في ثقافة الحوار والتسامح ومبدأ الأنسنة
ندرة اليازجي
يتمثل
هذا البحث في تأمُّل ودراسة المقولتين التاليتين بوعي وحكمة:
-
مفهوم الحكم والسلطة
-
ثقافة الحوار والتسامح
أولًا: مفهوم الحكم والسلطة
عندما تُقحَم سياسةُ التسلُّط أو شهوةُ التحكُّم في إدارة الأمة على
نحو ما تقتضي ضرورة تطبيق القيم الروحية والعقلية المستنيرة والمفاهيم
السامية في نطاق سلطة تتميَّز بالحكمة والوعي، تتراجع المبادئ الروحية
الماثلة في إيمان يعتمد على تفسير الشريعة، بظاهرها وباطنها، وتندحر
القيم والمفاهيم الأخلاقية والاجتماعية التي تتأسس عليها الأمة وتحياها
وتحققها في ظل سلطة أو حكم يسعى إلى تطبيق المبدأ الإلهي في عالم الأرض
لكي يستعيد الإنسان تأسيس الفردوس الذي فقده يوم انحرف عن سبيل معرفة
الحقيقة والحفاظ عليها.
في هذا النطاق الروحي العميق والواسع، أود، بل أحب، أن أتحدث عن ثقافة
الحوار والتسامح التي هي أعظم وأجل وأسمى الحروب المعلنة على التحكُّم،
والتسلُّط، والجهل، والباطل الذي يهدف إلى إلغاء حقيقة الحياة الروحية
وإلغاء الآخر.
ثانيًا: ثقافة الحوار والتسامح
يتمثل هذا البحث في إقامة تأليف بين المقولات الخمس التالية:
-
ثقافة الحوار بوصفها السبيل الأمثل المؤدي إلى التفاهم وحلِّ النزاعات.
-
ثقافة التسامح بوصفها تجاوزًا للإدانة والإدانة المضادة.
-
الموقف السلبي المجسَّد بالتفسير الحرفي والفهم الظاهري للمبادئ
الإنسانية والروحية.
-
المبادئ التي تتضمَّن فيها حقيقة ثقافة الحوار والتسامح.
-
الأنسنة بوصفها شمول الإنسانية.
أولًا: الحوار بوصفه السبيل المؤدي إلى التفاهم وحلِّ النزاعات
يتمثل الحوار، الذي يتحقق بين الإنسان ونفسه على مستوى تبرير اليقين
الذي يعتمده لتأسيس معتقده أو وجهة نظره أو محاكمته، أولاً، وبينه وبين
الآخر، أيًّا كان هذا الآخر، على مستوى الاعتراف، والقبول به، وفهم
موقفه الفكري أو العقائدي، ثانيًا، في ضرورة تأسيس بنية عقلية منفتحة،
مكوِّنة وواعية، تصلح لإجراء تفاهم معمَّق بين أبناء وبنات الناس بهدف
إرساء قاعدة يتوطَّد عليها صرح مجتمع إنساني تتكامل أبعاده ومستوياته
العديدة والمتنوعة في الحكمة، والتسامح، والسلام، والطمأنينة،
والازدهار، ويتجاوز الأُطُر المحدودة والمناهج أحادية البعد التي أشرطت
العقل والنفس والروح، وحالت دون تطوير الوجود الإنساني والسموِّ به إلى
مستوى مثالي، وأدَّت إلى عدم تحقيق المغزى الروحي المضمون والكامن في
الوجود على مستوى الواقع الطبيعي والإنساني والكوني، وإلى إسقاط المعنى
والقيمة المتأصِّلين في جوهر الحياة في نطاق شرقنا العربي.
في هذا المنظور، أسعى إلى تقريب وجهات النظر العديدة في إطار التأليف
الحواري القائم على أُسُس عقلية ونفسية وروحية، سامية وواعية، وعلى
معرفة الطريق المؤدية إلى التلاقي مع الآخر والتفاهم معه على أساس
الاعتراف بالتنوُّع المتأصِّل في جوهر المبادئ الإنسانية، والمبادئ
الطبيعية، والمبادئ الكونية التي أبدعها الوعي الكوني الماثل في
الألوهة، وهدف إلى تحقيق تأليف بينها يشير إلى تكاملها وتآلفها في
حقيقة واحدة سامية. والحق أن هذا التأليف واجب مُلقى على عاتق
الإنسان... هو واجب يدعوه إلى توحيد نطاقات ومستويات المبادئ الإنسانية
والروحية.
لمـَّا كان الحوار يتألق في تكامل المواقف الفكرية والنفسية والروحية
التي تشير، بدورها، إلى تنوُّع المبادئ وتوافقها في انسجام يكمن في
وحدة تأليفية تجد أصولها في عمق الوعي والحكمة والمحبة، فإني أسعى
جاهدًا لتحقيق ما يوجد في عمق كياني، على نحو كمون، لأعاين وأحيا
الوحدة الجوهرية التي تجمع الإنسانية كلَّها في حقيقة واحدة متنوعة في
ظاهرها وفي مستويات تعبيرها، ومتكاملة في جوهر رموزها وتمثُّلاتها
وأسرارها.
في هذا المنظور، استطعت أن أتمثَّل الحضارات والثقافات والأديان،
وتمكنت من تأليفها في تكاملٍ توحيديٍّ يُبدع مني إنسانًا منسجمًا في
كياني، ومتوازنًا في صميمي، ومتفهِّمًا للتنوعات الحضارية والثقافية
والروحية، ومحبًّا للإنسانية جمعاء.
علمتُ أنني أمثل ثقافة عقلية وروحية شاملة ومتنوِّعة في ظاهرها،
متكاملة ومتآلفة في جوهرها، تحيا في داخلي وتُمِدُّني بقوة الحياة
الواعية وتوازن الشخصية الحكيمة. وحدستُ ببصيرتي ما تشتمل عليه حديقة
كياني من مبادئ وقيم ومفاهيم لا تتحقق في وحدة، ولا تتكامل في انسجام،
ما لم أكن قادرًا على إبداع تأليف بينها يتناغم في نطاق تنوُّعات
الروعة التي تنضوي تحت كنف الحقيقة الواحدة وبهاء اللقاء المضيء بألق
الحب. والحق أن العقل، الذي يزدهي بجمال التنوع، يتألق في غبطة النور
وسموِّ الروح.
في هذا السياق، أدركت أن المفهوم السامي والمغزى العميق يتضمنان في
الوجود الإنساني، ويتجلَّيان في المقولات الثلاث التالية:
-
أولًا: يشير واقع الحضارات والثقافات والأديان إلى تنوُّع ظاهري وتوافق
أو تكامل أو انسجام يتألق في حقيقة واحدة.
-
ثانيًا: يشير واقع وجودنا، على مستوى كوكب الأرض، إلى تنوُّع ظاهري
ووحدة جوهرية كامنة.
-
ثالثًا: تشير الحكمة السامية المطلقة إلى أن التنوُّع قانون أو مبدأ
إنساني واجتماعي، وقانون أو مبدأ طبيعي، وقانون أو مبدأ كوني.
إذ بلغتُ هذا المستوى من التفكير الواعي، المجرَّد من الانفعال السلبي
وضيق الأفق الفكري، سألت نفسي: كيف أجعل من الحوار سبيلاً إلى تلاقي
التنوعات المبدئية، ووجهات النظر العديدة والمختلفة في ظاهر التعبير؟
كيف تؤدي المحبة والوعي والحكمة إلى لقاء الإنسان مع الإنسان، وتسعى
إلى تحقيق الآخَر في الآخَر، ليكون كلُّ إنسان صورة حقيقية منعكسة
لكلِّ إنسان في مرآة الوجود؟ كيف تلتقي الصياغات والتعبيرات المتنوعة
لتشكل لوحة الوجود الواحدة؟
علمتُ أن الإنسان الحكيم يبحث في المبادئ الإنسانية والطبيعية
والكونية، ساعيًا إلى تمثُّلها وتحقيقها في كيانه، وتأليفها في تكامل،
وهادفًا إلى تجاوز النزاعات الناجمة عن الجهل بالآخر وبحقيقة الوجود
والغاية من الحياة. وبالمثل، علمتُ أن الإنسان العاقل يبحث في الظواهر
ليعرف الأسباب والقوانين. أما الإنسان العادي فإنه يتحدث عن الأشخاص
ليضيف إلى فردية وجوده صفة يحتمل أن تكون تعويضًا زائفًا. أما الإنسان
الواعي لحقيقة وجوده فإنه يبحث في المبادئ التي تسمو به إلى نطاق
الحياة الروحية.
