الصفحة التالية                  الصفحة السابقة

البلاغة والتأويل؛ بحث في حدود البلاغة وبلاغة الحدود 3

 

البشير النحلي

 

2. قَبْلِيّات خاصَّة:

خصَّصنا الفقرات السَّابقة من هذا الفصل لمناقشة القبليَّات العامَّة للبلاغة في حقل الثَّقافة العربية. وقد قلنا في فاتحة هذا الفصل إنَّ تلك القبليَّات العامَّة للبلاغة هي ما يشكِّل ملمحها التَّأويلي العامَّ. ونتوقَّف الآن عند الجزء الثَّاني من تلك القبليَّات، وهو جزء نخصِّصه لما سميناه بالقبليَّات الخاصَّة. ونقصد بالقبليَّات الخاصَّة تلك القبليَّات التَّصوُّرية ذات العلاقة الصَّميمة بمشكلات اللُّغة والخطاب والبلاغة. ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أنَّ هذه القبليَّات الخاصَّة تشكِّل نوعًا من التَّرجمة للقبليَّات العامَّة إلى شبكة من المبادئ والقواعد والمفاهيم التي من شأنها أن تقود خطوات الوصف والتَّحليل والبناء عند البلاغيين. وليس ثَمَّ من شكٍّ في أنها قادت، بالفعل، خطوات هؤلاء إلى ابتناء أشكال من الوصف والتَّصنيف والتَّفسير بالغة الفعالية والنَّجاعة. بيد أنَّ ذلك لا يمنع من القول بأنها قادَتْهم، أيضًا، وفي الكثير من الأحيان إلى أحكام فيها الكثير من الإطلاق، من قبيل الحكم بأنَّ لغة من اللُّغات يمكن أن تكون أصحَّ وأفصحَ حتى عند مَن لم يتكلَّمْها ولم يعرفْها، وبأن تحقُّقًا من تحققات نوع خِطابي يمكن أن يَفْضُل، بشكل مطلق، كلَّ التَّحقُّقات ليس فقط داخل نفس النَّوع ونفس الجنس، بل وفي كلِّ الأجناس الأخرى المباينة.. إلخ. ونحن إذ نثير أمر هذه المنطلقات التَّصوُّرية الخاصَّة التي تحكمت في تحليلات البلاغيين وبناءاتهم العلمية فليس بهدف استعراض كل ما يتصل بها في الحقل البلاغي العربي، ولا حتى بهدف مقابلتها بما استجد في البحث اللِّساني والدَّلائلي في الزَّمن الحديث؛ فهذا مما لا نفع فيه، خاصَّة وأنَّ التَّباين بين مسلمات البلاغة القديمة، العربية وغير العربية، وما توصَّلت إليه الأبحاث الحديثة بخصوص تلك المسلَّمات هو مما يعرفه عموم المهتمين. لهذا فنحن نرى أنَّ الأجدى أن نركِّز على ما نرى أنه أثَّر، بشكْلٍ محوري، سلبًا على أنظار القدماء وأحكامهم ونُواجِهه مواجهة مباشرة.

2. 1. نَقْدُ قَصْرِ البَلاغة عَلى الأدَب:

كنَّا أثَرْنا مسألة قصر البلاغة على الأدب في حقل الثَّقافة العربية في الباب الأوَّل من هذا البحث تحت عنوان "البلاغة: علم للخطاب فنيًا كان أو غير فني". وقد أكدَّنا حينها على أنَّنا نقول بأنَّ البلاغة العربية كانت علمًا عامًّا للخطاب «لا لاعتقادنا بأنها ولدت، منذ البداية، في حقل الثقافة العربية بلاغة عامَّة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، وأنها اختُزلت في أطوارها التي تلت طور نضجها واستوائها علمًا قائم الذات؛ بل، نقوله لاعتقادنا أنها نشأت منذ البداية بلاغة عامة (1) من جهة التَّرابط الحاصل بينها وبين باقي العلوم واستثمارها لأدوات تلك العلوم ومفاهيمها، (2) ومن جهة انشغالها بالأدب شعره ونثره وإن بدرجات متفاوتة. إلاَّ أنَّ ذلك لا يمنع من القول بأنها نشأت وظلَّت بلاغةَ أدبٍ محدودةً لاختصارها لمطالبها في مطلب أساسي يتمثَّل في فهم وإثبات إعجاز النَّصِّ القرآني». ونريد الآن أن ندقِّق هذا الكلام.

1.1.2. انْفِتاحُ البَلاغَة العَربية واستِفادتها مِنَ الصِّناعات والمَعارِف المحيطَة:

لا تحتاج استفادة البلاغة العربية القديمة من العلوم القريبة والمحيطة إلى إثبات. فمن البيِّن أنَّ البلاغيِّين المشارقة استمدوا أغلب أدواتهم من صناعة النَّحو على وجه خاصٍّ، واستفادوا من فقه اللُّغة والفقه والأصول والكلام والنَّقد الأدبي ومن صناعة المنطق كما هو الشَّأن مع السكاكي ومَنْ نحا نحوه؛ ومن البيِّن، أيضًا، أنَّ البلاغيِّين المغاربة، أو بعضهم، استمدوا من البلاغة النظرية ومن المنطق على وجه خاص، فقد كانوا «على رواية لكتب البلاغة النَّظرية، وعلى دراية بها، وعلى رواية ودراية بالكتب المنطقية في أصولها وفي شروح وتلاخيص الفلاسفة المسلمين لها، وعلى رواية ودراية بما كانت تتضمنه هذه الكتب من معارف متنوِّعة»[1]. ولعلَّ السّجلماسي وحازم يقدمان الحجَّة الحاسمة على جدوى انفتاح صناعة البلاغة على الصناعات والمعارف المتاخمة: فقد استفرغا وسعيهما ليجعلا البلاغة علمًا كليًّا يَستوعب علوم اللِّسان الجزئية ويَعْتَضِدُ بالمنطق والفلسفة؛ فكان أن سارت البلاغة معهما في اتجاهٍ أفادَ كثيرًا في تقوية قدرتها النَّظرية وكفايتها الوصفية والتَّصنيفية.

2.1.2. اِنْشِغالُ البَلاغَةِ بالأدَب شِعْرًا ونَثْرًا:

لم يحصر البلاغيُّون في حقل الثَّقافة العربية البلاغة في التَّخييل أو في الحجاج، بل إنهم عالجوهما على تفاوت في درجة الاهتمام الذي خصَّوا به كلاًّ منهما[2]. وقد فعلوا ذلك سواء في شِقِّ البلاغة الموجَّه لاستقبال النَّصِّ وفهمه، أو في شِقِّها الموجَّه لتحديد إجراءات صوغه وإنتاجه. فيتبين أنهم لم يَسْقُطوا في وهم إمكان امتلاك أيٍّ من البلاغات القطاعية الصِّفةَ التي تُؤهِّلها لبسط نفوذها على مساحات الخِطاب الأدبي الشَّاسعة والانفراد بالبلاغة. وقد تمكَّنوا من درْك ذلك بفضل انشغالهم بالنَّصِّ المحوري في حقل الثَّقَّافة العربية: القرآن. فقد حاولوا أنْ يمدُّوا تحليلات النُّحاة إلى ما فوق الجملة ليتمكَّنوا من فهم الإعجاز في القرآن واستعانوا، شأنهم شأن غيرهم، بالشِّعر لأجل نفس الغرض. والقرآن نصٌّ جامع وبالغ التَّنوُّع والثَّراء؛ ففيه الأخبار وفيه القصص، وفيه الأمثال، وفيه الحكم، وفيه التَّشريع، وفيه «جميع أنحاء طرق التَّصديق، وأنحاء طرق التَّصور»[3]. لهذا فقد مكَّنهم استقراؤهم لأساليب القول الواردة فيه وفي الشِّعر من تجريد جهاز مفاهيمي على قدرٍ عالٍ من الدِّقة والكفاية الوصفية؛ وحاولوا الاستفادة من كلِّ ذلك لصياغة مبادئ موجِّهة للإنشاء والإنتاج.

لا بدَّ أن نتساءل إذن: إذا كان هذا هو شأن البلاغة في المجال الثقافي العربي القديم، فكيف يجوز القول بأنها نشأت وظلت بلاغةَ أدبٍ محدودةً؟

نختصر تعليلنا لهذا القول في ما يلي:

من البيِّن مما أسلفنا أنَّ سعة البلاغة عند القدماء متعلِّقة بسعة الأدب. فقد كان الأدب عندهم واسعًا سعة لا تخطئها العين بالمقارنة مع أنواع الخطاب التي يطلق عليها الأدب في الأزمنة الحديثة. لكن سعته البالغة تلك لم تكن لتجعله مستغرقًا لكلِّ ما نفترض الآن أنه يشكِّل موضوع البلاغة: الخطاب في كلِّ أصنافه وتحقُّقاته. لقد كان النَّحو عند القدماء يبحث عن الأحوال التي تجعل الكلام صحيحًا؛ ومع ذلك فقد استخرجوا قواعده من "الخطاب الأدبي". وهو ما عمل تمام حسان على تبريره: (1) بـــ"السهولة النِّسبية" لاستخراج تلك القواعد مما سماه بـ"اللغة الأدبية" على خلاف الكلام اليومي في البيت والسُّوق والمحادثة العابرة، (2) وبضرورات الحفاظ على القرآن، إذ «كان عليهم أن يلجأوا إلى لغة الأدب لأنها لغة القرآن والحديث والشِّعر»[4]. أمَّا البلاغة التي كانت عندهم تخصُّصًا يبحث في ما يجعل الكلام بليغًا فصيحًا فلم تكن لتأبه بغير الخطاب الذي يندرج في "فنون السحر البياني" التي تورِد المعنى الواحد بطرق مختلفة لا بالخطاب الذي يعتمد الدَّلالات الوضعية التي «إما أن تكون مفيدة مسمياتها بالكمال أو لا تفيد شيئًا منها أصلاً. أمَّا أن تفيد إفادة ناقصة، فذلك غير معقول»![5]. ولعل هذا الموقف المبدئي الذي يعلي من شأن الخطاب الأدبي الْمُتْرَف هو مما كانت له عواقب خطيرة لا تزال آثارها بادية لحدِّ الآن في نزوعنا العام لعدم اعتبار أصناف الخطاب غير الأدبي المتعددة والمتفاوتة والمؤسِّسة لأشكال تعايش النَّاس في إطار المجتمع. ولا يجوز البتَّة أن يعزُب عن الذهن أنَّ الخطاب الأدبي لا يصحُّ أن يكون معيارًا ينبغي أن يقاس إليه كلُّ خطاب؛ خاصَّة بعد أن صار معروفًا مألوفًا أنَّه خطاب بمطالب شديدة الخصوصية تقوم على خططٍ تشتغِل على نظام الخطاب وتُحاوِر المعرفةَ الخلفية للمنشئ والمتلقي من منطلقٍ جمالي أولاً وأساسًا.

