الشركس في سورية
سمير عنحوري
كنت
أشاهد أثناء طفولتي وحدات من خيَّالة الشركس تمرُّ تحت نوافذ منزلنا
الكائن في حارة باب شرقي في دمشق متجهة شرقًا نحو الغوطة أو عائدة منها
متجهة غربًا نحو قلعة دمشق أو إلى مواقع أخرى في المدينة أو ضواحيها.
كنت أسمع وقع حوافر جيادهم على الأرض المرصوفة بالحجارة البازلتية
وأنظر بإعجاب شديد إلى أولئك الفرسان الممتطين جيادهم بعزَّة وكبرياء،
مرتدين ثيابهم السوداء التقليدية: القلبق والسترة الطويلة والجزْمة
وسلاحهم السيف الشركسي القصير (القامة) على جنبهم والبندقية على كتفهم.
ذكريات الطفولة هذه تدفعني إلى سرد باختصار ما شاهدت وسمعت وقرأت عن
هذا الشعب الذي نزل في بلاد الشام منذ أواخر القرن التاسع عشر وأصبح
على مرِّ العقود والسنين جزءًا لا يتجزأ من النسيج السكاني والاجتماعي
في بلدان الشرق الأوسط.
ينتمي الشركس إلى منطقة القفقاس التي تمتدُّ على مسافة 1250 كم بين
البحر الأسود غربًا وبحر قزوين شرقًا والتي تعتبر جبالها الشاهقة
والوعرة التي يتراوح ارتفاعها بين 2000 م حتى 5600 م الحدَّ الفاصل
جغرافيًا بين قارتي آسيا وأوروبا، ويشكِّل سكانها موزاييك متنوعة من
الشعوب والأقوام والأثنيات يصعب تحديدها من تركمان وداغستانيين
وأنغوشيين وشيشان وجيورجيين (كرجيين) وأُزبك وقزاك وشركس وأفخاز ....
إلخ. ويرجَّح أن شراكسة سورية ينتمي غالبيتهم إلى شعب الآديغيس
Adygués،
يدينون بدين الإسلام السنِّي وينطقون بلغة خاصَّة منشأها تركية.
|
|
الأميرة إنجي خانم الزوجة الأولى للخديوي اسماعيل باشا
حاكم مصر (1854-1863) |
أميرة شركسية من حريم الخديوي في مصر |
هاجر الكثير منهم إلى الدولة العثمانية بعد عام 1860 واستسلام إمام
الطريقة النقشبندية وزعيم ثورتهم "شامل" ضد الاحتلال الروسي (1834 –
1859) إلى القيصر اسكندر الثاني. كان الأتراك العثمانيون الذين خاضوا
عدة حروب ومعارك ضد الروس على معرفة تامة بشجاعة الشعب الشركسي وقدراته
القتالية الفائقة وجمال نسائه الرائع الذي جعلهن تحظين منذ زمن قبل
الهجرة الشركسية بمكانة عالية ومرموقة ضمن العائلات العثمانية الحاكمة
وخاصة البلاط التركي في اسطنبول والقاهرة. فتمَّ توطينهم في أماكن
مختلفة من ممتلكاتهم وخاصة الحدودية منها في جنوب شرق أوروبا وفي جنوب
شرق تركيا وحدودها المتاخمة لشمال تركستان. كما وطنتهم السلطة
العثمانية أيضًا في قرى مجاورة لمدينة أزمير وكان سكانها أكثرهم يونان
وفي كيليكيا حيث يسكنها الأرمن. كما تمَّ توطين 70000 منهم في شمال
بلاد الشام وجنوبها، فأقاموا في منبج وقناصر في ضواحي حلب وفي تلّ عدا
في ضواحي السلمية وفي قرى مريْج الدّر وأبو همامه شرقي حمص وفي حيِّ
المهاجرين في دمشق[1]
وقرية مرج السلطان شرقي دمشق، وفي حوران حتى حدود لبنان في القنيطرة
وبلّي وبويضان وبريقة وبئر العجم والقنوات وغيرها، وفي فلسطين في قرية
الريحانية وكفركما... وكانت الغاية من توطينهم في هذه المناطق لسببين:
الأول زراعة الأراضي واستثمارها لصالح حكامِّها والثاني لاستخدام
خبراتهم القتالية لردع البدو من مهاجمة هذه المناطق وردِّهم إن لزم
الأمر، وكذلك الاعتماد عليهم بصفة قوة إضافية ومساعدة (مرتزقة) للجيش
النظامي لقمع العصيان في مناطق حدودية تكثر فيها الاضطرابات والفتن.
انتهت الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) باندحار قوات المحور
ألمانيا والنمسا وتركيا وزوال هذه الإمبراطوريات الثلاث نهائيًا
وانتصار الحلفاء فرنسا وانكلترا وأمريكا وروسيا. لكن الإمبراطورية
الروسية زالت أيضًا بانتصار الثورة البولشفيكية عام 1917 وزالت معها
مطامعها التوسعية على حساب الدولة العثمانية مما حقَّق مطامع فرنسا
وانكلترا بتقاسم بقايا الدولة العثمانية بدون منازع، وخاصة ممتلكاتها
العربية الشرق الأوسطية.
الملازم أول كوليه ( 1896-1945) في عليّ لبنان عام 1921)
الكابتن ديمير قائد السرايا الدرزية حوالي سنة 1932
حكمت فرنسا سورية ولبنان في عهد الانتداب بين عامي 1920 و1946
وقسَّمتها إلى دويلات أثنية طائفية ومذهبية تبعًا لمبدأ "قسِّم تَسد"،
لكنها ضمتها بعد ذلك في دولتين هما سورية ولبنان الكبير بعد أن غلب
الفكر السياسي القومي الحديث في مجتمعنا العربي الذي خضع قرونًا طويلة
لحكام مسلمين من غير العرب وهم السلاجقة والأيوبيين والمماليك
والعثمانيين.