في سبيل تحقيق الحوار الواعي، أودُّ أن أورد بعض المبادئ التي تدعو إلى
التفاهم، وتؤدي إلى اللقاء ضمن نطاق الاعتراف الكامل بالآخر والقبول
الكامل به:
المحبة، التي تتجاوز مركزية الأنا الفردية ومركزية الأنا التجمُّعية،
هي السبيل الأول والأهم لتحقيق الحوار، والأسلوب الأفضل الذي يؤدي إلى
التسامح العقلي والروحي الذي يشير، بدوره، إلى الإصغاء التام والهادئ
والرصين، وإلى الفهم الكامل لما يقدِّمه الآخر أو يعرضه. في المحبة،
أتأمل ما يقوله الآخر، أو ما يؤمن به، أو ما يعتقده، على نحوٍ يجعلني
ألتقي معه في أكثر من رأي أو فكرة أو مبدأ ضمن نطاق الوعي والحكمة.
لذا، كانت محبَّتي للآخر ومحبَّتي للحقيقة تمثلان الطريق الذي أسلكه
باتجاه الوعي الكوني الماثل في الألوهة؛ هذا، لأن الحقيقة السامية لا
تعترف إلَّا بمن كان محبًّا للآخر، وذلك لسبب جوهري يشير إلى أن
محبَّتي للحقيقة تتمثل في محبَّتي للآخر.
العقل المنفتح والقلب المنفتح اللَّذان يعتمدان الحوار الواعي غير
المتحيِّز، ويتجاوزان الانفعالات السلبية والإشراطات التي تقيِّد العقل
المكوَّن والمحتجَز داخل قوقعة الأنا المغلقة والقلب المغلَّف بنسيج
الحب الانفعالي الملازم لعنصرية الأنا التجمُّعية المتصلِّبة.
العقل المكوِّن الذي يعيد النظر في موروثات الماضي العمودية التي ترفض
التطور الأفقي، ويتحرَّر من القيود التي فرضتْها التفاسير الحرفية
والاجتهادات المتصلِّبة والمتطرفة والراسخة في مكانها، فيتجاوزها إلى
عقلانية روحية تتأمل الرمز لتعاين أو تستغرق عمق باطن أو جوهر المعنى
المضمون والكامن. هكذا، يتبنَّى العقل المكوِّن ثقافة الحوار والتسامح،
ويتجاوز أحداث الماضي.
الاعتراف بأن جميع الحضارات والثقافات والمبادئ الروحية سُبُل أو روافد
تصبُّ في نهر الإنسانية الواسع والعميق الذي يُعَدُّ كتاب الأبدية
وسجلَّ تاريخ الروح على الأرض.
الإرشاد الحكيم الذي يشير إلى استبعاد توطيد أُسُس القطب الواحد في
نطاق معرفة الحقيقة المطلقة، أو امتلاكها، أو احتكارها، وحرمان الآخر
من هذه المعرفة.
السعي إلى تحقيق حوار يقوم على عقلانية روحية واعية يتميَّز بها
العرفانيون الذين ينتمون إلى جميع الفئات المستنيرة.
كما أن الناس يختلفون فيما بينهم بصدد القضايا الروحية، كذلك يختلفون
بصدد القضايا الأخرى، اقتصادية كانت أم اجتماعية أم سياسية أم فكرية
إلخ. فما من قضية إلَّا ويدور حولها الاختلاف، دون أن يتحول إلى خلاف.
والحق أن الاختلاف يعتبر واقعًا طبيعيًّا يعود، بأصله، إلى وجود
التنوُّع، ولا يُحَلُّ إلَّا بالحوار الذي يقبل الآخر ويعترف به على
نحو كامل، والتسامح المتجاوز لوضع سابق.
في هذا المنظور، يتركز اهتمام الحكماء على القضايا الإنسانية التي، وقد
بلغت ذروة التفاهم بين الفئات المختلفة، تصبح الغاية المثلى التي
أرادتها، وتريدها، الحقيقة السامية المطلقة الماثلة في الألوهة. وهكذا،
يتجنب الحكماء البحث في قضية الوجود قبل الموت وبعده، لتبقى قضية تعود
لنطاق الحقيقة السامية المطلقة.
أخيرًا، أسمح لنفسي، وقد بلغت هذا المستوى من البحث، أن أتصوَّر ما
يُحتمَل أن تعلنه الحقيقة الإلهية للناس الذين أسقطو ثقافة الحوار
والتسامح أو تغاضوا عنه، فأقول: "يا أبناء الأرض، لا تتناحروا بشأن
قضية الحياة الأرضية المؤقتة وقضية الآخرة، لأنني أطلب منكم، كما
دعوتكم منذ الأزل وإلى الأبد، أن تنبذوا خلافاتكم ونزاعاتكم، وتدركوا
أسباب اختلافاتكم، لكي تتكاملوا في نطاق الحقيقة، الواحدة في باطنها
والمتنوعة في ظاهرها. لقد جعلتم من اختلافاتكم الظاهرية خلافات مستعصية
على الحل، ورفضتم تعديلها أو تجاوزها. لذا، أطلب منكم أن تحبوا بعضكم
بعضًا، وتتعارفوا بوعي، وتتعاونوا بصدق، لكي تستعيدوا الفردوس الذي
فقدتموه بعد تفرُّقكم، الذي أدَّى إلى إثارة النزاع والصراع، وبعد
اختلاق وابتداع الانقسامات المذهبية، وتستعيضوا عنه بفردوس أرضي
تحقِّقون فيه محبَّتكم واحترامكم بعضكم لبعض، وتغتبطون ببركتي ورعايتي
اللَّتين أمنحهما لكم. تلك هي إرادتي التي تؤكد على توصيتكم بأن تكونوا
محبين بعضكم لبعض، ومسؤولين تجاه بعضكم بعضًا، ونابذين للإدانات
المتبادلة بينكم، ورافضين للاتهامات العشوائية التي تؤدي إلى النزاع
والصراع."
ثانيًا: ثقافة التسامح بوصفها تجاوزًا للإدانة والإدانة المضادة
دخلت إلى عمق كياني باحثًا عن حقيقة مبدئي وأصالة رأيي ومعتقدي. وجدتُ
تنوعًا من الآراء ووجهات النظر، وحدست وجود وحدة إنسانية شاملة. أدركت
أن عقلي تأليف لثقافات ومعارف عديدة ومتنوعة تشكل كياني وتكوِّن
شخصيتي.
أدركتُ أني أمثِّل ثقافة إنسانية متنوعة في ظاهرها، متكاملة في باطنها
أو في مضمونها، وتتألق في وسطها ثقافتي العربية الخاصة. علمت أن
الثقافات، والحضارات، والأديان، والمبادئ الروحية تحيا في داخلي على
نحوٍ متسامح ومتعاطف، وتستغرق كياني. وعلمت أيضًا أن وجودي لا يتميَّز
بالقيمة والمعنى إن كان كياني يخلو من لقاء الثقافات، والحضارات،
والمعارف، والقيم الأخلاقية والروحية التي تتآلف في تفاهُم متسامح، وأن
علومي ومعارفي ومبادئي لا تتشكل في معزل عن هذا اللقاء المتَّسم
بالتفاعل والحوار المتسامح والحافل بالموقف الفكري الإيجابي.