2. 2. نَقْدُ اعتِبارِ اللّغَةِ "قائمَةً" لا يحاطُ بها مِنَ الكَلمات:

نقف الآن عند ذلك التَّصوُّر الذي يجعل اللُّغة حشدًا من الأسماء الموضوعة بإزاء أشياء العالم. ونشير في البداية إلى أنَّ ابن فارس مثلاً يعتزُّ - في كتابه الصَّاحبي الذي سنقتطف منه في فقرة لاحقة - بتوفُّر العربية على احتياطي غير قابل للنَّفاذ يُستعمل لضرورة أو لغير ضرورة بغاية إظهار التَّفوُّق في مجال التَّصرف في فنون القول وصنوف البلاغة. والاحتياطي المقصود هنا هو احتياطي الأسامي المترادفة. ومن الدَّال أن يُشار الآن إلى أنَّ ابن فارس خصَّص، في نفس الكتاب، بابًا لإنكار قول من ادَّعى أنَّ رجلاً في مثل وَرَع وعِلْم الخليل بن أحمد "المخلوق من الذَّهب والمسك"  يمكن أن يقول في خاتمة أحد كتبه هذا آخر كلام العرب»[6]، على خلاف الواقع وخلاف الفقهاء ممن قالواكلام العرب لا يحيط به إلاَّ نبي»[7]. ونحن إذ نورد ذلك، فليس لنُنْكِر عليه قوله بأنَّ اللُّغة العربية لا يحاط بها، بل لننبِّه على بعضِ ما قدْ يكون أوقعه في الغلط. فاللُّغة العربية هي فعلاً مما لا يحاط به، شأنها شأن كلُّ اللغات. ولكن انتفاء إمكانية الإحاطة لا يمكن أن يَؤول إلى كَمِّ الكلمات التي تحتويها؛ فكلماتُ كلِّ لغة هي قابلة للعدِّ والرَّصد مهما اتسعت قائمتُها وطالت ما في ذلك شكٌّ. يضاف إلى ذلك أنَّ قوَّة اللُّغة لا ترجع إلى ما تتضمَّنه من كلمات؛ وتكثيرُها القسري بقصد إطالة القائمة هو فعل عديم الجدوى، إنْ لم نقل إنَّه فعل بالغ الضَّرر لما سيتطلَّبه منا من الطفل!- من وقت وجهد حتى نحفظ وهذه مجرد أمثلة- سبعين اسمًا للحجر، ومائتين للحية، وخمسين ومائة اسم أو خمسمائة للأسد..! ولن تكون النتيجة، بالطَّبع، سوى إضاعة شروط التَّواصل مع الغير حتى لو كان هذا الغير ممن نَذَر حياته هو الآخر لِلَقْط درر الأسامي التي أُريدَ لها أن تفوت العدَّ والحصر! وعلى هذا فإنَّ الحاجة لازمةٌ إلى اعتبار شأن حروف الهجاء القليلة والمتقاربِ عددُها في كلِّ اللُّغات، والتي تمكِّن، مع ذلك، من إنشاء ما لا حصر له من التأليفات. وليس ثم شك في أنَّ الكلمات لا تلزم الظهور على وجه واحد في الخطاب؛ كما أنْ ليس ثَمَّ شكٌّ في أن المتكلِّم لا يحتاج لحفظ الأقوال حتى يعيد استعمالها، بل إن استضماره، يقول تشومسكي، لمجموعة محدودة من القواعد، من خلال استماعه لما يتداوله أفراد جماعته اللُّغوية التي فيها يعيش، هي ما يمكِّنه من القدرة على التوليد المبدع لما لا يحاط به من الأقوال الملائمة لكلِّ ما يمر به من أطوار ويحيى فيه من شروط. هذا بالضَّبط ما سبق لابن خلدون أن كتبه في مقدَّمته. فلْنقرأ: «اعلم أنَّ اللُّغات كلَّها ملكات شبيهة بالصِّناعة، إذ هي ملكات في اللِّسان للعبارة عن المعاني، وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها. وليس ذلك بالنَّظر إلى المفردات، وإنما هو بالنظر إلى التَّراكيب. فإذا حصلت الملكة التَّامَّة في تركيب الألفاظ المفردة للتَّعبير بها عن المعاني المقصودة، ومراعاة التَّأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال، بلغ المتكلِّم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسَّامع، وهذا هو معنى البلاغة. والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال؛ لأن الفعل يقع أوّلاً وتعود منه للذات صفة، ثم تتكرر فتكون حالاً. ومعنى الحال أنها صفة راسخة، ثم يزيد التكرار فتكون ملكة، أي صفة راسخة[8] وهذه الصفة الرَّاسخة التي عيَّنها وبيَّنها ابن خلدون بما لا مزيد عليه هي، بالضَّبط، ما يُقْدِرنا على أن نُوَلِّد ونُنْتج بشكلٍ إبداعي ما يفوت الإحاطة من الأقوال، انطلاقًا من عدد محدود وكافٍ من الأصوات والكلمات.

هكذا يظهر أنَّه لم يعد بالإمكان الاستمرار في النَّظر إلى اللُّغة باعتبارها منتوجًا منتهيًا أعطي مرة واحدة وإلى الأبد[9]، ولم يعد مقبولاً القول بأنَّ قوة اللُّغة تكمن في كمِّ الكلمات التي تشتمل عليها. وإذا كان من البيِّن أن توسُّع معجمِ لغةٍ من اللغات لا يمكن إلاَّ أن يكون نافعًا، فإنَّ من البيِّن أيضًا أنَّ التوسيع القسري بالجري وراء استحداث أَبْدال لا حصر لها لكلمات موجودة في القائمة المعجمية لتلك اللغة لا يمكن إلاَّ أن يكون عائقًا: فالأَجْنِحة العملاقة لا تعوق الطيران فحسب، بل تعوق المشي نفسه على نحو ما يحصل للشَّاعر في قصيدة "البطريق" لبودلير[10].

2. 3. نَقْدُ المطابقة والمعادلة بين مستويات الدَّليل:

نقدِّم ببيان ما نقصده بالدَّليل حتى لا نبدو وكأنَّنا نأخذ بمعانِ كثيرة على أنها معنى واحد دونما فحْص. فنقول: عرَّف القدماء الدَّليل في اللغة بأنَّه المرشد وما به الإرشاد، وفي الاصطلاح بأنَّه ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر؛ وقالوا عن الاستدلال إنَّه طلب للشَّيء من جهة غيره، واستعملوا الدَّليل في المنطق والفلسفة وعلم الكلام والفقه وأصوله واللُّغة والبلاغة وغير ذلك؛ وقالوا عن الدَّلالة بأنها كون الشَّيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وسموا الشَّيء الأوَّل الدَّال والثَّاني المدلول[11]؛ واحتاجوا لعقد كلام شديد التَّفصيل لبيان الفروق الدَّقيقة بين الدَّلالة والأمارة والعلامة والآية والأثر والحجَّة والاحتجاج والبرهان.. وغيرها[12]. إلا أنَّ ذلك لم يحل دون أن يغلب عليهم تصوُّرهم للمعنى باعتباره معطىً ذهنيًا مستقلاً عن اللَّفظ مما جعلهم لا يفلتون من الانسياق لجعل علاقة الدَّال بالمدلول علاقة قائمة على نموذج المعادلة (دال = مدلول). وعلى الرغم من أنَّ بعض الباحثين في حقول الثَّقافة المعاصرة قدَّموا أسبابًا وجيهة للعدول عن هذا النموذج الذي هيمن في مجمل الفكر القديم إلى نموذج يقدم الدَّليل باعتباره حصيلة علاقة دينامية بين ثلاثة مكونات معقَّدة اصطلحوا عليها بـ "الممثل" و"المؤول" و"الموضوع، وجعلوا العلاقة بين الممثل والمؤوِّل قائمة على علاقة استدلالية من نمط (إذا أ إذن ب)[13]، وعلى الرَّغم، أيضًا، من أنَّ هناك من يقول الآن بأنَّ "الأصل" في الكلام ليس «هو اللَّفظة ولا هو الجملة، وإنما هو الدَّليل، فيكون كل قول طبيعي، على خلاف القول الصناعي، عبارة عن دليل قائم بذاته، ظاهرًا كان أم خفيًا»[14]، فإنَّ الكثير من الباحثين في حقل الثقافة العربية الحديثة يوثرون استعمال كلمة علامة مقابل الكلمات signe, sign, segno الأجنبية. أمَّا نحن فنعتقد أنّ استعمال لفظ "الدَّليل": (1) أرْسخ، لأنّه يراعي استعمالاته واستعمالات الكلمات التي تشكِّل معه نفس العائلة على المستوى الاشتقاقي الصَّرفي، (2) وأطوع، لأنَّه يمكِّن من الانتقال من الدَّلالة به على الكلِّ إلى الدَّلالة على الأجزاء بـ"الدَّال" و"المدلول" و"الدَّلالة" و"الاستدلال" دونما حاجة إلى استعمال كلمة مغايرة، (3) وأَجْمَع، لأنه يسمح ببروز وظيفة الخطاب الاستدلالية من غير أن يعني ذلك أنه يلغي غيرها من الوظائف من تبليغٍ وتوجيهٍ وغيرهما، (4) وأوسع، لأنه يُطْلَق على الدَّال (المرشد)، ويُطْلَق على كلِّ "ما به الإرشاد"، وهذا ألصق بواقع التَّداخل بين مختلف أنساق الأدلَّة التي تنتظم الوجود الإنساني العامَّ.

فإذا تبين هذا، فَلْنَقِفْ عند قولنا إنَّ القدماء كان ينطلقون من كون الدَّليل متطابق متعادل.