كان عدد قوات الاحتلال في سورية ولبنان "جيش الشرق
B.D.L"
لا يتجاوز 50000 جنديًا أكثر من نصفهم مغاربة وسينيغاليين ومتطوعين
محليين، وهذا العدد كان بنظر الافرنسيين غير كاف ٍ لتوطيد سلطتهم
السياسية والعسكرية على مناطق نفوذهم خاصة في سورية. فقاموا بتطويع
وحدات عسكرية محلية رديفة أغلبها من الفرسان عرفت بسرايا الشركس وسرايا
الدروز وسرايا البادية وهم الهجَّانة الذين يمتطون الجمال. وكان يرأس
كلاً من هذه السرايا ضابط فرنسي برتبة كابتن وكان أهمهمCollet
Cap.Philibert
قائد سرِّية الشركس وCap.Desmaires
قائد السرية الدرزية وCap.
Mueller
قائد سرية الهجَّانة وكان ثلاثتهم يتقنون اللغة العربية، علمًا بأن
الأمير عبدالله بن الحسين اتَّخذ من الشركس حرسًا خاصًا له منذ تأسيس
الإمارة الأردنية عام 1921 وما زال هؤلاء يشكلون الحرس الملكي في
الأردن حتى الآن[2].
في العام 1922 أسَّس
Collet
(الضابط المسؤول في جهاز الأمن العسكري في حلب)[3]
أول وحدة من الدرك قوامها خمسون فارسًا شركسيًا ثم أصبح عددهم بعد أشهر
قليلة مائة وستون عنصرًا. ثم اتخذت السلطة الفرنسية لاحقًا من ثكنة
عسكرية عثمانية قديمة في مدينة النبك مركزًا للمتطوعين الشركس وكانت
هذه الثكنة أيام العثمانيين بيد دائرة التجنيد وكانوا يسمونها "دائرة
الرديف"[4]،
ولا علم لي إن كان هؤلاء المجندون ينضمون جميعهم بعد تدريبهم إلى قوات
الدرك أو الجيش.
كان
Collet
ضابطًا شابًا يمتاز بذكاء حادٍّ وجرأة نادرة في القتال مما جعله يتمتع
باحترام وإعجاب مرؤوسيه الشركس من جهة وتقدير رؤسائه الافرنسيين من جهة
أخرى، فحاز على مرتبة عقيد في الجيش الإفرنسي وعيِّن حاكمًا عسكريًا
للمنطقة الجنوبية في سورية مركزه دمشق ومستشارًا سياسيًا ذا نفوذ
ومكانة عالية ومرموقة في إدارة السياسة الفرنسية في المنطقة وخصوصًا
بعد أن ناصر عام 1941 حكومة فرنسا الحرة في المنفى بقيادة الجنرال
دوغول وانضم إلى قواتها في سورية ولبنان بعد انتصارهم على قوات حكومة
"فيشي" المتعاونة مع ألمانيا النازية في معركة عكّا في لبنان. وقد انضم
عدد من قوات الشركس لا يزيد عن مائة جندي إلى قوات فرنسا الحرة كما فعل
Collet
بينما رفض أكثرهم التخلي عن ولائهم لحكومة "فيشي" فتمَّ تسريحهم فورًا،
وقد شكل الباقون في الجيش مع زملائهم السوريين نواة الجيش السوري
الفتيِّ بعد الاستقلال.
العقيد موللر قائد الهجانة في جيش الشرق في الثلاثينيات من القرن
الماضي
قوى الهجانة في تدمر عام 1938
تابع الشعب الشركسي عملية الاندماج مع الشعب السوري العربي في المواطنة
وكافة الفعاليات الوطنية العسكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية
والتعليمية المتعلقة بها وشغلوا مناصب عالية فيها، لكنهم حافظوا أيضًا
على لغتهم الأصلية إضافة إلى العربية كما حافظوا بشكل خاص على تقاليدهم
الاجتماعية والفنية من موسيقى ورقص يمارسونها في احتفالاتهم العائلية
ولقاءاتهم الفنِّية، مرتدين أحيانًا نساءً ورجالاً زيَّهم الشركسي
التقليدي.
وأخيرًا أودُّ الإشارة إلى نقطة هامة بنظري تتعلَّق بخصائص الشركس
وصفاتهم فأكثرهم يتمتع بدقة في ملامح الوجه ورشاقة موروثة في التكوين
إضافة إلى نوع من التحفظ والرزانة مع الوفاء في التعامل الاجتماعي مما
لا يتعارض بأي شكل من الأشكال مع حرارة الملقى ولطف المعشر.
الكولونيل كوليه يقود سرية شركسية في حلب أواخر الثلاثينيات.
الملازم حمزة صالح قائدًا لمفرزة شركسية
دمشق 16 آب 1942، الجنرال ديغول والشيخ تاج الدين. ويظهر في الخلف
الفرسان الشركس يلقون التحية العسكرية
دمشق 16 آب 1942 المنصة الرسمية يجلس عليها الكولونيل كوليه
والشيخ تاج الدين الحسني والجنرال ديغول
بيروت 17 حزيران 1944، حفلة رياضية فرنسية لبنانية يشارك فيها
الفرسان الشركس
فرسان الشركس أثناء التدريب
*** *** ***