أدركت أن التاريخ الإنساني، الذي يتصف بثقافة الحوار والتسامح، يتمثل
بنهر الإنسانية الذي يحمل، عبر روافده، تراث الحضارة الإنسانية حيث
تلتقي الثقافات وتتَّجه إلى توطيد الأساس الشامل لمستقبل أكثر إنسانية،
تمامًا كما تتجه إلى تفاعل العقول البشرية، على نحوٍ إيجابي، في نطاق
الوعي والحرية والمعرفة، وتتكامل في نطاق إنسانية متسامحة تتألق بالفهم
الحقيقي لمبدئي ومبدأ الآخر.
بدأت، وأنا ممتلئ بالغبطة في داخلي، ومستغرق في تأملٍ عقليٍّ واعٍ،
بدراسة وجهات النظر المتنوعة، مذهبية كانت أم اجتماعية أم علمية أم
عقائدية أم روحية أم غير ذلك. أدركت أن الانتماء المتطرف والمنفعل
يُحتمَل ألا يساعد على تحقيق ثقافتي الإنسانية المتسامحة. وبالتالي،
يحتمل ألَّا يُمِدَّني بالإرادة الحرَّة المنعتقة من كلِّ إشراط،
وبالقدرة على تبنِّي ثقافة إيجابية منفتحة إزاء الآخر. وفي القرار
الواعي الذي اتخذته، أصبحتُ صديقًا مخلصًا، ودودًا، محبًّا ومتفهمًا،
لجميع المبادئ الروحية والثقافية والحضارية، دون أن أضيِّق على نفسي في
نطاق وجهة نظر معينة؛ إذ يُحتمل أن تُلزِمني على اتخاذ موقف عدائي، أو
نزاعي، أو صِدامي، مع أنصار أو أتباع وجهة نظر أخرى. وفي هذا المنظور،
أدركت أن مثالية وجودي تسعى إلى التحقيق في نطاق الثقافة الإنسانية
المتسامحة.
تيقنت أن الغاية الأسمى والمغزى الحقيقي لوجودي يكمنان في الوعي الذي
يشمل المعرفة، والتقييم الوجداني، والمحاكمة المنطقية السليمة. وفي
سبيل تحقيق هذه الغاية، اكتشفت طريقي، واتخذت قراري الماثل في إرادتي
الحرة التي أشارت، ولا تزال تشير، إلى عملية البحث عن الحقيقة في
إنسانية أبعادها ونطاقاتها، وفي السعي إلى معرفة جوهرها عبر ثقافة
منفتحة ومتسامحة.
في هذا النطاق الفكري الإيجابي والمتسامح، جعلت من عقلي حديقة أزرع
فيها أنواع العلوم، والمعارف، والمبادئ، والثقافات التي كوَّنت،
ومازالت تكوِّن مني إنسانًا متميزًا بثقافة التسامح، يرى الإنسانية
كلَّها في كيانه، ويعاين الكون كلَّه في داخله، ويسعى إلى تحقيق فضيلة
أخلاقية وعقلانية، إيجابية ومتسامحة، ويتميَّز بوعي يرشدني إلى محبة
الإنسان دون النظر إلى لونه، أو عرقه، أو وطنه، أو مذهبه، أو أسلوب
تفكيره، أو وجهة نظره، أو علمه، أو عمله. وهكذا، جمعت المعارف المتنوعة
في نسيج واحد متعدد ألوان خيوط الحياكة.
في هذا المنظور، أعترف بوجود إنسانية واحدة تنسحب، في مجمل كياناتها،
على جميع الشعوب عبر تعدُّد أنواعها، وأعراقها، وألوانها، وعقائدها،
وثقافاتها، وعلومها. لذا، توجد إنسانية واحدة شاملة، هي الأنسنة، تتنوع
في مستويات صياغة التعبير عن قيمها ومفاهيمها المتكاملة في واقع
وجودها.
هكذا، تتنوَّع الحضارات والثقافات والمبادئ الروحية في نطاق إنساني
متكامل. وهكذا، يعترف الإنسان الواعي والمتكامل في كيانه، والمجتمع
المتكامل في ثقافته المتسامحة، بالتكامل الكامن في كيان المجتمعات
الإنسانية الأخرى، المعبَّر عنه بالتكاملية الإنسانية الضمنية، ولقاء
الشعوب والمجتمعات في وجودهم بعضهم مع بعض، بحيث يلتقي الآخر مع الآخر
في عالم تسوده مبادئ التفاهم والتسامح والتفاعل.
في هذا النطاق الفكري الإيجابي والمنفتح والمتسامح، تعمَّقت في دراسة
المناهج الفلسفية باحثًا عن الحقيقة. وبالمثل، تعمَّقت في دراسة مدارس
علم النفس المتنوعة، ساعيًا إلى فهم نفسي خاصة وإلى فهم ديناميكية
النفس الإنسانية عامة، وهادفًا إلى بلوغ التكامل والتوازن في داخلي.
وفي السياق ذاته، تعمَّقت في دراسة الأديان لأكتشف الحكمة المنطوية
فيها، تمامًا كما تعمَّقت في دراسة المبادئ العرفانية الرائعة لكي
أتمثَّلها في واقع حياتي. وأخيرًا، درست العلوم عامة لأفهم حقيقة
القوانين الطبيعية والإنسانية والكونية، وأدرك سرَّ المعجزة الكامنة في
جوهر الوجود. وفي هذه الدراسة المعمَّقة والموسَّعة، علمت أني أسعى إلى
تمثُّل ثقافة متسامحة تتيح لي فرصة الاطلاع على مبادئ الآخرين وفهمها
واحترامها. هكذا، أدخلت الآخر إلى دائرة وعيي، وهدفت إلى تحقيق
المشاركة الفاعلة بينه وبيني، وبناء جسر معرفيٍّ بيننا.
أدركت حقيقة مبدأ التسامح، وعلمت أنه الأساس أو القاعدة التي يتوطَّد
عليها صرح الاعتراف الكامل والقبول الكامل بالآخر. والحق أن الآخر يشكل
عنصرًا مكوِّنًا ورئيسًا في بناء شخصيتي داخل نطاق العلوم والمبادئ
والمعارف المتنوعة التي يُمِدُّني الآخر بها. وفي هذا المنظور، علمت أن
جميع الحكماء، والمبدعين، والمفكرين المثاليين، والعلماء الإنسانيين
قاموا بدور أساسي في تكوين معرفتي وحكمتي وفضيلتي. لذا، يُعتبَر الآخر،
الذي حقَّق إنسانيته وروحانية معرفته وكونية وجوده، آخر جعلني على ما
أنا عليه من معرفة، وفضيلة، وأخلاق، وعلم، وحكمة، وخير.
هكذا، تكون إيجابية الشعور والتفكير والتقدير لأهمية وجود الآخر
المتميِّز بمبادئ ثقافة الحوار والتسامح في وجودي. وهكذا، يكون الإنسان
الموهوب بثقافة الحوار والتسامح صديقًا لنفسه ولغيره.
بالإضافة إلى ما ذكرت، أعتقد أن المبدأ الذي ترتكز عليه ثقافة الحوار
والتسامح يتحقق على مستويين:
-
مستوى أخلاقي أحقق فيه سموَّ كياني الإنساني، الممتلئ بالمحبة والتعاطف
والمشاركة، وأتجاوز الموقف السلبي الصادر عن الآخر.
-
مستوى عقلي أحقِّق فيه حكمة منطقي وصدق محاكمتي التي تقضي بفهم الآخر،
أي فهم موقفه الفكري، ووجهة نظره ومبدئه فهمًا صحيحًا، لسبب أصيل
يدعوني إلى احترام الاختلاف الظاهري، والاعتراف بالتنوُّع الذي يُغني
الوضع الإنساني في كلِّ مجال من مجالات المعرفة، وفي كلِّ حالة تتوثَّق
فيها الروابط والعلاقات الإنسانية المتسامحة.