لقد أدرك القدماء، دونما شك، تعقُّد الدَّليل؛ ففرَّقوا فيه، كما يجد المرء في كتب البلاغة وأصول الفقه والكلام والفلسفة، بين ثلاثة مستويات من الوجود: الوجود في اللِّسان والوجود في الأذهان والوجود في الأعيان. بل، إنَّ بعضهم ذهب إلى حدود القول بوجود معانٍ لا وجود لها خارج الذِّهن. وهو ما يشهد على إدراكهم لتمايُز مستويات وجود الدَّليل كما حدَّدوها وقرَّروها. لِنُتابِعْ ما يقوله حازم القرطاجني في إحدى إضاءاته:

وإذ قد عرفنا كيفية التَّصرف في المعاني التي لها وجودٌ خارج الذِّهن والتي جعلت بالفرض بمنزلة ماله وجود خارج الذِّهن فيجب أيضًا أن يشار إلى المعاني التي ليس لها وجود خارج الذِّهن أصلاً، وإنما هي أمور ذهنية محصولها صور تقع في الكلام بتنوع طرق التأليف في المعاني والألفاظ الدَّالة عليها والتَّقاذف بها إلى جهات من التَّرتيب والإسناد، وذلك مثل أن تنسب الشَّيء إلى الشَّيء على جهة وصفه به أو الإخبار به عنه أو تقديمه عليه في الصورة المصطلح على تسميتها فعلاً أو نحو ذلك. فالإتباع والجرُّ وما جرى مجراهما معان ليس لها خارج الذِّهن وجود لأنَّ الذي خارج الذِّهن هو ثبوت نسبة شيء إلى شيء أو كون الشَّيء لا نسبة له إلى الشَّيء. فأمَّا أن يقدم عليه أو يؤخر عنه أو يتصرَّف في العبارة عنه نحوًا من التَّصاريف فأمور ليس وجودها إلاَّ في الذِّهن خاصّة[15].

إلاَّ أنَّ إدراكهم للتَّمايز لا يعني إدراكهم للتَّفاوت بين تلك المستويات. والدَّليل عليه هذا الذي يقوله حازم نفسه. فهو يقصر المعاني الذِّهنية مما لا وجود له في الخارج على ما يؤول إلى تنويع طرق التَّأليف والترتيب والإسناد المختصَّة بالقول كأن نعتمد الوصف أو الإخبار أو استعمال الفعل أو التَّقديم والتَّأخير. وهذا يعني، في النِّهاية، أنَّ كلَّ ما في الذِّهن إنما هو صوغ وتشكيل لما في الخارج ما عدا ما يتعلَّق بالإتباع والجر وما جرى مجراهما من معاني النَّحو. وهذا طبيعي، فليس بالإمكان ادِّعاء أن معاني النَّحو تقع خارج الذهن ما دامت تنتمي لمستوى اللغة التي تمكننا من التقاط أشياء الواقع ومعطياته. وإذا وضعنا في الاعتبار الآن أنَّ حازمًا إنما وضع كتابه المنهاج ليحدِّد فيه ما تتقوَّم به صنعة الشِّعر أساسًا، وأن حديثه عما تتقوَّم به صنعة الخطابة التي تنتمي هي الأخرى إلى مجال الأدب لا يُسْتَحْضَر إلا لضرورات تمييز ما يخصُّ الشِّعر؛ ووضعنا في الاعتبار، ثانيًّا، أنَّ الشِّعر عنده تخييل قائم على المحاكاة، واستحضرنا، أيضًا، أنَّ المحاكاة تُسْتَعْمَل للتَّحسين أو للتَّقبيح مما يتطلب الانتقاء الإرادي لأوصاف وإسقاط أخرى، أو البدء ببعضها وتأخير بعضها الآخر؛ أقول: إذا استحضرنا كل ذلك ظهرت محدودية الاستقلالية التي أسندها "للوجود في الأذهان"؛ وتبين أنَّ الابتعاد عن النَّقل المطابق للأشياء وللوقائع بهذا القدر أو ذاك إنما هو فعل إرادي يتقصده منشئ القول بوعي وإدراك؛ وتبيَّن، أخيرًا، أنَّ حازمًا لم يخرج عن الاعتقاد المهيمن في حقل الثَّقافة العربية القديمة بأنَّ المطابقة بين عالم الأشياء والوقائع وعالم التَّصورات والمعاني ليس أمرًا مقدورًا عليه وحسب، بل هو أمر طبيعي لا يُتْرَك إلا بإرادةٍ ولغايات تتعلَّق بمقاصد المستعملين للُّغة والخطاب؛ أي بإرادة «إيراد المعنى الواحد على صور مختلفة»[16]، ذلك الإيراد الذي «لا يتأتَّى إلاَّ في الدَّلالات العقلية»[17]. ولعلَّ هذا ما دفع محمد أديوان إلى أن ينتقد في كتابه "قضايا النَّقد الأدبي عند حازم القرطاجني" التَّصور العامَّ الذي يندرج ضمنه الفهم الذي يقدِّمه حازم لعلاقة اللُّغة بالواقع ذاهبًا إلى أنَّه تصور ساذج يقدِّم - ونحن لا نورد هنا إلا ما له صلة بما نحن فيه - «تفسيرًا يبسِّط الظاهرة اللُّغوية إلى أقصى الحدود، بحيث اعتبر اللُّغة حشدًا من الأسماء الدَّالة على حشد من الأشياء الموجودة في الواقع الخارجي»[18].

وإذا كان من البيِّن أنَّ حازما - الذي فصل بين «قيمة الفعل السلوكي في العلم الأخلاقي، وقيمته في الخطاب الشِّعري أو في السُّلم الفني والجمالي»[19] فَصْلاً «ينمُّ بحقٍّ عن فهم عميق لطبيعة الفعل السلوكي في ضوء معايير النَّظرة الفنية والرَّؤية الجمالية البعيدة عن قيود الأخلاق وضوابط فلسفة الدِّين»-[20] ينطلق من الاعتقاد بأنَّ مطابقة الأشياء في الذِّهن للأشياء في الخارج مما لا يطرح إشكالاً إلا عند إرادة التَّحسين أو التَّقبيح، فإنَّ ذات المنطلق سيكون أَبْيَن عند من لم يَفْصِلوا بين مستويات الوجود الإنساني فحكَّموا قيود الأخلاق وضوابط فلسفة الدِّين حتى في مجال الأدب كما هو الشَّأن عند عبد القاهر الجرجاني الذي أخرج الاستعارة من التَّخييل لزومًا للصِّدق وثباتًا على محض الحقِّ.[21] وعلى الرُّغم من أنَّه صاحب القول المشهور بوجود المعنى ومعنى المعنى، فإنَّ ذلك لا يمنعنا من التأكيد على أنَّ ذلك كان يشكّل عنده حُجُبًا ينبغي دائمًا إزاحتها للوصول إلى ما تحتها من أشياء ووقائع تتعلَّق بمرجع القول. ونحن لا نقول ذلك لأنَّه انشغل بمسألة الصدق والكذب في مجال التَّخييل ذلك الانشغال الذي أورثه غيرَه من البلاغيين ممن أتوا بعده فقط، ولا لأنَّه لم يكن ليتصوَّر، زمانئذ، أن يكون ما يتكلَّم عنه البلغاء ممن تناول أقوالهم مبنيًا، على الأقلِّ جزئيًا، انطلاقًا من أنساق الخبرة والمعرفة المشكِّلة لبنيات أذهانهم نفسها فحسب، بل لأنَّ التَّحليل لديه يسير دائمًا في اتجاه التَّوكيد على أنَّ مرتبة القول في البلاغة مرتبطة بمدى تبعيَّته للمعنى الذي ينبغي أن يطابق هو الآخر نظام الأشياء وحالاتها في الواقع[22]. وهو مايؤول، في النهاية، إلى الهاجس الذي عنه يصدر في بناء أقواله وأحكامه والمتمثِّل في محاولة بناء أدوات لقراءة النَّصِّ القرآني الذي يجمع، على نحو ما أسلفنا، بين البنية المنفتحة ووظيفة الإفهام والتَّبليغ.

لم يكن نقل الأشياء والوقائع نقلاً مطابقًا عند القدماء ليطرح أيَّ مشكل إلاَّ في موقفين اثنين: عندما تنتفي إرادة المطابقة عند القائل فيختلق ويكذب، أو يقصد إلى إنشاء الكلام المُخَيَّل الذي ينصب فيه القرائن الدَّالة على عدم إرادته المعنى الظَّاهر؛ أو عندما تنتفي القدرة على المطابقة فيكون القائل إمَّا متوهمًا أو عاجزًا. وليس ثَمَّ من شكٍّ في أنَّ انطلاق القدماء من هذا الاعتقاد المبدئي وقصدَهم إلى ابتناء أقوالهم على أساس من الدِّقة والصَّدق هو ما مكَّنهم في النِّهاية من إنشاء وتجويد جهاز مفاهيمي وصفي وتصنيفي بالغ الخصوبة. وهو ما يسمح دائمًا بمقارنة صنيعهم بصنيع الباحثين في الزَّمن الحديث في مجال اللُّغة ومجال البلاغة. ولعلَّ تصفُّح الدراسة الموسومة بـ "علم الدلالة عند العرب، دراسة مقارنة مع السيمياء الحديثة" التي أنجزها عادل فاخوري كفيل بأن يدلَّنا على ثراء وخصوبة ما ابتنوه وجوَّدوه من توصيف وتصنيف لمستويات الدَّليل وأصناف الدَّلالة. وعلى هذا نقول: ليس لأحدٍ أنْ يستعمل جوانب القصور في فهمهم لأشكال اشتغال الدَّليل ويضرب صفحًا عن جهودهم دونما تعليل. وهذا إذا كان يَصِحُّ فيما يتعلق بقدمائنا، فإنه يَصِحُّ أيضًا فيما يتعلق بِكُلِّ من يَنْظُرون إلى الدَّليل من زاوية منطقية تبحث في شروط التَّصديق. إلا أنَّ هذا لا يمنع من التَّشْديد على الفرْق بين من يعتبر التَّطابقَ أفقًا يسعى إليه سعيًا ومن يعتبره معطىً واقعيًا أكيدًا ينطلق منه ويبني عليه أقواله وأحكامه. وإذا كان من الواجب أن نعتبر دعوة "أبي محمد القاسم السجلماسي" لمتأدبي العرب ممن يخلطون بين المثل والأقوال الحكمية بأن يأخذوا بوصية العارفين بتلك الطرق، ويعملوا بما جرت به العادة في الصناعة النظرية من «الوصية للنَّاظر والتَّحذير له أن يلمح بالألفاظ ويقف تصوُّره عليها، وبأن يتقدَّم أولاً فيقرِّر المعاني في نفسه ويتصوَّرها أتمَّ تصوُّر يمكنه، ثم يطبِّق عليها الألفاظ[23] دعوة كريمة ووجيهة، فإنَّ ذلك لا ينبغي أن يتمَّ بدون تدقيقٍ يمسُّ جانبين اثنين: يتعلَّق الأوَّل بالتَّأكيد على أن تصوُّر المعاني أتمَّ تصور ثمَّ مطابقة الألفاظ عليها أتمَّ مطابقة إنْ كان مسعىً حميدًا ومفيدًا لا غَناء عنه، فإنه، مع ذلك، سيظلُّ أفقًا نسعى إليه دون أن ندركه أبدًا؛ ويتعلق الثاني بإضفاء الملموسية على هذه المعاني الذِّهنية ذات الصبغة الهلامية غير القابلة للتَّحديد التي يتحدَّث عنها السّجلماسي وغيره من القدماء بجعلها "وحداث ثقافية" بالمعنى الذي يعطيه أمبرطو إيكو لهذا المصطلح المركَّب، وهو معنى لا يختلف عن "المعنى" كما هو في التحليلات التطبيقية للبلاغيِّين القدامى أنفسهم كالجرجاني والسكاكي والسّجلماسي وحازم وغيرهم. فعندما يحلِّل الجرجاني، مثلاً، الأبيات المشهورة «ولما قضينا من منى ...» التي سبق وأن أشرنا إليها في الهامش(22) فإنَّه لا يتحدَّث إلاَّ عن "طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير"، وعن إيراد "ما يلي مسح الأركان من زمِّ الرّكاب وركوب الرّكبان"، وعن "الصفة التي يختصُّ بها الرِّفاق في السَّفر، من التَّصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرِّفين من الإشارة والتَّلويح والرَّمز والإيماء".. إلى غير ذلك مما لا يمكن أن يكون سوى وحدات دلالية ترتبط صميميًا بالطريقة التي يُقَطِّع بها النَّسق الثَّقافي العامُّ الذي ينتمي إليه كلٌّ من الشَّاعر والبلاغي الواقع وينظِّمه، وهي طريقة لا بد أن تكون خاصَّة ومميَّزة ومتعدِّدة ومتغيِّرة.

