد عن تخومه الفكرية، وقال إنه سيرسلني إلى أستاذ متخصِّص في الفكر الهَيْدغري.

وهكذا كان.

في نهاية الفصل الثاني من العام الدراسي، توجَّهتُ إلى توبِنْغِن. وبعد أيام من وصولي، قابلت الأستاذ أوتُّو فريدريش بولنو، الذي كان على معرفة بقدومي إليه، وتمَّ الاتفاق على موضوع الأطروحة حول نظرية الفن عند هَيْدِغِّر. وهنا بدأت أحراج الصعوبات.

أراحني بدءًا الاتفاق مع الأستاذ حول الموضوع، إذ وضعني في بداية الاتجاه. غير أن الحركة في الاتجاه المرسوم كانت بالغة التعقيد لأنها فَرَضَتْ عليَّ الرجوع إلى مسالك فلسفية لم أسمع بها من قبل إلا مصادفة، تلميحًا ومداورة؛ فكان عليَّ قراءة كانط وفيشتِه وشيلِّنْغ وهيغل ونيتشه وديلتاي وسواهم من الجذور الفلسفية، قبل الشروع في المغامرة إلى "راعي الكينونة" في غابته السوداء – إلى مارتن هَيْدِغِّر.

كانت مكتبة الفلسفة – ولا تزال – في مبنى هو الأقدم في الجامعة. كنت أول الوافدين إليه صباحًا وآخر الخارجين منه مساءً؛ وبين لحظة الدخول ولحظة الخروج، كنت أجلس إلى نافذة تطلُّ على وادي النِّكْر، على نهره وقواربه وصفصافه وأشجاره الدهرية، وعلى البرج الذي أمضى فيه هُلدرلِن قرابة أربعين عامًا في غيبوبة مقدسة. إلى هذا الوادي كنت ألجأ كلما تراكمت الألغازُ والأحجيات، ومعظم الأوقات في المساء أختلف إلى مطعم "شتاينلخ"، حيث البيرة والنبيذ والدخان والضجيج.

هكذا عبرتْ الأعوام. ثلاثة أعوام مضت، وأنا في صراع مرير مع الطقس والنظريات واللغة الهَيْدغرية، تمكَّنتُ بعدها من تقديم أطروحتي إلى الأستاذ بولنو. وبعد قلق غرقتُ في لياليه حتى الجحيم، أخبرني أنه وافق عليها، وحدَّد يوم الدفاع عنها الثامن من تموز 1965.

كان الدفاع في حضور أساتذة ثلاثة: واحد عن الاستشراق، واحد عن الأدب الألماني، والأستاذ بولنو عن الفلسفة. وبعد نحو ثلاث ساعات من الأخذ والردِّ، خرجتُ من القاعة في انتظار النتيجة. وما هي سوى دقائق حتى ظهر الأستاذ بولنو بالباب مقدِّمًا تهانيه، قائلاً في نبرة بطيئة متأملة: "من اليوم وصاعدًا يبدأ الطريق الصعب."

خرجت إلى الشارع ورنين هذه الكلمات يلاحقني: "من اليوم وصاعدًا يبدأ الطريق الصعب." ما هو "الطريق الصعب"؟ هل هو الحياة؟ هل هي المغامرة إلى ضبابية الحقيقة؟ وهل كانت طريقي تسلية ومضيعة للوقت، رغم الأوجاع والقلق؟ وهل من طريق أصعب من التي عرفتُها إلى الآن؟

مشيت. فجأة شعرت بالفراغ. رأيتُني متأرجحًا بين مرحلة تلاشتْ في نهارات لا تعود، وبداية مجهولة الأقدار والنجوم، كجوَّال على صخرة تطلُّ على أبعاد كثيفة الحُجُب. وحزنت حزنًا أعمق من عاشقة باردة ومن سفينة في القاع.

في مدينة النِّكْر – تلك المدينة الهرمة الجدران والسطوح في توبِنْغِن – تذكَّرت، وأنا متأرجح الخطى، لقاء هُلدِرلِن مع هيغل على مقاعد الدراسة؛ فكان اللقاء بين الشعر والفكر، وكان الحوار الصديق. وهذا الحوار–الحقيقة يدفع جسد الحضارة الألمانية من بداياتها إلى وقتنا الراهن. إنهما الرفيقان إلى نجمة الأفق، إنما كلٌّ على طريقته وفي لغته. في الاتجاه نحو تلك النجمة، يصغي الفكر إلى الكلمة الشعرية، إلى رنينها وإيمائها ومناطقها البكر التي تشير إليها ولا تقولها. تستند الكلمة الشعرية إلى مغامرات الفكر في غابة الأسئلة الجديدة، وتتغذَّى من ثمارها. معًا يسيران، يتهامسان، ينتهيان في الضباب، خلافًا للاعتقاد السائد بين أهل النهار من البشر.

 

غيورغ فِلْهِلْم فريدريش هيغل

 

فرديريش هولْدِرْلِن

من رعاة الصداقة بين الفكر والشعر مفكِّر يدعى مارتن هَيْدِغِّر. رافق هذا "الراعي" شاعر الشعر هُلدرلِن، فرأى معه أن الفكر والشعر قمَّتان متجاورتان، أبدًا ودائمًا في حوار، ورأى معه أن الوصول إلى هذا الحوار الكياني يفترض التجذُّر في أرض الوطن. وهنا أذكر ما جرى في لقاء لي مع هَيْدِغِّر أواخر الستينات. في ذاك اللقاء، الذي حصل يوم اثنين، من الساعة الثالثة إلى الخامسة بعد الظهر، تناول هَيْدِغِّر ديوانًا يشتمل على قصائد هُلدِرْلِن، وراح يقرأ قصيدة تُنذِرُ أهل الفكر والشعر في بلاده من الهجرة والسفر عن تربة الوطن. وبعدما انتهى من قراءتها، أغلق الديوان. تطلَّع من نافذة ضيقة تطلُّ على الغابة السوداء، متمتِمًا كما لو كان وحده، إن الشاعر هُلدرلِن تنبأ بما سيكون من واقع الحال في ألمانيا هذه الأيام؛ ذلك أن أهل الفكر والشعر عندنا يهجرون الوطن في الفترة الأخيرة.