يشير هذا المستوى إلى تجرُّد ثقافة الحوار والتسامح عن الإدانة
والإدانة المضادة. وبالفعل، تُعتبَر ثقافة الحوار والتسامح تفاعلاً
حقيقيًّا بين الإنسان والإنسان وبين المجتمعات البشرية الراقية. وتتألق
هذه الثقافة المتسامحة في احترام الإنسان عبر امتداد كيانه، وتعميقه،
وتوسيعه باتجاه الآخر. وإذا كان الآخر هو مَن يساعدني على تثقيف
إنسانيتي وتحقيقها بموهبة معيَّنة، فإن إنسان ثقافة الحوار والتسامح
كائن يتجاوز الإدانة والإدانة المضادة، ويعمِّق إنسانيته ويوسِّعها إلى
الآخر المتميِّز بإنسانية مماثلة.
يؤلمني أن أشاهد الإشراطات والعوائق العديدة التي تحُول دون تحقيق
ثقافة الحوار والتسامح. ومن جانبي، أعتقد أنها تنضوي تحت عوائق مأساوية
ثلاثة:
-
ردود الأفعال الانفعالية والسلبية التي يُحتمَل أن تؤدي إلى الإدانة،
وبالتَّالي، إلى التطرف والتعصب والعنف.
-
القناع الذي يحُول دون رؤية الحقيقة، فيؤدي إلى عمى فكري، ويرفض فهم
الآخر والاعتراف به.
-
الموقف السلبي المجسَّد بالتفسير الحرفي والنفعي والفهم الظاهري
والضيِّق للمبادئ الإنسانية والروحية.
1. ردود الأفعال الانفعالية التي يُحتمَل أن تؤدي إلى الإدانة والإدانة
المضادة:
أود أن أبدأ بمعالجة موضوع العنف، أولاً، وموضوع التطرف، ثانيًا. ومن
جانبي، أعتقد أن العنف ليس نزعة أو صفة أصيلة وملازمة لكيان الإنسان؛
هذا، لأن الإنسان، في جوهره، كائن عاقل يسعى إلى توطيد دعائم
عقلانيَّته المتسامية إلى المزيد من الوعي والحكمة والمنطق. وهكذا،
يكون العنف شديدًا وخطيرًا بقدر ما يخرج الإنسان عن نطاق العقل، وعن
نطاق الحكمة والوعي والمنطق المتماسك في أحكامه. لذا، كان العنف مجرَّد
انفعال سلبي مكتسَب، ضاغط ومتراكم في اللَّاوعي، يطيح بملَكة العقل
والوعي والحق.
إن العنف لا يتصل بمفهوم القوة؛ هذا، لأن القوة تعني التوازن، أو
التماسك، أو التكامل الداخلي، في كيان الإنسان ونفسه. وعلى سبيل
المثال، يُعتبَر الإنسانُ المحبُّ قويًّا في محبَّته، والإنسانُ
الكريمُ قويًّا في كرمه، والإنسانُ المضحِّي قويًّا في تضحيته،
والإنسانُ العارفُ قويًّا في معرفته، والإنسانُ المتواضعُ قويًّا في
تواضعه، والإنسانُ المتسامحُ قويًّا في تسامحه. هؤلاء جميعًا أقوياء
لأنهم متوازنون، ومتكاملون، ومتماسكون في كيانهم. أما العنف فإنه يشير
إلى انفعال سلبيٍّ طاغٍ في حالِ دَعْمِه بوسيلة أو أداة أو معتقد
متطرِّف أو انتماء إلى طبقة أو فئة تعاني من مركزية الأنا التجمُّعية
المضخَّمة إلخ. إنه مجرَّد انفعال سلبي أو انفعالات سلبية، متراكمة أو
مكبوتة في اللَّاوعي وخاضعة لعقدة النقص أو لعقدة العظمة، ومهيَّأة
للانفجار في كلِّ لحظة غير واعية يثيرها انفعال خارجي أو داخلي.
في هذا السياق، أسعى إلى معالجة موضوع التطرُّف الذي يشير، بدوره، إلى
انفعال فاعل ينتج عن تفاقم الكبت أو الكبح. ويُحتمَل أن تكون الأسباب
أو العوامل الدَّاعية إلى التطرف أو إلى التعصب هي الأسباب ذاتها
الدَّاعية إلى العنف. وبالفعل، يُعتبَر التطرف ملازمًا للعنف، وبخاصة
إن كان نتيجة لاعتقاد الإنسان بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة أو يختص
بامتلاك الحق، أيًّا كان هذا الحق، ويتخيَّل بأنه الوحيد المسؤول عن
تطبيقه. وعلى سبيل المثال، يكون الكاره عنيفًا أو متطرفًا في كرهه لسبب
هو أنه ضعيف؛ ويكون المعتقِد بصواب معتقده عنيفًا ومتطرفًا في موقفه
لأنه ضعيف؛ ويكون المعتقِد بمطلق صواب معتقَده عنيفًا ومتطرفًا في
موقفه لأنه ضعيف؛ ويكون المنفعل بمركزية الأنا الفردية ومركزية الأنا
التجمُّعية عنيفًا ومتطرفًا في انفعاله لأنه يعاني من عقدة تسيطر عليه؛
ويكون المتكبِّر عنيفًا ومتطرفًا في سلوكه لأنه يعاني من ضعف شخصيته،
فيعوِّض عن عقدة النقص بعقدة العظمة؛ ويكون المنفعل بتفوُّق عرقه، أو
عنصره، أو أصالته، أو مركزية فرديته، عنيفًا ومتطرفًا لأن فرديته
متضمَّنة في مفاهيم خاطئة أو مزيَّفة؛ ويكون الجاهل عنيفًا ومتطرفًا في
جهله لأنه يعمد إلى الدفاع عن جهله، أي ضعف معرفته، ويرفض كلَّ حقيقة
تمسُّ ضعفه بعنف وتطرُّف إلخ. جميع هؤلاء ضعفاء، وعنيفون، ومتطرفون،
لأنهم فقدوا توازنهم أو تكاملهم العقلي والنفسي.
في هذا السياق، يتَّصف العنف بالتصلُّب في الرأي، والتطرف في اتخاذ
القرار، والموقف السلبي المرتبط بردود الأفعال الانفعالية، التي هي
مجرد إضافات تراكمت في اللَّاوعي وكانت حصيلة التربية الانفعالية التي
تلقَّاها الإنسان في صغره، ونشأ عليها، ورفض تعديلها أو التخلِّي عنها،
وأدت، في نهاية المطاف، إلى بروز الأنا العليا المضخَّمة التي فقدت
تكاملها أو توازنها.
2. القناع الذي يحول دون رؤية الحقيقة أو فهمها:
يتمثل مفهوم القناع في البرقع الذي يحجب عن الإنسان القدرة أو الإرادة
الحرة والواعية والهادفة إلى معرفة الحقيقة أو معاينتها، ويؤدي، في
نهاية المطاف، إلى عمى فكري يحُول دون فهم وجهة النظر التي يتبنَّاها
الآخر. لذا، كان القناع كلَّ ما يحُول دون تحقيق المعرفة، وكلَّ ما
يصرف العقل عن تبنِّي المبادئ السامية التي تشير إلى الحقيقة السامية.
في هذا المنظور، أدركت أن الجهل، والوهم، والتعصب، والاعتقاد الصارم
بامتلاك الحقيقة المطلقة وحرمان الآخرين من امتلاكها، والأنانية،
والتعلُّق الشديد، والرغبة الجامحة، ومركزية الأنا المضخَّمة، والتعويض
الزائف، وضيق الأفق الفكري، والتكبُّر، والسيادة المتسلِّطة،
والاستغلال، والظلم، والطمع، والشهوة، والقسوة، والكراهية، ورفض
الاعتراف بالآخر والقبول به، والتصلُّب في الرأي، وسوء الفهم، والموقف
السلبي، إلخ، إنما هي انفعالات سلبية تشكِّل الخيوط التي يُحاك منها
نسيج القناع. والحق أن الحكماء، في أصقاع العالم قاطبة، دعوا الإنسان
سابقًا، ويدعونه في الوقت الحاضر، إلى إزالة القناع أو الأقنعة
العديدة، وإلى الخلاص من الإشراطات الكثيرة التي تقيِّد الإنسان،
وتُخضِعه، وتعزله وتقصيه عن معرفة حقيقته الأرضية والكونية، وتحجب عنه
حضوره في الآخر وحضور الآخر فيه ضمن تكاملية التنوُّع التي تشير إلى
وجود مبدأ أو ثقافة الحوار والتسامح في العلاقات الإنسانية.