ولا بدَّ، بعد هذا، أن نُلِحَّ على الفرْق النَّوعي بين تصوُّرات القدماء للدَّليل والتَّصوُّرات التي تقدِّمها الدَّلائليات الخاصَّة باللغة والخطاب. إنَّ الدَّلائليَّات المختلفة لا تقول فقط بانتفاء أي إمكانية لمطابقة الدَّليل المفرد أو المركب للشيء أو لمجموعة الأشياء أو الوقائع التي يحيل عليها في مرجع واقعي متعين، بل إنها تذهب أبعد وتقول بإن تسمية الشيء ابتداءً هي نفسها مما لا يمكن أن يتم إلا من زاوية نظر محدَّدة، وكلُّ زاويةٍ من الزَّوايا إِنْ كانت تُتيح إمكان التقاط بعض صفات وسمات ذلك الشيء، فهي لا تتيح التقاط كلَّ صفاته وسماته، بل لا بد أن يَفلت منها ما لا يقع في الحيِّز الذي تؤطره وتُبَئِره. وهذا ما يعني، في النِّهاية، أن كل تسميةٍ إِنما هي تأويل. وبالطبع، فإنَّ عمليَّات تركيب الأدلَّة في إطار الخطاب لا بد أن يُبَعِّدَ الشُّقَّة بين نظام هذا الخطاب وشكل الأشياء والوقائع التي يضعها موضوعًا له. لماذا؟ يُبَعِّدُها: (1) لأنَّ بنية الخطاب خطية في طابعها العامِّ في حين أنَّ الواقع متشعِّب ومتعدِّد الأبعاد، (2) ولأنَّ ما نركِّبه في الخطاب هو، بالضَّبط، كلمات لا "تقول" مراجعها وإنما تصفها من زوايا خاصة فحسب، (3) ولأنَّ الكثير من الكلمات لا مراجع واقعية لها أصلاً، ويكفي أن نستحضر هنا كلَّ ما يتعلَّق بعالم الغيب في حقل الثقافة العربية مثلاً، (4) ولأنَّنا عندما ننشئ الخطاب ننتقي كلمات بعينها ونسقط أخرى، وما نسقطه لا يغيب تمامًا، بل يبقى في خلفية ما انتقيناه مما يسمح بالقول بأنَّ الخطاب ليس في النهاية سوى نسقٍ من القيم الخلافية القائمة على الحضور والغياب، (5) ولأن حالاتنا وأوضاعنا ورغباتنا وخبراتنا ومعارفنا الخلفية تتدخَّل في انتقاءاتنا وتركيباتنا بما يجعل "عقلنا" الذي به نبني ونركِّب مخلوطًا بالوهم والخيال حتى في الحالات التي نكون فيها بصدد إنشاء مقالات يُفْتَرض فيها تغليب العبارة على الإشارة.. إلخ.

وإذا كنَّا نُلِحُّ على إبراز هذه الفروق، فلأننا نعتقد أنَّ من الصَّعب على من لا يضعها في الاعتبار أو لا يقدِّرها التقدير اللازم أن يفهم مثلاً لِمَ لا يجد بعض الباحثين، في حقل الأدب، فرقًا بين السِّيرة الذاتية والرواية غير ما سمُّوه بـ"الميثاق السير-ذاتي"، ولِمَ ينشغل بعض المفكرين انشغالاً كبيرًا بمحاولة تحديد ما يميز السَّرد التاريخي عن السَّرد في مجال الرواية، و لِمَ يؤكِّد بعضهم الآخر على أنَّ «تأويلنا للعالم مبني جزئيًّا على أنساق تمثيلية تأتي من بنية الذِّهن نفسه، ولا تعكس بصفة مباشرة البتة شكل الأشياء في العالم الخارجي»[24]، ولم يلح المختصُّون في اللُّغة والخطاب والفلسفة وغيرها على نسبية كلِّ كلام، وكلِّ علم.. إلخ. ونحن لا نشك، بعد هذا، في أنَّ اعتقاد القدماء بإمكان مطابقة القول لمرجعه مطابقة تامَّة هو ما أدَّى بهم - ومازال يؤدي بالكثيرين - إلى أن يُرْجعوا اختلاف الآخرين في آرائهم وأحكامهم إلى الجهل والتَّعصب الأعمى والحقْد، أو، بكلمة جامعة، إلى طاعتهم للشيطان وتصميمهم على الكفر على نحو ما بين ذلك عبد الله العروي في سياق بيانه لموانع ظهور نظرية الأدلوجة في حقل الثَّقافة العربية[25].

هذا عن الاعتقاد بتطابق الوجود في الأذهان والوجود في الأعيان، فماذا عن علاقة الدَّال والمدلول عند قدمائنا ممن اشتغل باللُّغة وبالبلاغة؟

على الرَّغم من أنَّ بعض القدماء كان يُنْكِر وجود التَّرادف في اللغة ويذهب إلى «أنَّ كلَّ اسمين يجريان على معنى من المعاني، وعين من الأعيان في لغة واحدة، فإنَّ كلَّ واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلاَّ كان الثاني فضلاً لا يُحتاج إليه»[26]، فإنَّ الاعتقاد العامَّ الذي كان القدماء ينطلقون منه يتمثَّل في أنَّ سَعة العربية واشتمالها على ما لا حصر له من الأسماء المترادفة هو مما تفضل به غيرَها. نكتفي هنا بإيراد هذا المقتطف من "الصاحبي" لابن فارس. يقول:

ومما لا يمكن نقله البتَّة أوصاف السَّيف والأسد والرُّمح، وغير ذلك من الأسماء المترادفة، ومعلوم أنَّ العجم لا تعرف للأسد اسمًا غير واحد، فأمَّا نحن فنُخرج له خمسين ومائة اسم.

وحدثني أحمد بن محمد بن بُنْدار قال: سمعت أبا عبد الله بن خالويه الهمداني يقول: جمعت للأسد خمسمائة اسم، وللحية مائتين.

وأخبرني علي بن محمد الصَّباح قال: حدثَّنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي، عن عمِّه: أنَّ الرَّشيد سأله عن شعر لأبي حزام العُكْليّ ففسَّره، فقال: يا أصمعي، إنَّ الغريب عندك لغير غريب! فقال: يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفظتُ للحجر سبعين اسمًا؟[27].

وبالطَّبع، فإنَّ تصوُّرًا كهذا كفيلٌ بأن يُصيِّر اللغة حشدًا من الأسماء المترادفة[28]. وهذا لا يعني أنَّ المترادفات هي نفسها ما يقصدونه بالمعاني الذِّهنية؛ بل إنَّ كلَّ مجموعة منها هي ألفاظ مختلفة لكنها متساوية في ما بينها ومتواردة على نفس المعنى الذهني المطابق لكيانٍ من الكيانات القائم في الواقع الخارجي. وإذا استحضرنا الآن أن دلالة الأسماء على معانيها هي دلالة لفظية ووضعية[29]، وليست عقلية[30]، ولا طبيعية[31]، إذا استعملنا بعض تصنيفاهم لأنواع الدَّلالة؛ واستحضرنا، أيضًا، أنَّ الإفادة اللفظية عندهم «يستحيل تطرُّق الكمال والنُّقصان إليها. فإنَّ السَّامع للفظ إمَّا أن يكون عالمًا بكونه موضوعًا لمسماه أو لا يكون. فإن كان عالمًا به عرف مفهومه بتمامه. وإن لم يكن عالمًا به لم يعرف منه شيئًا أصلاً[32] أدركنا سبب اعتقادهم أنَّ من الممكن دائمًا أن يقال نفس الشَّيء بصيغ لا حصر لها حتى في حال التزام طريق الدَّلالة المطابقة. وهو ما يعني أنَّ الأقوال التي تتناول موضوعًا واحدًا هي أقوال متساوية مترادفة إلا إذا كان ثم خلل أو غلط يتعيَّن إصلاحه أو تصحيحه. وينبغي أن نضيف أن تساوي هذه "الأسامي" المترادفة فيما بينها، تتعزَّز بتساوي الدَّال والمدلول في كل أنواع الأسامي، مترادفةً كانت أو متباينة أو متواطئة أو مشتركة. أما تساويهما في المترادفة فيرجع إلى أنَّ كلَّ اسم يتساوى ومسماه بقطع النَّظر عن مرادفاته؛ وأمَّا تساويهما في المتباينة فبين بنفسه: فكلُّ اسم موضوع بإزاء مسماه لا يزاحمه فيه مرادف أو مشارك؛ وأمَّا تساويهما في المتواطئة فيؤول إلى تعادل اللَّفظ ومعناه الكلِّي كأن نقول إنَّ لفظ المرأة يتساوى مساواة تامَّة ومعناه الكلِّي الذي يجمع هندًا ودعدًا وغيرهما، وبيِّنٌ أن المتواطئة لا تختلف عن المتباينة إلا من جهة دلالتها على المعاني الكلّية؛ وأما تساويهما في المشتركة، وهي الأسامي التي تطلق على مسميات مختلفة، فيتمثَّل في كون اللَّفظ لا يُحْمَل على المسميات التي يطلق عليها في كلِّ استعمال من استعمالاته، وعلى هذا فإنّه لا مانع من أن يتساوى الاسم مع واحد من مسمياته في كلِّ مرَّة بحسب الاستعمال. ثم لا ينبغي، أخيرًا، أن يَغْرُب عن أذهاننا أنَّ دلالة التَّضمن ودلالة الالتزام نفسيهما ليستا سوى مسلكين كبيرين لتوسيع حقل الترادف وقول الأشياء ذاتها باصطناع أَسْتارِ وحُجُب المجازات التي ينبغي أن تظلَّ قابلة للخرق وإظهار ما تحتها من الحقائق "الواقعية" الثابتة التي منها الابتداء وإليها الانتهاء. فيظهر أنَّ علاقة التَّرادف هي ما يحكم العلاقة  البَيْنِية لقسط مهم من الأدلَّة، ويحكم العلاقة الداخلية لمكونات الدَّليل، ويحكم علاقة الدليل بموضوعه المباشر (التصور)، ويحكم علاقة الموضوع المباشر بالموضوع الدينامي (الشيء الخارجي بالنسبة للدليل). ولعل في هذا بعضَ بيانٍ لأساس هيمنة "عقلية التفسير" في حقل الثقافة العربية، لا التَّفسير الذي يقف عند مجرَّد كيفيَّات تشكُّل البنيات واشتغال القوانين، بل "التَّفسير" الذي يدعيه المؤوِّل عندما يغفل عن طبيعة فعله الخاصِّ فيجتهد للقبض على المعنى الحقيقي والنِّهائي، فـ «يُصادر على أنَّ للحقيقة دلالة واحدة تواطؤية، لا تقبل التَّعدُّد والاختلاف. وهذا معناه أنَّ الباعث الحقيقي لفعل التَّفسير هو رفض التَّفاسير الأخرى المختلفة للنَّص الواحد، اعتقادًا من المفسِّر أنها شروح خاطئة أو تطابقات مشوِّهة للأصل»[33].