 

مارتن هَيْدِغِّر في مكتبه، 1960

ورافق هَيْدِغِّر أيضًا مراثي دوينو للشاعر ريلْكِه، فرأى في سراديبها زمنية البشري على هذه الأرض – تلك الزمنية المعكوسة في مساحة كتابة الكينونة والزمن.

 

راينر ماريا ريلْكِه

وفي طريقه إلى نجمة الوجود، ترافَق المفكِّر هَيْدغر مع الشاعر تراكل، فرأى معه أن الكلمة الشعرية هي الأنقى والأصفى لتجسيد شعاع هذه النجمة.

هناك، بالطبع، العديد من الأمثلة على العلاقة الوثيقة بين الفكر والشعر في مناخ الحضارة الألمانية، لا مجال لذكرها هنا. المهم في الأمر هو الإشارة إلى أن المرحلة الألمانية كانت في حياتي الزلزال الكبير. في تلك المرحلة، تعلَّمتُ لغة البلاد، فانفتحتْ أمامي دروبٌ فلسفية لم أعرفها سابقًا. على تلك الدروب مشيت، تعثَّرتْ، بكيت، وعرفت كم أنا فارغ وفقير. ومع ذلك، كانت فرحة المسير إلى الينابيع طافحة. كذلك انفتحتْ أمامي دروبٌ إلى تخوم الشعر، فرافقتُ غوته حتى سقوط فاوست في الجحيم، وهُلدِرْلِن حتى جنونه المقدس، وريلْكِه حتى مراثي دوينو، وتراكل في هذيانه الأنقى من عيون ماء في الصخور، ونوفاليس في ترانيم إلى الليل وفي هبوطه إلى رحم الأرض – إلى بيته الأولي. ونتيجة تلك الصداقة الحميمة معهم، ترجمتُ قصائدهم إلى العربية،* حاورتُهم وشربت من أمطارهم، وفي الليالي الكثيفة تعكَّزتْ عليها. إنهم رفاقي، رفاق الدرب إلى نجمة الوجود.

وأخيرًا، في هذه المرحلة–الزلزال، تفتحتْ عيوني على طبيعة الألماني: إنها، من ناحية، مثال الدقة والجدية والنظام، ومن ناحية ثانية، عاصفة مظلمة متفجِّرة، تجرف السدود والأسوار وتقتلع الشجر. وهي، نتيجة تلك البنية المتأصلة المتناقضة، ريح متوترة دائمًا وأبدًا. وحيث التوتر يتوهَّج الخلق والإبداع.

قبل شموس توبنغن، كان صوتي غامض النبرة؛ وبعدها، صارت أوتارُه أصفى، كتائهٍ مزمن يلتقي وجهًا يعرفه، يدلُّه على الطريق.

وأتوقَّف هنا. لن أتحدث عن فُرَص الحبِّ الضائعة من أجل كومة من النظريات أنستْني الشروق والظهيرة والمغيب وشعلة الحياة. ما أذكره أني في أحد أيام كانون الثاني 1966 ركبت القطار إلى فرانكفورت، ومنها الطائرة إلى بيروت. ولحظة الهبوط كان الجسد يتمرَّغ على الأرض.

وبعد عشرات السنين غيابًا، رجعتُ إلى مدينة النِّكْر. كلُّ شيء على حاله سوى الوجوه. وحيدًا تمشَّيت في الشوارع مع ظلِّي القديم – مع ظلالي القديمة. وفي جنازة أيام جميلة لن تعود، كانت الأصداء من ظلمته الدهرية – أصداء بولنو – ترتجف في جدائل الأنسام: "من اليوم وصاعدًا يبدأ الطريق الصعب."

وهكذا كان.

*** *** ***

تنضيد: نبيل سلامة


* من ناحية أخرى، صدرت في ألمانيا مجموعة مختارة من شعر فؤاد رفقة في كتاب فاخر التجليد، يضم القصائد التي اختارها المترجم المعروف شتيفان فايندر، في اللغتين الألمانية والعربية (متقابلتين)، فضلاً عن دراسة للمترجم تشرح تجربة الشاعر. كذلك، انتخبت "الأكاديمية الألمانية للغة والشعر" الشاعر فؤاد رفقة عضوًا فيها في اجتماع عقدتْه في مدينة تورينو الإيطالية، ووجَّهتْ دعوة إليه ليلقي كلمة في اجتماع للأكاديمية يُعقَد في مدينة دارشتات الألمانية. جدير بالذكر أن فؤاد رفقة هو العربي الأول الذي تضمُّه هذه الأكاديمية القديمة تاريخيًّا إلى عضويتها. (المحرِّر)

 

 الصفحة الأولى

Front Page

 افتتاحية

                              

منقولات روحيّة

Spiritual Traditions

 أسطورة

Mythology

 قيم خالدة

Perennial Ethics

 ٍإضاءات

Spotlights

 إبستمولوجيا

Epistemology

 طبابة بديلة

Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة

Deep Ecology

علم نفس الأعماق

Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة

Nonviolence & Resistance

 أدب

Literature

 كتب وقراءات

Books & Readings

 فنّ

Art

 مرصد

On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني

  ساعد في التنضيد: لمى       الأخرس، لوسي خير بك، نبيل سلامة، هفال       يوسف وديمة عبّود