3. الموقف السلبي المجسَّد بالتفسير الحرفي والنفعي والفهم الظاهري
للمبادئ الإنسانية والروحية:
في الفهم العقلي المستنير لمبدئي ومبدأ الآخر، يبلغ الموقف السلبي
والنفعي والتنكُّر للآخر نهايته، ويتحقق البرهان الذي يؤكد تمثُّل جميع
المبادئ الإنسانية والروحية لحقيقة واحدة سامية تشمل تنوُّعات التعبير
والصياغة. ويؤسفني هنا أن أقول إن عددًا وافرًا من المفوَّضين على
تطبيق هذه المبادئ في النطاق الاجتماعي والإنساني، والمسؤولين عن إرشاد
الناس وتوجيههم، تقاعسوا عن تأدية واجبهم لأنهم عجزوا عن فهم الحكمة
الكامنة فيها والعمق المضمون في مثاليَّتها، الأمر الذي أدَّى إلى
الانجراف باتجاه الموقف السلبي والتنكُّر للآخر، وتحويلهما إلى عنصرية
متطرِّفة أو عقائدية متصلِّبة ومغلقة حَرَفَتْ سعادة الإنسان إلى
تعاسة، وضياء الحياة إلى ظلام، والمحبة إلى كراهية، والفردوس إلى جحيم.
لمـَّا كان أنصار أو أتباع الموقف السلبي يذهبون مذاهب وعقائد شتَّى
ومتعددة تتناسب مع مصالحهم الفردية أو النفعية، أو مع مستوى إدراكهم
المتدنِّي، فقد تجزَّأت وجهة النظر المبدئية إلى وجهات نظر متباينة أو
متنافرة أو متباعدة أو متناقضة أدَّت، في نهايتها، إلى خلافات تجاوزت
حدود الاختلاف. والحق أن الاختلاف مفهوم عادي في نطاق التنوُّع الذي
تؤكِّد عليه ثقافة الحوار والتسامح. وقد انتهت هذه الخلافات، أيًّا كان
نوعها، إلى الصراع واندلاع الحروب، أو إلى النزاع الدائم والمستمر؛ هذا
النزاع الذي لم يسعَ القائمون على إدارة شؤون الشعوب إلى وضع حدٍّ لها
وتوجيهها لتكون قوة فاعلة لتوطيد أُسُس السلام، والوعي، والمحبة،
والخير، والازدهار. وعلاوة على ذلك، تقاعس الراشدون عن تحقيق حلٍّ
إيجابي. وهكذا، عانت البشرية بسببهم، ومازالت تعاني، من ألم سلبي
وتعاسة مريرة يُرَدَّان إلى التخلِّي عن مبدأ الحوار والتسامح الذي
يتألق في إطار لقاء الإنسان مع الإنسان في نطاق الأنسنة.
ثالثًا: المبادئ التي تتضمَّن فيها ثقافة الحوار والتسامح:
تتحقق ثقافة التسامح وعقلانية الحوار في المبادئ التالية التي تتوطَّد
عليها أُسُس الحياة الإنسانية الهادفة إلى بلوغ مثالية حضور الإنسان في
كوكب الأرض:
-
محبة الإنسانية جمعاء، بغضِّ النظر عن الجنس، واللون، والعنصر،
والمعتقد، والدين.
-
توحيد نطاقات الفكر الإنساني ووجهات النظر العديدة والمتنوعة في دراسة
مقارنة تتضمَّن في وحدة تأليفية للدِّين في مفهومه الروحي، وللفلسفة في
مفهومها الإنساني والمثالي، وللعلم في مفهومه النظري والطبيعي والكوني.
-
تعمُّق وتوسُّع في دراسة القوانين الطبيعية والإنسانية والاجتماعية،
والولوج إلى نطاق أو مستوى القوانين أو المبادئ الكونية التي تشملها.
-
الشعور الكامل بالقيمة والمعنى المضمونين والكامنين في الوجود، والحدس
بالمعرفة بمفهومها العرفاني الذي يشير إلى وجود وعي كوني يشمل جميع
القوانين والمبادئ.
-
التجربة النفسية، أو العقلية المتسامية، أو الروحية المختبَرة، التي
تتألق في عرفان وجداني يتجلَّى في تحقيق الشعور الأسمى بتكامل الوجود
الطبيعي والإنساني والكوني.
-
واقع الحضارات والثقافات والإنجازات الكبرى الرائعة، المتنوِّعة في
نطاقات اختصاصها، مقولة تشير إلى وجود تنوُّع ظاهري للمواهب، وتؤكِّد
وجود حقيقة باطنية أو جوهرية واحدة، وعقل إنساني جماعي وشامل، وروح
كونية فاعلة في التاريخ الإنساني.
-
العقل المنفتح والقلب المنفتح سبيل إلى لقاء الإنسانية في حوار يتبنَّى
الاعتراف الكامل بالآخر والقبول الكامل به، وإلى تفاعل العقل الخاص مع
العقل العام، في قاعدة واحدة مشتركة تساهم فيها العقول الفردية
الموهوبة، وتشير إلى احترام التجارب الروحية الأخرى التي اختبرها حكماء
آخرون في أنحاء العالم.
-
تأسيس بنية عقلية ونفسية منفتحة ومكوِّنة، تصلح لإجراء حوار بين أبناء
وبنات الناس لقبول الآخر والاعتراف به، وتتجاوز الأُطُر المحدودة
والمناهج الأحادية البعد.
-
تمثُّل الطبيعة والإنسان والكون في نسيج واحد متنوع خيوط الحياكة،
وتحقيق هذا التمثُّل في وصال مع الحقيقة السامية المطلقة عبر الإنسان.
-
"إعلان عالمي لواجبات الإنسان" يشمل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،
ويدعو إلى تحقيق تربية إنسانية إيجابية فاعلة تجعل من الواجب أمرًا
أخلاقيًّا وعقليًّا وروحيًّا.
-
المثالية بوصفها تطويرًا للواقع المعاش، أي كما يجب أن يكون، على نحو
تحوُّل من الوجود إلى الوجوب.
-
السعي المثابر، الغائي والهادف، إلى تحقيق العدالة الاجتماعية الملازمة
لكرامة الإنسان وحرِّيته الماثلتين في الوعي. وهذا يعني التطوير الدائم
لتحسين الأوضاع البشرية في نطاقاتها ومستوياتها المتنوعة.
-
توطيد التفكير المنطقي لبلوغ محاكمة سليمة تنقذ العقل من تحديدات
الإشراطات العديدة وصلابة المعتقدات الكثيرة التي كوَّنت عقل الإنسان
ونفسه، وحالت دون تطويره أو تعديله إلى عقل واعٍ ونفس صافية ترقى إلى
حكمة الروح.
رابعًا: الأنسنة بوصفها شمول الإنسانية:
الإنسانية جامعة شاملة، وشمولها يتحقق في الأنسنة الماثلة في كيان
الإنسان. إنها تمتد وتتسع إلى الكون المادي والروحي، وتحيا وجودها
فيهما. وشمول الأنسنة يجعل البشرية أسرةً كبرى تنعم في ظل الحقيقة
الواحدة. وهكذا، يكون الناس جميعًا إخوة يلتقون في الجوهر الإنساني
الواحد. وكذلك، يكون كلُّ إنسان أخًا لكلِّ إنسان، ويلتقي جميع الناس
في أنسنة الإنسان الواحد، أي في وجود واحد وصور كونية متعددة ومتنوِّعة
من ناحية الشكل فقط. والحق أن محبة الإنسان تكمن في عظمة شمول الأنسنة
الجامعة، ويتأسَّس مبدؤها على أن جميع الناس، على اختلاف أعراقهم
وألوانهم، يؤلِّفون جسدًا واحدًا، هو مادة واحدة، وروحًا واحدة لا
تتناقض في كيانها.