ومن البَيِّن أنَّ قدماءنا تناسوا تعريفهم اللُّغوي للدَّليل بأنَّه المرشد وما به الإرشاد، وتعريفهم الاصطلاحي له بأنَّه ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر؛ وسهوا عن قولهم بأنَّ الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وعن تسميتهم الشيء الأوَّل الدَّال والثَّاني المدلول؛ ولم يربطوا بين فهمهم للدَّليل الذي فَقَّروه إفقارًا شديدًا وأكيدًا جراء تقسيمهم لهُ إلى لفظ ومعنى، وجعلهم القسمين متساويين، وجعل الكلِّ مساويًّا ومطابقًا للمرجع الذي يسميه اللَّفظ ويعيِّنه. ولعلَّ الحاجةَ قائمةٌ إلى إعادة الاعتبار لهذا الذي تناسوه وسهوا عنه؛ وقائمةٌ، أيضًا، إلى فضْل رَوِية: فلعلَّ التَّرادف نفسه يمكن أن يرشدنا إلى كيفية اشتغال الدَّليل إذا تنبَّهنا إلى أن المرادف - إذا سلمنا بوجود ونفع الترادف التامِّ - هو معنى مرادفه، لكن ليس بمعنى أنه "كيان" ذهني يتمتع بوجود مستقلٍّ، بل بمعنى أنَّه وحدة دلالية موجودةٌ في النَّسق الثَّقافي للمجتمع، أُدْرِكُها لا بِفضْل عمليةِ تعويضٍ بسيطة، بل بعمليةٍ استدلالية: إن اللفظ الأول يحضر في مجالي الإدراكي بالضرورة بحالة يلزم من علمي به علم بمرادفه. وغيرُ ذلك لا يقوم على أساس، إذ ما الدَّليل على وجود جواهر ذهنية مستقلَّه تكون الألفاظ مجرَّد أشكالٍ لتعيينها والإحالة عليها؟ ولا شكَّ، بعد هذا، أن تحليلات القدامى أنفسهم للخطابات والنصوص و"تعيينهم" لمعانيها يُظهر بجلاء أنَّ تلك المعاني هي، قبل كلِّ شيء، وحدات دلالية قائمة في النَّسق الثَّقافي الذي يحيون ضمنه ويشتغلون في إطاره، وأنَّ صنيعهم بخصوصها ليس مجرَّد تعيينٍ بسيط، بل هو بناء يقوم على عمليات استدلالية بيِّنة وأكيدة.

وعلى هذا، فإنَّ الخطاب (أو الدَّليل المركب) لا يمكن أن يطابق المرجع الخارجي مطابقة تامَّة ولا أن يستقلَّ عن سيرورات الإنتاج والتَّأويل حتى في الأوقات التي يكون عليه فيها تعيين أشياء وحالات العالم. فحتى في هذه الأوقات لا ينقُل الخطاب تلك الأشياء والحالات، بل ينقل وحدات ثقافية هي ما يسمح بتبئيرها وتقديمها بطريقة مخصوصة. ذلك أنَّ أشياء العالم وعلاقاته وحالاته، أي كلُّ ما يعيَّن في دلائليات بورس وإيكو وغيرهما بالموضوع الدينامي تنفلت منَّا باستمرار، ولا يمكن أن نعرفها إلا من خلال أشياء العالم وعلاقاته وحالاته كما تقطِّعها وتصوغها وتقدِّمها الخطابات المتعدِّدة المشكِّلة لنسق الثقافة التي نرى عبرها وفيها؛ مما يعني أنَّ تلك الأشياء والعلاقات والحالات ستظهر، في كلِّ خطاب، على نحو مختلف. فيتوجب التنبُّه إلى أنَّ صياغاتنا المتتالية التي لا تتوقف عند حدٍّ تُغيِّر بالضرورة صور موضوعات الواقع الخارجي التي نجعلها مدارًا لخطاباتنا ونصوصنا.

2. 4. نَقْدُ اعْتِبارِ الدَّليلِ المُفْرَدِ أصْلاً:

ينطلق البلاغيُّون القدماء من التَّمييز بين الوجود في الأعيان والوجود في الأذهان والوجود في اللِّسان والوجود في الخطِّ (الكتابة)، ويربطون بشكل مُظْهَر أو مُضْمَر بين هذه المستويات على نفس الوجْه الذي يُبَيِّنه حازم القرطاجني في هذا "المَعْرَف" الدَّال:

إنَّ المعاني هي الصُّور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكلُّ شيء له وجود خارج الذِّهن فإنَّه إذا أدرك حصلت له صورة في الذِّهن تطابق ما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللَّفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السَّامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ. فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخطِّ تدلُّ على الألفاظ من لم يتهيَّأ له سمعها من المتلفَّظ بها صارت رسوم الخطِّ تقيم في الأفهام هيآت الألفاظ فتقوم بها في الأذهان صوّر المعاني فيكون لها أيضًا وجود من جهة دلالة الخطِّ على الألفاظ الدَّالة عليها[34].

وهم يُنَحُّون عن تنظيراتهم وتحليلاتهم ما يتعلق برسوم الخطِّ الدَّالة على الألفاظ، ويمحضون الاهتمام لكيفيَّات التَّصرف في المعاني الذِّهنية وكيفيَّات ترتيب اللَّفظ بحسب انتظام تلك المعاني في الذِّهن وكيفيَّات دلالة المجموع على الأشياء في الخارج.

وقد استعملوا لغة واصفة متوازية في العديد من مفاهيمها وتحديداتها وتصنيفاتها مع لغة المنطق الصناعي على نحوٍ أتاح للفارابي والغزالي وابن حزم وغيرهم أن يتوسَّلوا بها لتقريب لغة المنطق. مما يعني أن صنيعهم كان غاية في النَّفع، ولم يكن تدخُّلا غير مشروع في منطقة "التَّشريع للعقل" الخاصة بالمناطقة على نحو ما يُفهم من كتاب بنية العقل العربي لمحمد عابد الجابري[35]. نكتفي بهذا المقتطف شديد الوجازة لبيان كيف يتوسَّل الفارابي بمفاهيمهم وتحديداتهم وتصنيفاتهم لبيان ما يُستعمل في المنطق من "ألفاظ":

والألفاظ المركَّبة إنما تتركَّب عن هذه الأوصاف أعني عن الأسماء والكلم والحروف. وجميع الألفاظ المتركِّبة عن هذه تسمى الأقاويل، ولذلك تسمى هذه أجزاء الأقاويل. والألفاظ المفردة قد يتركَّب بعضها مع بعض أصنافًا من التَّركيب كثيرة. وليست بنا حاجة حيننا إلى ذكر جميع أصناف تركيبها، لكنَّا إنما نحتاج منها إلى صنف واحد من أصناف التَّركيب. وهو أن الاسمين قد يتركَّبان تركيبًا يصير به أحدهما صفة والآخر موصوفًا، وذلك مثل قولنا زيد ذاهب وعمرو منطلق، فإن هذين تركَّبا تركيبًا صار به أحدهما صفة والآخر موصوفًا، فزيد هو الموصوف وذاهب صفة. واللفظ المركَّب هذا التركيب هو كلُّ ما يليق أن يقرن به حرف إن المشدَّدة فيكون القول تامًّا مفهومًا.. وبعض الناس يسمُّون الموصوف المسند إليه ويسمون الصفة مسندًا، وربما سموا الصفة الخبر والمخبر به والموصوف المخبر عنه...

فكما تقترن هاتان اللَّفظتان في اللِّسان كذلك يقترن معنياهما جميعًا في النَّفس. واقتران معنييهما في النَّفس يشبه اقتران هاتين اللَّفظتين في اللِّسان. وكما أنَّ القول المؤتلف يأتلف من جزءين كذلك المقترن في النَّفس يأتلف من معنيين، أحد المعنيين هو الذي دلَّ عليه الجزء الذي هو الموصوف والمعنى الآخر هو الذي دلَّ عليه جزء القول الذي هو الصفة.. وقد جرت العادة في صناعة المنطق أن يسمى المعنى الموصوف والمسند إليه والمخبر عنه موضوعًا، والمعنى المسند والمعنى الذي هو الصفة والخبر محمولاً. وذلك مثل المفهوم من قولنا زيد هو إنسان، فإنَّ المعنى المفهوم من زيد هو موضوع والمفهوم ها هنا من الإنسان هو المحمول. وكذلك ما أشبهه[36].

إلاَّ أنَّ التَّركيز على الخبر إنْ كان نافعًا من وجه، فقد كان مكلِّفًا من وجوه. فقد أوقع البلاغيين في ما كان يتوجَّب تجنُّبه عندما جعلهم يعتقدون: (1) بأنَّ دلالات الكلمات هي دلالات ثابتة، (2) وبأنًّ القول تجميع وتركيب لألفاظ تحيل يشكل ثابت إلى المعاني الذِّهنية، (3) وبأن اللُّغة، تبعًا لذلك مجرد وسيط شفَّاف ومحايد للتَّواصل ونقل الأخبار.

لن نتكلَّم الآن إلا في المسألتين الأولى والثّانية؛ أما الثَّالثة فسنفرد لها عنوانًا مستقلاً نورده بعد حين.

1.4.2. القَولُ في ثَباتِ دَلالاتِ الكَلِمات:

يرجع أصل هذا التَّصوُّر عند البلاغيِّين القدماء في جزء كبير منه على الأقلِّ إلى رَأْيٍ راسخٍ في حقل الثَّقافة العربية مفاده أنَّ كلمات اللُّغة مجرَّد أسماء تعيِّن أشياء العالم. وقد أَلحَّ عبد القاهر الجرجاني إلحاحًا شديدًا على ذلك، وبيَّن أن القول بالمواضعة والقول بالإلهام فيما يتعلّق بمنشإ اللُّغة يلتقيان فيه ولا يختلفان. يقول عن المواضعة:

والمواضعة لا تكون ولا تتصوَّر إلاَّ على معلوم، فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، لأنَّ المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت: «خذ ذاك»، ولم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه في نفسه، ولكن ليعلم أنَّه المقصود من بين سائر الأشياء التي تراها وتبصرها. فكذلك حكم «اللَّفظ» مع ما وضع له. ومن هذا الذي يشكُّ أنَّا لم نعرف «الرَّجل» و«الفرس» و«الضّرب» و«القتل» إلاَّ من أساميها؟ لو كان لذلك مساغ في العقل، لكان ينبغي إذا قلت: «زيد» أن تعرف المسمى بهذا الاسم من غير أن تكون قد شاهدته أو ذكر لك بصفة[37]،

ويقول عن الإلهام:

وإذا قلنا في العلم باللُّغات من مبتدإ الأمر أنًّه كان إلهامًا، فإنَّ الإلهام لا يرجع إلى معاني اللُّغات، ولكن إلى كون ألفاظ اللُّغات سمات لتلك المعاني، وكونها مرادة بها. أفلا ترى إلى قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) [سورة البقرة 21]، أفترى أنَّه قيل لهم: «أنبئوني بأسماء هؤلاء»، وهم لا يعرفون المشار إليهم بهؤلاء؟[38]

ومن البيِّن أنَّ هذا الرَّأي يُؤَسِّس للنَّظر إلى كلمات الخطاب من زاوية ارتباطها القبلي بالمعاني الذِّهنية وبالأشياء الخارجية التي تشير إليها في استقلال عن الاستعمال أوَّلاً، ومن غير تقديرٍ كافٍ لعلاقات التَّفاعل بينها ضمن بنية الخطاب الكلية ثانيًّا. وهذا ما يفسِّر لِمَ لم يغادر البلاغيُّون بشكل نهائي أرض النَّظرية الحرفية التي ترى في الظواهر الخِطابية والنَّصية غير المنضبطة لجهاز القواعد مجرّد اتِّساع وعدول على الرَّغم من أن موضوعهم المتمثل في الخطاب فرض عليهم أن ينتبهوا إلى تعدُّديَّته غير القابلة للإلغاء، ولِمَ لم يدركوا من البُعْد بالخطاب الأدبي عن التواطؤ إلا تنويعًا شكليًّا لاستعمال اللُّغة؛ وهو تنويع إنْ كان مستحبًّا لوقوعه محلَّ القَبول من النفوس، فإنَّه يبقى، عندهم، مجرَّد تحسين يُستطاع دائمًا صرف النَّظر عنه وقصر الاهتمام على ما تحت أشكال التَّحسين والتحلية من معنى وحيد لا يمتنع عن التَّعيين والتَّحديد الدَّقيق.

2.4.2. القَوْلُ في اعْتِبارِ الخِطابِ تجْميعًا لِكَلِمات ثابتة الدَّلالَة:

تحدثنا في الفقرة أعلاه عن تركيزِ عبد القاهر الجرجاني على الخبر واتخاذِه بنيتَه منطلقًا لتفسير بنيات اللُّغة والخطاب، وهو التَّركيز الذي أورثه البلاغيين من بعده. ووقوفنا عند بعض مَضارِّ هذا التَّركيز لا ينبغي أن يُحْمَل على أننا نُنْكِر أَهمية مقولة الإسناد التي يجعلها عمادًا للأقوال خبرية كانت أو إنشائية. فمعلوم أنَّها من المقولات الأساسية التي لا غَناء عنها للبلاغي: لأنها، أولاً، مقولةٌ واصفة للعلاقة الأساسية التي تعتمد عليها الأقوال في كلِّ اللُّغات وليس في العربية وحدها، وهذا أمر بالغ الأهمية؛ ولأنها، ثانيًّا، تُقدِّم الأرضية الضَّرورية لمراقبة الخطابات المختلفة التي تتقصَّد تقديم تمثيلات مناسبة وصحيحة لوجودنا في المجتمع وفي العالم بالتَّصديق والتَّكذيب. على أنَّ هذا لا يمنع، بالمقابل، من القول بإنَّ التَّركيز على الخبر هو مما حال دون مغادرة البلاغيين للتَّصور الذي يجعل الكلمات مجرد سمات للأشياء بأعيانها وأشخاصها ويجعل مجرَّد الجمع والضَّم، بطرق مخصوصة، بين تلك الكلمات كافيًّا لإنتاج خطاب قد يتبوأ المرتبة العليا من البلاغة إذا ما الْتُزم فيه بشروط النَّظم ذات الطَّابع النَّحوي. ومن البيِّن أن الخطاب لن يكون، تبعًا لذلك، مركَّبًا إلاَّ بالمعنى المشهور لكلمة "مركَّب"، وهو ما دلَّ جزؤه على جزء معناه، فالحقُّ يقول فخر الدين الرازي: «أنَّ الغرض الأصلي من وضع المفردات لمسمياتها أن يضم بعضها إلى بعض، لتحصل منها الفوائد المركَّبة، وهكذا جميع المفردات مع ما يتركَّب منها»[39]. وقد انتهى أحد الدَّارسين ممن بحثوا في بلاغة الجرجاني إلى «أنَّ اختيار الجرجاني تسمية "النُّظم" لنظريَّته في علاقة التَّركيب النَّحوي بالمقام (المقاصد والأحوال)، يعبِّر أحسن تعبير عن تصوُّره الحدوثي الكلامي للأشياء. فنظم الألفاظ مثل نظم العقيق والجواهر، قال: "إنَّ النظم في الأصل لجمع الجواهر، وما كان مثلها في السلوك.."، وقال بأنَّ لفظة "النُّظم" وقعت في الأصل لما يجمع في السلوك من الحبوب والأجسام الصِّغار، إذ كانت تلك الهيئة في الجمع تخصُّها في الغالب.. "كذلك اختياره للكلمات التي تعبِّر عن العلاقة بين أجزاء الكلام (الفعل والاسم): التَّعليق، السَّبب، الضَّم، فهذه الكلمات لها مضمون كلامي. فإذا ضممنا عقيقة حمراء إلى عقيقة بيضاء، أي قاربناهما، أعطانا ذلك شكلاً، أي معنى. وإذا خالفنا موضعيهما بتقديم المتأخِّرة وتأخير المتقدِّمة، أعطانا ذلك شكلاً آخر، وكذلك الشَّأن في نظم الكلام: فإذا قرَّبنا الفعل من النَّفي، مثلاً، وقدَّمناه على الاسم، كان النَّفي للفعل، والعكس صحيح، أي أعطانا ذلك شكلين للمعنى مختلفين»[40].

لقد كانَ من الطبيعي أن يؤدي التَّركيزُ على الخبر والإلحاحُ على أوليَّته بشكل مستمرٍّ واتخاذُه أصلاً يُقاس عليه جميع ما عداه إلى استمرار اعتبار اللُّغة قائمةً من الكلمات الحاملةِ منذ البدء لدلالاتها التي تبقى ملازمة لها في الاستعمال، وإلى اعتبار الخطاب مجرَّد تجميع لها وضم أو نظم في أحسن الأحوال. وهو ما لم يسمح بالانتقال من التَّصور الذي يُقدِّم اللغة باعتبارها منتوجًا منتهيًّا إلى النَّظر إليها باعتبارها سيرورة معقَّدة من الإنتاج والتَّوليد، ولم يسمح بالانتقال من التَّصوُّر الذي يقدِّم الخطاب باعتباره وسيطًا محايدًا ينقل معنى صاحبه ومرجعَه الذي يحيل عليه في الخارج نقلاً دقيقًا ومطابقًا إلا في حالات الالتجاء إلى تحسين القول بسلوك طريق دلالة التَّضمن ودلالة الالتزام على نحو خاص إلى تصوُّر يربط التدليل (الدلالة باعتبارها سيرورة إنتاجية) بسيرورات الإنتاج والتَّأويل غير المنفكَّة عن أنساق الخبرات والمعارف الخلفية الخاصَّة بالمستعملين.

لهذا نقول: لقد أسقطت البلاغة القديمة زاوية النَّظر التي كان من الممكن أن تتيح لها إمكان تفسير التَّعدُّد الدَّلالي تفسيرًا مقبولاً: نقصد النَّظر في الخطاب من زاوية بنيته الكلِّية في علاقتها بشروط التَّداول. فكان أن بقي التَّعدُّد الدَّلالي الخاص بالكلمات المفردة نفسها مُتَفَلِّتًا ومُتأبِّيًا على التَّفسير ما دام ذلك التَّعدُّد راجعًا لا محالة إلى تاريخ استعمالات تلك الكلمات في مقامات وسياقات لا يقف تغايرُها عند حد؛ وكان، أيضًا، أن غاب عن أفق البلاغيين القدامى أمر المتغيِّر الذي يتحكَّم، بشكل كبير، في جعل الخطاب عباريًّا وتواطؤيًّا، أو، على العكس من ذلك، إشاريًّا وملتبسًا ما دام راجعًا، مرة أخرى، إلى الاستعمال الذي قد يقصد إلى الاحتفاظ بالتَّعدُّد الدَّلالي للكلمات ويبتني تشاكلات دلالية متعدِّدة، فيكون الناتج نصًّا مفتوحًا يتمتَّع بهذا القدر أو ذاك من اللاَّتحديد، أو يقصد إلى الحدِّ من التَّعدُّد الدَّلالي للكلمات بإسقاط بعض تلك الدَّلالات عبر تعيين مدار الخطاب وتشغيل وظائف المقام والسيَّاق، فيكون الناتج نصًّا يتسم بهذه الدَّرجة أو تلك من الدَّقة والتَّحديد.