الأنسنة قوَّة فاعلة في الإنسان، ترشده إلى رؤية نفسه في الآخر، وإلى
معرفة نفسه من خلال الآخر. ومحبة المعرفة الماثلة في الحكمة تشير إلى
الشعور الفائق بوجود الإنسان في جامعة شاملة تدعى الأنسنة. وليست هذه
الأنسنة غير شعور بوجود الكثرة في الوحدة، وبوجود الأفراد في الإنسان،
حيث ترى الأنا ذاتها في الوحدة المتكثِّرة. وهكذا، ليس ثمة وجود للكثرة
الظاهرية؛ وعلى غير ذلك، توجد تنوًّعات تتمثَّل في كيان إنساني واحد
يبلغ درجة الالتقاء المطلقة في الأنسنة.
تتحقق الأنسنة في شعور الإنسان بعالميَّتها وشمولها وكونيَّتها.
ولمـَّا كان الإنسان الواحد قد وُجِدَ بأنواعه العديدة في أنحاء الأرض،
فإن أنسنة الكائن تتخلَّل جميع الأمم، وتنبثُّ في جميع الشعوب، أي في
جوهر الإنسان الواحد، المجرَّد والمطلق بأنسنته، الواقعي بفرديته.
يحثُّنا مبدأ الأنسنة على احترام الإنسان وتقديره وإعلاء شأنه. فلا
يحقُّ للإنسان أن يعبث بأنسنته في الإنسان، أو يعتدي عليه، أو
يستغلَّه، أو يستعبده، أو يحقد عليه، أو يكرهه، أو يحط من قدره. والحق
أن الإنسان يكره غيره، ويكره الأنسنة الماثلة في كيانه، ويكره الله
للأسباب التالية:
إن كنَّا نعتبر الإنسان ثمرة تطور الحياة الكامنة في الطبيعة، فإن
الحقيقة تشير إلى أهمية وجوده. وعلى سبيل المثال، تشير تربية الشجرة
والعناية بها إلى تحقيق الغاية الماثلة فيها؛ وتتجلَّى هذه الغاية في
ثمرة هي نتاج وجود الشجرة. ولهذا السبب، يُعتبَر القضاء على الثمرة
جريمة نكراء لسبب هو أن الغاية من وجود الشجرة تنعدم. وينطبق هذا المثل
على واقع وحقيقة وجود الإنسان والغاية المرجوَّة من وجوده. لذا، لا
يحقُّ للإنسان أن يقضي على الإنسان، أي على نفسه، لأنه ثمرة تطوُّر
شجرة الوجود الأرضي والغاية الناتجة عن هذا التطور. لقد فعلت الطبيعة
الحية بالطاقة الروحية أحقابًا زمانية طويلة لإثماره، أي لإبداعه. لذا،
كانت الغاية التي من أجلها وُجِدَت الطبيعة الحية غايةً نبيلةً وجليلةً
تستحق الإكرام والمحبة والاحترام.
إن كنَّا نعتبر الإنسان الصورة المصغَّرة للحقيقة السامية المطلقة،
واللَّامنظورة، واللَّاموصوفة، واللَّامحدودة واللَّانهائية، فإنه
يستحق التقدير والمحبة والتكريم على نحو إجلال وتوقير للحياة الروحية
الماثلة في كيانه. إذن، فالإنسان، الذي يحيا ضمن نطاق الوجود الحي،
كائن يتجاوز الوجود المحدود الممثَّل بالموت، وليس شعوره بلامحدوديَّته
وكونيَّته غير دليل على حقيقة لامحدوديَّته. وفي هذا المنظور، نعلم أن
إهانة الإنسان، أو كرهه، أو قتله معنويًّا أو ماديًّا، قضية تشير إلى
إهانة الألوهة التي كوَّنتْه. أقول هذا الكلام وأنا أعلم أن التطور بعد
وجود الإنسان على الأرض يشير إلى تطور عقلي ونفسي وروحي. لذا، كان أيُّ
اعتداء على الإنسان، أو أيُّ تقليص لأهمية وجوده وقيمته، اعتداءً على
العقل والروح وتقليصًا لهما.
إن كنَّا نعتبر الإنسان مثالاً شاملاً لأنسنة جميع الناس، فإن كل إهانة
تُلحَقُ به تُلحَقُ أيضًا بالجنس البشري بأجمعه؛ هذا، لأن احترام أنسنة
الكائن الإنساني يعني احترام الإنسانية كلِّها، والعناية به تعني
العناية بالبشرية كلِّها. ولمـَّا كانت محبة الإنسان الفرد تعني محبة
الإنسانية جمعاء، فإن مبدأ الوجود حقيقة تستحق الجهد والتحقيق.
إن كنَّا نعتبر الإنسانية متنوِّعة في لونها، وعرقها، وفقرها وغناها
الماديين، ومختلفة في أقطارها المتنوعة، فلا يحق للإنسان أن يستغل
الإنسان الآخر؛ هذا، لأن التنوُّع الماثل في تنوُّع المواهب الإنسانية
والموارد الطبيعية يشير إلى التكامل وليس إلى التنافر. وإن كنَّا نعتبر
أناسًا أفضل من أناس آخرين لأسباب المعيشة، أو البيئة، أو اللون، أو
العنصر، فإن الإنسان، الذي يأخذ بهذه الأفضلية، لا يختلف عن غيره في
أمور كثيرة يتَّهمه بها. والحق أن الإنسان، في رحلة حياته الأرضية،
يرتحل عبر هذه الأطوار كلِّها ويمارس إنسانيته من خلالها. فإنْ هو
احتقرها في غيره فإنما يحتقرها في نفسه. وعلى سبيل المثال: إن كنت
أعتبر غيري عبدًا، فأنا عبد مثله في مجالات وحالات عديدة، ويُحتمَل أن
أكون أكثر عبودية منه؛ وإن كنت أعتبره زنجيًّا، فمن المحتمل أن أكون
أكثر سوادًا منه في أمور كثيرة، أي أكثر سوادًا منه في داخلي؛ وإن كنت
أعتبره فقيرًا أو متخلفًا، فيُحتمَل أن أكون أكثر فقرًا منه بروحي
وعقلي، وأكثر تخلفًا في ثقافتي وحضارتي، أي أكثر تخلفًا في إنسانيتي.
والحق أن محبتي للإنسانية تحثُّني على عدم اعتبار كل ما أجعل منه
عائقًا أو فاصلاً بيني وبين الآخر الذي يشاركني أنسنتي.
إن كنَّا نعتبر الإنسانية تهدف إلى تحقيق غاية كامنة في كيانها، فإن
إنسانيتي تحُول دون اختلاق عوائق تحُول دون تحقيقها. وبالفعل، لا يحق
للإنسان أن يسعى إلى تثبيت التفرقة العنصرية، وإثارة التناحر الإقليمي
والنزاع المؤدي إلى الحروب؛ هذا، لأن الغاية تشير إلى تلاقي الأهداف
التي تتفرَّع من الغاية الأصلية. ولا تتحقق هذه الغاية إلَّا
بالمشاركة، والتعاطف، والمحبة، والتسامح، والعيش في سلام مع الآخرين،
والتضحية بالمواهب في سبيل إسعاد الآخرين.
إن شمول الإنسان الذي يمتد ويتسع من مركزية الأنا إلى مركزية الأسرة،
إلى مركزية الفئة، إلى مركزية المجتمع، إلى مركزية العالم، وأخيرًا،
إلى مركزية الكون، دليل على أنه كائن أرضي وكوني. وإن كونه ينتمي، في
واقعه، إلى عالم واحد وكون واحد يعني أن الأخوَّة الإنسانية لا تتعارض
مع كونه ينتمي إلى وطن؛ هذا، لأن الإنسان يشع في اتجاهات أربعة: أولاً،
من كيانه إلى ذاته لكي يحقق كمون هذا الكيان؛ ثانيًا، من كيانه إلى
المجتمع لكي يحقق إنسانيته في اجتماعيته؛ ثالثًا، من كيانه إلى العالم
لكي يحقق أنسنته؛ رابعًا، من كيانه إلى الكون لكي يحقق كونيته أي حياته
الروحية والكونية التي تعني روحانية وجوده. وهكذا، يكون الإنسان
مزوَّدًا بطاقة روحية تُمِدُّه بقدرة فائقة لتحقيق تأليف بين الاتجاهات
أو الأبعاد الأربعة وبين المركزيات الخمس المذكورة.
في الاتجاه أو البعد الأول، يشع الإنسان وفق قاعدة إنسانية، فطرية
نقيَّة، تعبِّر عن ناموس روحي، غير مكتوب بالحرف، نُحِتَ في كيانه منذ
بداية التكوين. ويُعتبَر هذا الاتجاه أو البعد الأول أهم الاتجاهات أو
الأبعاد الأربعة؛ هذا، لأن الإنسان الروحي، في جوهره، لا يحقق الغايات
النبيلة ما لم تكن كامنة فيه.
لذا، يجب أن يحققها أولاً؛ ومتى حقق الإنسان المعنى المضمون في جوهر
وجوده، والغاية التي تدعوه إلى تحقيقها، فإن اتجاهه أو بُعده الثاني
يشع باتجاه المجتمع، حيث يحقق وجوده الشخصي في الحياة الاجتماعية؛
وأعني أنه يحقق إنسانيته في اجتماعيَّته. ويتجلَّى الاتجاه الثالث في
بُعد إنساني أشمل يحقق فيه أنسنته. أما الاتجاه أو البعد الرابع، فإنه
يتحقق في شعور كوني ماثل في روحانية سامية. ويُعتبَر هذا البعد الأخير
تحقيقًا لشعور وجداني يشير إلى أنه ينتمي إلى الكون وسرمدية الوجود
وأزليته.
في هذا المنظور، يقضي الواجب بخدمة المجتمع، الممثَّل بالوطن، أولاً،
وخدمة الإنسانية، الممثَّلة بالأنسنة، ثانيًا، وتحقيق الكونية، ثالثًا.
ومع ذلك، لا يتناقض واجب خدمة المجتمع مع خدمة العالم ومحبته، ولا محبة
الإنسانية جمعاء. والحق أن هذه المحبة أو الخدمة ثلاثية البعد تبلغ
ذروتها في محبة الكون وأزلية الحياة الروحية. وهكذا، نعلم أن المجتمع،
في صورة الأمة أو الدولة، والعالم، في صورة الإنسانية، يتلازمان
ويتوافقان في تقويم الإنسان كوجود شامل وكلِّي يتجاوز الحدود والأمكنة
والأزمنة إلى الشمول والأبدية، إلى الأنسنة المطلقة حيث يلتقي الزمان
والأبدية. والحق أن تربية تتأسَّس على مبدأ شمول الأنسنة وكونية
الإنسان كفيلة بأن تضع حدًّا للعنف والصراع بأشكاله كلِّها. إذن، فعالم
الأنسنة، الذي لا يتجزأ أو لا ينقسم، كونه النطاق الذي تتحقق فيه
إنسانية الإنسان وكونيته، يطالب الإنسان بتحقيق غايته الاجتماعية،
والإنسانية، والعالمية، والكونية. هكذا، أفهم شمول الأنسنة وشمول
كونيَّتها.
يراودني هذا التصور، الذي يحمل مجمل المبادئ، وأنا أتعمَّق في تأمل
نفسي وفهمها. أتأمل نفسي، وأتأمل الكون وكيان الإنسان الروحي
والاجتماعي. وفي هذا التأمل ثلاثي الأبعاد، أتساءل: كيف أُبدِعُ من
نفسي كيانًا شاملاً؟ كيف أحقق الكون في شموله؟ كيف أجعل وجودي
الاجتماعي والإنساني شاملاً؟ ولا يدهشني أبدًا أن أجيب نفسي: أنا كائن
أحيا شمول كياني، وشمول الكون، وشمول الحياة، وشمول الأنسنة، وشمول
إنسانيتي الاجتماعية، وشمول المادة والطاقة والروح. وإذا كانت الحقيقة
السامية المطلقة غاية في ذاتها، وتتجلَّى في الكل الشامل، ومن خلال
شمول الكل، وفي الأنسنة ومن خلالها، وفي الإنسانية ومن خلالها، فإن
الكونية أو الشمول يمثل المبدأ الفاعل في الكون عامة وفي كوكب الأرض
خاصة. وإذا كان الشمول مبدأً كونيًّا فاعلاً، فلا بدَّ لي أن أجد
التفسير الواضح للكثرة أو التنوع الظاهري. ثمة تعددية متنوعة وكثرة
ظاهرية في الوجود، وثمة وحدة باطنية شاملة تكمن مستترةً في التنوُّع.
لذا، كان الوجود، في جوهره، وحدةً في كثرة وتنوُّع، وكثرةً وتنوعًا في
الوحدة.
أتساءل من جديد: كيف تصدر الكثرة المتنوِّعة من الوحدة؟ وعن هذا
التساؤل، أجيب: عندما نعاين الكون بنظرة فاحصة على نحو تأمُّل عقلي،
تتراءى لنا حقيقة عميقة، شاملة، قائمة في ذاتها وممتدة ومتَّسعة إلى ما
لا نهاية. وتبدو هذه الحقيقة كأنها سلسلة وجود كبرى تبدأ من الأدنى
وتنتهي في الأعلى. وثمة مستويات تراتبية تبدأ من الأدنى على نحوٍ يشتمل
به المستوى الأعلى على المستوى الأدنى. والحق أننا لا نستطيع تعريف
الأدنى بأكثر من قولنا: إنه ما لا نهاية له في الصِّغر؛ وكذلك، لا
نستطيع تعريف الأعلى إلَّا بأنه ما لا نهاية له في الِكبَر. وهكذا،
توجد لانهايتان هما: لانهاية الصغير ولانهاية الكبير.
بين هاتين اللَّانهايتين، توجد لانهاية ثالثة تلتقي فيها اللَّانهايتان
على نحوٍ يكون الإنسان مركز لقائهما. وبين هاتين اللَّانهايتين، تبدأ
سلسلة الوجود الكبرى وتنتهي، وترتقي ضمنها أدنى الظاهرات إلى أعلاها.
وفي ارتقائها، تتدرَّج في تماسُك جوهري، واتصال لا يعرف الانفصال. وفي
هذا الاتصال، تعبِّر كلُّ ظاهرة عن وجودها بالأخرى التي تتضمَّن فيها.
ويشير هذا التسلسل، الذي لا يعرف الانفصال في مستوياته أو حلقاته، على
أن الوجود وحدة تأليفية متماسكة تنطلق، عبر ترتيباتها المنتظمة، من
متعضيَّته الأدنى لتصل إلى الإنسان، ومنه إلى الأعلى، أي إلى لانهاية
الكبير، ومن مستوياته المادية لتبدأ بأصغر ما في الكون إلى أكبر ما في
الكون مرورًا بالإنسان.
إذا كان الوجود في أكبره، أي في لانهايته الكبرى، يشتمل على ذاته في
لانهاية صغرى، فإن كل ما يوجد في الكون الأكبر يوجد في الكون الأصغر.
لذا، ينغلق الكل الأكبر في الكل الأصغر، تمامًا كما تنغلق الدائرة
بكاملها في النقطة التي هي تركيز الدائرة. لذا، كان الأصغر، أي الكل
الصغير، تركيزًا للكل الكبير، وليس جزءًا منه.
في حالة الإنسان، نرى كيف يتفاعل هذا الكائن، الذي هو مركز لقاء
اللَّانهايتين، مع الكل الأكبر والكل الأصغر. ففي جسده، يتم اللقاء
بينه وبين الكون المادي في عملية مباشرة. فهو يتَّحد مع الكون المادي
من خلال طعامه وتلاؤمه مع البيئة، وذلك لأن جسده يشكل مع الوجود المادي
كيانًا واحدًا. وبالمثل، يتَّحد أو يتفاعل مع الغلاف الغازي في
تنفُّسه؛ ويتَّحد أو يتفاعل مع النور والحرارة ومع الأشعة الكونية
الأخرى التي يحيا في وسطها. ويتَّحد أو يتفاعل مع الإنسان الآخر في
أنواعه الإنسانية العديدة ليمتد في نفسه، وفي صورتها الاجتماعية
والعالمية والكونية، إلى ما لا نهاية. ويفكر في وجوده وحقيقة كيانه وهو
يتأمل الكون في كلِّيته وشموله، ويسعى إلى توطيد أو إقامة اتصال ضمني
معه. وهكذا، تُعتبَر الإنسانية لانهاية ثالثة تلتقي فيها اللَّانهاية
الصغرى مع اللَّانهاية الكبرى في تشابك أو تعقيد كبير.
لا يسعني أن أبحث مقولة الإنسانية إلَّا من ناحيتين: ناحية الإنسان
الفرد، وناحية الإنسان الاجتماعي والعالمي. وفي هذا السياق، يتبادر إلى
عقلي السؤال التالي: كيف أستطيع أن أتصور الإنسان الفرد؟ أين يوجد هذا
الإنسان؟ كيف يكون في جوهره أو في كيانه؟ وإذا أقمت مقارنة بينه وبين
الجسد، أتساءل من جديد: كيف يمكنني أن أتصوَّر القلب وحده أو الدماغ أو
أيَّ عضو من أعضاء الجسد؟ هل يوجد عضو بمفرده على نحوٍ مجرد؟ ما هو؟
كيف يكون؟ والحق أن العضو لا يوجد إلَّا في الجسد؛ وبالمثل، لا يوجد
الإنسان الفرد على نحوٍ مجرَّد.
في هذا المنظور، يمكنني أن أقول: إن الإنسان الفرد غير موجود؛ هذا، لأن
البشرية بدأت بجماعة ولم تبدأ بفرد. وقد أثبتت البحوث الپاليونطولوجية
والأنثروپولوجية هذا الواقع. وبالمثل، أثبتت الدراسات المعمَّقة في
نطاق الحكمة أن مفهوم الإنسان، أي آدم، يعني الجنس البشري. وهكذا، نعلم
أن الفرد غير موجود إلَّا كعنصر مكوِّن. وإن وُجِدَ، فما هو؟ ما فكره؟
ما عقله؟ ما أخلاقه؟ وهل يتمتَّع الفرد بالتفكير في حالة فردانيَّته؟
وهل تكون له مُثُل وغايات؟ وعلى هذا الأساس، توجد الأنسنة، أي الإنسان
الواحد المتنوِّع في فردانية تسعى إلى التحقيق في الأنسنة الشاملة
للإنسان الاجتماعي. وبالمثل، يسعى إلى تحقيق شمول كونيَّته المؤنسنة.
خلاصة
تتحقق عالمية الإنسان وكونيَّته على صعيدين: صعيد اجتماعي ضمن إنسانية
واقعية ندعوها المجتمع الذي وُلِدَ أي وُجِدَ فيه؛ وصعيد عالمي ندعوه
صعيد الأنسنة الشاملة والكونية. ففي المجتمع الواحد، يتَّحد الأفراد في
نطاق يدعو الإنسان إلى تحقيق إنسانيته الجماعية على نحوٍ يمتد الفرد في
الفرد الآخر لكي يتجاوز فرديته إلى إنسانيته الاجتماعية. وهكذا، يخرج
الفرد من مركزية أناه إلى المركزية الاجتماعية. وفي وفاق مع هذا
المفهوم، تتمثل إنسانية الفرد في اجتماعيَّته لتكون هذه الاجتماعية
تحقيقًا لأنسنته. أما الأنسنة المحققة على صعيد العالمية، فإنها تشير
إلى توسيع هذه الأنسنة إلى الاجتماعية الإنسانية الشاملة.
يجدر بنا أن نعلم أن اجتماعية الإنسان، التي تشير إلى تحقيق الأنسنة
على مستوى المجتمع ومستوى العالم، تختلف اختلافًا كبيرًا عن تجمُّعية
الحيوان. والحق أن الحيوان يعجز عن مدِّ تجمُّعه وتوسيعه إلى الأنواع
الحيوانية الأخرى. لذا، كانت اجتماعية الإنسان تحقيقًا لأنسنة تمتد
وتتسع إلى الإنسانية جمعاء. وإذ يحقق الإنسان أنسنته، يحقق أيضًا وجوده
في كلِّ إنسان آخر، أي وجوده الإنساني الاجتماعي الحقيقي في أبدية
الحياة.
في نهاية هذا البحث، يقضي الواجب أن أذكر بعض المبادئ التي تجعل من
الإنسان كائنًا اجتماعيًّا وعالميًّا وكونيًّا؛ وبالمثل، يقضي الواجب
أن أذكر بعض العوائق التي تحُول دون تحقيق الأنسنة الاجتماعية.
لمـَّا كانت غايتي في الوجود الأرضي تكمن في المعرفة، وكان وجودي
الاجتماعي تحقيقًا للغاية التي من أجلها وُجِدت، فإنني أضع موهبتي،
الماثلة في معرفتي أو في عملي، في خدمة الإنسان. وهكذا، أمتد إلى الآخر
وأتسع، وأحقق وجودي المؤنسَن، أي عالميَّتي وكونيَّتي الماثلة في
اجتماعية أنسنتي. فأنا قد وُجِدت لأحقق أنبل المبادئ الكونية الشاملة
في أدنى العوالم وأكثرها كثافة. وعندما أدرس الكون، في عمقه، بحكمة
ووعي، وأدرس عمق المعرفة، وأتوغل إلى عمق نفسي، أعلم أن واجبي يتركز في
حقيقة واحدة تشير إلى انسجامي مع الكون في غاياتي الكبرى والعظمى التي
تتحقق في اجتماعية الأنسنة، وفي عالمية الكينونة الإنسانية المحققة
بالتطبيق الواقعي لحقيقة وجودي.
تعني عالمية اجتماعيَّتي، أي أنسنتي، أن أجعل من نفسي كائنًا يحقق عمق
وجوده. وعالميَّتي هذه تشير إلى صلة كلِّ عمل أقوم به، وكلِّ موهبة
أتميز بها، وكلِّ تفكير أتمثَّله، وكلِّ مبدأ أعتنقه، بالعالم كلِّه.
فإن كنت أنسجم مع الأعداد الغفيرة من الأنواع البشرية تمامًا كما تنسجم
أعداد فيثاغورث وأنغامه في وحدة متماسكة، كنت عالميًّا في كياني.
يؤلمني هنا أن أقول إن العقائد العديدة التي طُرِحَت في حقل التطبيق
كانت تجمُّعية أو مجتمعية أو شعائرية، ولم تكن اجتماعية في أنسنتها،
الأمر الذي جعل منها تبلورًا أدَّى إلى تعدُّد أنواع النزاع والصراع.
أتمنى أن أجد أو أرى عالمية الأنسنة العالمية والشاملة كما أراها أو
أجدها في عالمية القانون العلمي. ففي جميع العلوم، تتآلف القوانين
والمبادئ العقلية ضمن نطاق حقيقة واحدة وتطبيق واحد. ويبرهن هذا التآلف
عن وحدة العقل البشري وعن وحدة الحقيقة العالمية والطبيعة الكونية.
لذا، لا تستقيم اجتماعية الإنسان وأنسنته ما لم ينسجم مع قانون وجوده،
ويطرح عنه ما يعيقه عن تحقيقه. لقد تعلَّمت من حكماء الأنسنة
الاجتماعية أن تحقيق الإنسانية يتألق في تحقيق سلوك إنساني وعقلي وروحي
أطبِّقه على نفسي وعلى الآخر ليكون قانونًا أو مبدأً واحدًا ندعوه لقاء
الإنسان مع أخيه الإنسان.
*** *** ***
من كتاب حديقة الحكمة