ونضيف: إنَّ التزام البلاغيين لنَظَرٍ محكوم بخلفية نحوية يتحرَّك دائمًا من المفردات إلى المركَّبات خليقٌ بأن يوقع في الوهم بأن المفردات تُستعمل بالدلالات التي استقرت لها في معجم اللغة. وهذا من شأنه أن يوقع، بدوره، في مشكلات لا حلَّ لها إلا بتغيير زاوية النَّظر بالانطلاق من مجمل الخطاب والتَّحرُّك في اتجاه أجزائه المكونة. وقدْ قَدَّم القدَماء تصوُّرًا مفاده أنَّ الكلمات تُنْقَل عمَّا وضعت له في الأصل واصطلحوا على ذلك بـ"المجاز". وإذا كان ذلك قد مكَّنهم من حلِّ الكثير من المشكلات وأتاح لهم فكَّ مستغلقات الخطاب وبناء تأويلات خاصة بهم على أساسه، فإنَّنا نعتقد، مع ذلك، بأنَّ تصوُّرَهم ليس ملائمًا. لماذا؟ لأنه: (1) يفيد بأنَّ ما يُنْقَل هو كلمات معدودة في كل خطاب، فيُسقط من الحسبان التغيرات التي لابد أن تمسَّ كلَّ كلماته جرَّاء تجاوراتها التي تتجدد مع الاستعمال، وجرَّاء تحولات الخارج التي لا يقر لها قرار؛ (2) يضع التَّحديدات للحقيقة والمجاز من غير أن يضع من المعايير ما يسمح بتمييز هذا من تلك؛ (3) يجعل الحقيقة أصلاً والمجاز فرعًا، ويتضمَّن ما يفيد أنَّ كلَّ مجاز لا بد أن يكون قابلاً لأن يُرَدَّ إلى أصله، وهو ما من شأنه أن يؤدِّي إلى تفقير الأقوال المخيَّلة إن لم يؤدِّ إلى معاداتها؛ (4) يعلِّق تدخُّل الخيال في الأقوال بالإرادة، إرادة التَّحسين أو التَّقبيح بسلوك طريق دلالة التَّضمن ودلالة الالتزام، في الوقت الذي يمكن فيه القول بأنَّ الخيال يؤسِّس كلَّ قوْل، بل وَكلَّ فعل؛ (5) يجعل دلالة الخطاب حاصل جمع لدلالة أجزائه، ويقدمه كسلسلة مستقلة منغلقة ومنطوية على معانيها القابلة دومًا للاستخراج. والحال أنَّ الخطاب لا يستقلُّ كلَّ الاستقلال عن نسق الثَّقافة التي يتولَّد ضمنها ويفعل في مكوناتها الخِطابية بالتَّحويل تعْضيدًا أو قلْبًا.

2. 5. نَقْدُ اعْتِبارِ اللُّغَةِ مجَرَّدَ أَداةٍ لِلتَّواصُل:

قُلنا في ما كتبناه في الفقرة السَّابقة إنَّ تركيز البلاغيين القدماء على الخبر كان مكلِّفًا من عدَّة وجوه، ذكرنا منها ثلاثة، وتناولنا الوجه الأوَّل المتمثِّل في اعتقادهم بثبات دلالات الكلمات والوجه الثَّاني الرَّاجع إلى اعتقاهم أنَّ الخطاب مجرَّد تجميع ونظم لتلك الكلمات المفردات ووعدنا، حينها، بأنَّنا سنفرد للوجه الثَّالث عنوانًا مستقلاً. وقد آن أوان الوفاء بالوعد. والوجه الذي نمحض له هذه الأسطر يتمثَّل في انطلاق القدماء من اعتبار اللغة مجرَّد وسيط شفَّاف ومحايد للتّواصل ونقل الأخبار.

يقول عبد القاهر الجرجاني إنَّ إحكام معرفة العلاقة الإسنادية التي يتأسَّس عليها الخبر يمكِّن من معرفتها في جميع الكلام. لِنوردْ ما قال بصيغته: «معاني الكلام كلّها معان لا تتصوَّر إلاَّ فيما بين شيئين، والأصل والأوَّل هو«الخبر»، وإذا أحكمت العلم بهذا المعنى فيه، عرفته في الجميع[41] وقد صار هذا الكلام عند كلِّ من لحقه من البلاغيين قاعدة ذهبية وسنَّة مرعية؛ فحتى وهم يقرُّون بأنَّ الخبر والإنشاء نوعان متكافئان «لا سبق لأحدهما على الآخر في المعنى»،[42] فإنهم يصرُّون على القول إنَّ «الخبر في اللّفظ والوضع أصل، والإنشاء طارئ عليه».[43] وبيِّنٌ أنَّ كلام عبد القاهر الخاصَّ بالعلاقة الإسنادية لا شكَّ في دقَّته وملاءمته إذا ما تم حصر دلالته في التَّأكيد على أنَّ مقولة الإسناد هي مقولة وصفية جامعة وكافية لتفسير جميع أشكال التعالق في الكلام. إلا أنَّ عبد القاهر لا يقف عند هذا الحدِّ، بل إنَّه يُصِرُّ على أن يجعل الخبر أصلاً يقاس عليه جميع ما عداه كما هو بيِّنٌ من هذا المقتطف. ومعلوم أنَّ الكلام الخبري عند البلاغيين إنما يقوم على أساسٍ من المطابقة الضَّرورية لنسبته الخارجية. ومعلوم، أيضًا، أنَّ هذا هو الأساس الذي أقاموا عليه قولهم بـ "أصلية" الحقيقة و"فرعية" المجاز عندما حاولوا الخروج من الحرج الذي أوقعهم فيه تعاملهم مع الخطاب الذي لا ينضبط لشروط الصِّدق في كلِّ أجزائه وأنواعه وأجناسه. وقد قلنا في الفقرة أعلاه إن المجاز ليس حلاًّ ملائمًا لأسباب ذكرنا بعضها هناك. ونشير الآن إلى أنَّ الانطلاق من أصلية الخبر جعل البلاغيِّين ينزعون، خاصَّة بعد مرحلة السكاكي، إلى البحث عن مرجع للإنشاء انتهوا من خلاله إلى إثبات نسبة خارجية للكلام الإنشائي هو الآخر، وإن اضطروا للقول إنها تتعلق بنسبة يوجدها ذلك الكلام ويثبتها وليست كالنسبة الخارجية للكلام الخبري التي يُكْتَفى بخصوصها بالإظهار. ونحن لا نورد هذا لنقول بأنهم طابقوا بين الخبر والإنشاء، فهذا ما لم يفعلوه قطعًا، ولم يكن موضوعُهم لِيُمَكِّنهم منه. إلاَّ أنَّ تأثير بنية الكلام الخبري الذي اعتبروه أصلاً يقيسون عليه جعلهم يقفون عند حدود طمس الفارق، وإلا فما الفائدة من القول إنَّ للإنشاء أيضًا نسبة خارجية وإن تكن غير مسبوقة بنسبة أخرى؟ إنَّ القول بذلك حسب تقديرنا راجع للرَّغبة المسبقة في جرِّ الإنشاء إلى أرضية الخبر بالتأكيد، قبليًّا، على أنَّ «الإنشاء أيضا يحتمل الصِّدق والكذب من وجه» ما،[44] ثم لا بأس، بعدئذ، من البحث عن ذلك "الوجه". فإن لم يظهر قيل بأنَّه كامن في وضع الأساليب الإنشائية في موضعها أو في غير موضعها؛ فإذا كان الأول فهي صادقة وإذا كان الثاني فهي كاذبة![45] لقد صارت اللُّغة في إطار هذا التَّصوُّر مجرد وسيط شفَّاف ومحايد لنقل الأخبار وتداول المعارف: فإما أن نقول، إخبارًا أو إنشاءً، ما يتضمن المعنى الوحيد والنهائي الذي نريد إظهاره بالنسبة للخبر أو إيقاعه وإيجاده بالنسبة للإنشاء أو لا نقول شيئًا على الإطلاق. بالطبع يمكن الأخذ بنصيحة حازم والعمل على تحسين القول بالبعد عن التواطؤ والتَّشابه وأخذ «الكلام من كلِّ مأخذ حتى يكون كلٌّ مستجدًا بعيدًا من التكرار، فيكون أخف على النَّفس وأوقع منها بمحلِّ القبول»،[46] إلاَّ أنَّ ذلك ينبغي أن يُرافَقَ دائمًا بإجراءات منع توالد أي معنى غير المعنى المقصود من طرف المنشئ، وإعمال أدوات البلاغة لحصر وتعيين معنى المنشئ من طرف المتلقي. لنقرأ هذا المقتطف الذي يبدي فيه عبد القاهر انزعاجه الشديد من إمكان انتقال معنى القول من غير أن يُغيَّر من لفظه أو تُحوَّل كلمة من مكانها، ويستثمر وجود هذا "الإمكان" للتَّشديد على واجب إنعام النَّظر في علم البلاغة لمنع حصوله:

واعلم أنَّ الفائدة تعظم في هذا الضَّرب من الكلام، إذا أنت أحسنت النَّظر فيما ذكرت لك، من أنَّك تستطيع أن تنقل الكلام في معناه عن صورة إلى صورة، من غير أن تغير من لفظه شيئًا، أو تحول كلمة عن مكانها إلى مكان آخر، وهو الذي وسَّع مجال التَّأويل والتفسير، حتى صاروا يتأوَّلون في الكلام الواحد تأويلين أو أكثر، ويفسِّرون البيت الواحد عدة تفاسير. وهو، على ذاك، الطريق المزلَّة الذي ورَّط كثيرًا من النَّاس في الهلكة، وهو مما يعلم به العاقل شدَّة الحاجة إلى هذا العلم، وينكشف معه عوار الجاهل به، ويفتضح عنده المظهر الغنى عنه.[47]

على أنَّ ما نريد إبرازَه من وقوفنا عند انطلاق البلاغيين القدماء من تصوِّرٍ يجعل اللُّغة وسيطًا شفَّافًا ومحايدًا لا ينحصر في هذا الذي أوردنا الآن، بل يتجاوزه إلى التَّشديد على أنهم مارسوا صراعاتهم -حول المفاهيم وحول إجراءات التَّحليل وبالأخصِّ حول قضايا التَّأويل- باللُّغة وفيها من غير أن ينقص ذلك شيئًا من ثقتهم الزَّائدة في اللُّغة التي بقيت في تصوُّر الجميع مجالاً محايدًا للتَّواصل الواضح والإيجابي البعيد عن الصِّراع وإرادات القّوَّة. ونحن لا نقصد بذلك أنهم أدركوا أنَّ اللُّغة إطار مؤسساتي لحل الصِّراعات بالحوار بعيدًا عن أشكال العنف؛ فذلك مما لا يصحُّ لقائل: فمجرد تصفُّح كتب البلاغة يمكن أن يعطي فكرة عن عنْفٍ رمزيٍّ يصعب تقدير مداه وتدارك عواقبه الوخيمة على حرية الفكر. إنَّ ما نقصده بالقول إنَّ صراعاتهم باللُّغة وفيها لم تنقص شيئًا من ثقتهم في كونها الوسيط الشَّفاف والمحايد لنقل الأخبار وتداول المعارف يتمثَّل، على العكس من ذلك، في الدلالة على غفلتهم عن ممارساتهم الخاصَّة نفسها. فقد غاب عن أفق التَّفكير عندهم أن تكون بنيات اللُّغة والخطاب نفسها لا أقول بنيات مخترقة، بل بنيات تشكلها الرغبات وإرادات القوة. مما يعني أنَّ اللُّغة والخطاب حقلان لصراع اجتماعي لا انفصام له عن طموحات ومواقع الأفراد والفئات والطبقات في الوجود التاريخي للمجتمع. وقد كان من الممكن أن ينتبهوا لهذا انتباهًا قد يدفعهم للعمل على استثمار اللغة نفسها لإنتاج مضادَّات خِطابية للعنف لو أنهم جرَّبوا تحرير ما اصطلحوا عليه بـ"الإنشاء" من فرعيته وعرضيَّته، وتحرير الأقوال المخيَّلة من سلطة المقياس الأخلاقي المنطقي المتمثل في التَّصديق والتكذيب، ثم، وهذا أساسي، بربط الوظيفة الاستدلالية التي أقرُّوها للخطاب حتى في شقِّه التَّخييلي (الصور البيانية) بمعتقدات المستعملين ومعارفهم الخلفية أو بـ"خزانات الخيال" لديهم باصطلاح السكاكي الدَّال على ما سنرى في حينه. لكنهم لم يفعلوا فجاءت خِطاباتهم مشتملة على ألوان من العنف يصعب تقدير مداه وتدارك عواقبه على المُخاطب كما أسلفنا. ونحن لا نحتاج هنا إلى أن نشير إلى عنف خطاب البلاغيين في تصدِّيهم لمن خالفوهم في مكمن الإعجاز من القرآن ممن جعلوه في الصرفة أو غيرهم، فهذا بَيِّن. ولكنِّا نشير إلى أنَّ علاقاتهم بمخاطبيهم ممن يتوجَّهون إليهم بقصد الإفهام جديرة ببحث خاص. ولا يتسع المقام هنا لأكثر من الإشارة والتَّمثيل حتى لا يبقى الكلام سائبًا. فالسّكاكي، مثلاً، يُصِرُّ على أنْ يقرع سمع مخاطبه، ويفرغ في صماخيه ما ينقش صورته في ذهنه النَّقش الجلي،[48] بل، ويخاطبه بأنَّه لم يسطر شيئًا مما سطَّر إلا ليوقظه مما هو فيه من رقدة الغباء..[49] أما كلام عامة الناس ممن قد يكفيه «من حظ البلاغة أن لا يؤتى السامع من سوء إفهام النَّاطق، ولا يؤتى النَّاطق من سوء فهم السَّامع»[50] بحسب وصف الجاحظ فلا يجد السكاكي منزلة يضعه فيها - من منظوره الأدبي الْمُتْرَف الذي لا يخفى ارتباطه بوضعية اجتماعية واقعية أو اعتبارية - سوى منزلة أصوات الحيوانات![51] .. إلخ.

[عمل قدمه صاحبه لنيل شهادة الدكتوراه بجامعة محمد الخامس بالرباط 2011]

*** *** ***


 

horizontal rule

[1]  محمد مفتاح، التلقي والتأويل، مقاربة نسقية، المركز الثقافي العربي، ط. 2، 2001، ص 18.

[2]  يسجل عبد الفتاح كليطو في مقدمة كتابه الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي «"الضيم" الذي لحق بالسرد» حتى من طرف للمؤرخين للأدب في زمننا. أنظر: الحكاية والتأويل، دراسات في السرد العربي، دار توبقال، البيضاء، 1988، ط. 1، ص 5-6.

[3]  ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 4، 2007، ص 116.

[4]  تمام حسان، الأصول، دراسة ابستيمولوجية لأصول الفكر اللغوي العربي، دار الثقافة، البيضاء، طبعة 1991، ص 87-88.

[5]  فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، مرجع مذكور، ص 32.

[6]  ابن فارس، الصاحبي، مرجع سابق، ص 26.

[7]  نفسه، ص 26.

[8]  ابن خلدون، المقدمة، مرجع سابق، ص. 710.

[9] لابن فارس رأي طريف يذهب فيه إلى أن الله جل وعز وقَّف «آدم عليه السلام على ما شاء أن يعلمه إياه مما احتاج إلى علمه في زمانه، وانتشر من ذلك ما شاء الله. ثم علم بعد آدم عليه السلام – من عرب الأنبياء صلوات الله عليهم – نبيا نبيًا ما شاء أن يعلمه، حتى انتهى الأمر إلى نبينا محمد، صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، فآتاه الله جل وعز من ذلك ما لم يؤته أحدا قبله، تماما على ما أحسنه من اللغة  المتقدمة. ثم قرّ الأمر قراره، فلا نعلم لغة من بعده حدثت. فإن تعمّل اليوم لذلك متعمِّل، وجد من نقاد العلم من ينفيه ويرده». ابن فارس: الصاحبي، مرجع سابق، ص. 8.

[10]  نورد هنا هذا المقطع من قصيدة L’ALBATROS   لتقريب الصورة:

Le Poète est semblable au prince des nuées
Qui hante la tempête et se rit de l’archer
Exilé sur le sol au milieu des huées,
Ses ailes de géant l’empêchent de marcher.

[11]  الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات، مرجع سابق، ص 171-172؛ أنظر أيضًا: عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، دار الطليعة، بيروت، ط 3، 2004، ص 7-12.

[12]  أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، تحقيق أبو عمرو عماد زكي الباروي، المكتبة التوفيقية، ص 67-80.

[13]  نقصد أمبرطو إيكو على وجه خاص. أنظر كتابه: الدلائليات وفلسفة اللغة.

[14]  طه عبد الرحمان، اللسان والميزان، مرجع مذكور، ظهر غلاف الكتاب.

[15]  حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق وتقديم محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط. 3، 1986، ص 15 - 16.

[16]  السكاكي، مفتاح العلوم، مرجع سابق، ص 438.

[17]  نفسه، نفس الصفحة.

[18]  أنظر الهامش (3) في الصفحة 70 من كتاب محمد أديوان: قضايا النقد الأدبي عند حازم القرطاجني. مرجع سابق.

[19]  نفسه، ص 378.

[20]  نفسه، نفس الصفحة.

[21]  عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، تحقيق محمد الفاضلي. المكتبة العصرية، بيروت، ط. 2، 1999، ص 204-205.

[22]  نحيل على تحليله للأبيات التالية في الصفحات 20، 21، 22 من كتاب أسرار البلاغة:

«ولما قضينا مـن منى كل حاجة     ومسح بالأركان من هو ماسح
وشدت على دهم المهارى رحالنا    ولم ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحـاديث بـــيننا     وسالت بأعناق المطي الأباطح»

ففي هذا التحليل نزوع لجعل جمالية الأبيات عائدة لمعناها المطابق لما تجري عليه الأمور في عالم الناس الواقعي. ففي شطر البيت الأول تعبير عن الانتهاء من قضاء المناسك، وفي عجزه  ذكر لـ«طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر»، وفي صدر البيت الثاني مباشرة وصل الشاعر «بذكر مسح الأركان ما وليه من زم الركاب وركوب الركبان، ثم دل بلفظ «الأطراف» على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرفين من الإشارة  والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب، وأنسة الحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة..» ..إلخ. وحتى "أعناق المطي" إنما استعملها الشاعر ولم يستعمل "المطي" لأن السرعة والبطء يظهران غالبا في أعناقها..!

[23]  أبو محمد القاسم السجلماسي، المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق وتقديم علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، ط. 1، 1980، ص 249.

[24]  عبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، منشورات عويدات، بيروت، الطبعة 1، 1986، ص 46.

[25]  عبد الله العروي، مفهوم الإيديولوجيا، دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت-البيضاء، ط. 3، 1984، ص 19-22.

[26]  أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية، مرجع سابق، ص 16.

[27]  ابن فارس، الصاحبي، مرجع سابق، ص 21.

[28]  يقول أبو حامد الغزالي إن الألفاظ المتباينة، أي الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والسهم.. إلخ «هي الأكثر». أنظر: محك النظر في المنطق، مرجع مذكور، ص 208. إلا أن ذلك لا يعني أنه لا ينطلق من تعادل الدال والمدلول حتى في المتباينة والمتواطئة والمشتركة.

[29]  الدلالة الوضعية هي "كدلالة الألفاظ على المعاني التي هي موضوعة بإزائها، كدلالة الحجر والجدار والسماء والأرض على مسمياتها". أنظر: فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، ص 30.

[30]  تشمل الدلالة العقلية عندهم كلا من دلالة التضمن (كدلالة البيت على السقف)، ودلالة الالتزام (كدلالة السقف على الحائط).

[31]  الدلالة الطبيعية هي التي تكون العلاقة بين الدال والمدلول بحسبها "طبيعية" (كدلالة أصوات البهائم عند دعاء بعضها بعضًا، أو أخ على الوجع، أو الحمرة على الوجل..). أنظر: عادل فاخوري، علم الدلالة عند العرب، مرجع مذكور، ص 23-24.

[32]  فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، مرجع مذكور، ص 31-32.

[33]  محمد المصباحي، تحولات في تاريخ الوجود والعقل، دار الغرب الإسلامي، الطبعة الأولى، 1995، ص 37.

[34]  حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، مرجع سابق، ص 18-19.

[35]  محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط. 7 ، ص 75-108.

[36]  أبو نصر الفارابي، كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، ط. 2، ص 58.

[37]  نفسه، ص 540.

[38]  نفسه، ص 540-541.

[39]  فخر الدين الرازي، نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، مرجع سابق، ص 73.

[40]  محمد وبا، البلاغة العربية وعلم الكلام، عبد القاهر نموذجًا، بحث لنيل الدكتوراه في اللغة العربية وآدابها، مخطوط مسجل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس تحت الرقم الترتيبي: 91-92، ص 232.

[41]  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص 526-527.

[42]  محمد بن علي الجرجاني، الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه ابراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2002، ص 86.

[43]  نفسه، نفس الصفحة.

[44]  نفسه، نفس الصفحة.

[45]  محمد بن علي الجرجاني، الإشارات والتنبيهات في علم البلاغة، مرجع سابق، ص 86.

[46]  حازم القرطاجني، منهاج البلغاء، مرجع سابق، ص 16.

[47]  عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، مرجع سابق، ص 374.

[48]  السكاكي، مفتاح العلوم، مرجع سابق، ص 203.

[49]  نفسه، ص 614.

[50]  الجاحظ، البيان والتبيين، مرجع سابق، ص 87.

[51]  نفسه، ص 247-248 و250.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني