أحاديث في جامعة ستانفورد 4
جدّو كريشنامورتي
ترجمة: وفيق فائق كريشات
كريشنامورْتي:
هذا حديثنا الأخير. هل ما تزالون تحبون أن يكون موضوع التأمل هو مدار
الحديث، كما اقتُرح سابقًا؟
الجمهور:
نعم.
كريشنامورْتي:
قبل البحث فيه، أعتقد أنه ينبغي علينا النظر في مسألة الانفعال
والجمال. كلمة "انفعال" مشتقة من كلمة معناها "يعاني"، لكننا نستعمل
تلك الكلمة بمعنى مختلف عن أي من الحزن أو الشهوة. من غير الانفعال لا
يمكن للمرء أن يفعل الشيء الكثير، والانفعال ضروري للبحث في هذه
المسألة المعقدة جدًا، مسألة ما التأمل. بالمعنى الذي نقصدهُ - ولعلنا،
ربما، نعطيه مغزى مختلفًا - يأتي الانفعال عندما يكون ترك كلي للـ"أنا"
والـ"أنت"، الـ"نحن" والـ"هم"، وعندما يكون، مع ذلك الترك، حسٌّ عميق
من الزهد. لا نعني زهد الكاهن أو الراهب، فزهدهما قاسٍ، يوجهه ويديمه
الضبط والكبت. إننا نتحدث عن انفعال هو نتيجة لزهد ليس قاسيًا. العقل
الزاهد هو حقًا عقل جميل. الجمال، مرة أخرى، هو مسألة معقدة نسبيًا. في
حيواتنا النذر اليسير منه: نعيش هاهنا في بناء جميل تحيط به غابة جذابة
ذات أشجار قديمة رائعة، مع سماء زرقاء ومع غروب للشمس جذاب، لكن الجمال
ليس هو جوهر التجربة. ليس الجمال في الشيء الذي خلقه الإنسان وحده.
لإدراك ما هو جميل جمالاً عميقًا ليس الواجب فقط هو صمت العقل بل أيضًا
فسحة عظيمة في العقل. أملي هو ألا يكون لهذا كله وقعًا سخيفًا نسبيًا،
لكنني أعتقد أنه سوف يصبح قابلاً للفهم ونحن نمضي فيه.
عندنا في أنفسنا فسحة قليلة جدًا. عقولنا محدودة، ضيقة، ضحلة، معنية
بأنفسنا ومعتنقة لأشكال شتى من الفعاليات - الاجتماعية، الشخصية،
المثالية وهلمجرا. إن تكن فسحة معينة بين الملاحِظ والشيء الملاحَظ
وأيضًا حول سور المقاومة الذي يشكِّل الـ"أنا" وداخل السور، فإن هاهنا
فسحة أخرى ليست مقيدة بأي من مركز المقاومة أو سورها. وتلك الفسحة،
ومعها الجمال والانفعال، ضرورية لفهم ما هو التأمل. وإننا، إذا أردتم،
سوف نبحث في ذلك.
الآن، عند الغرب كلمة خاصة بهم، "التفكر"، لكنني لا أرى أن هذه الكلمة
هي مثل التأمل بحسب ما تُفهم في الشرق. دعونا، إذًا، ننبذ أولاً ما
يُفهم على وجه العموم من كلمة "تأمُّل"، أعني أنه بواسطة التأمل ينال
المرء نتيجة عظيمة، تجربة عظيمة. قد نفحص لاحقًا صدق هذه الفكرة من
بطلانها. معنى كلمة "التأمل" هو التدبُّر، إنعام النظر، الفحص بمعنى
أكثر عمقًا، تحسُّس المرء لطريقه داخل شيء غير مفهوم فهمًا تامًا،
تحسُّس المرء لطريقه داخل الغموض والأعماق السرية التي لعقل المرء غير
المستكشف وأعماق الشعور. للتأمل، إذًا، بالمعنى الحقيقي لتلك الكلمة،
جماله المميز الخاص، ونحن نتحدث أيضًا عنه بصفته أحد أكثر أمور الحياة
استثنائية - لو أن المرء يعلم كل ما يعنيه. إن تأملاً كهذا يسمو على كل
تجربة. إنه ليس شأنًا صوفيًا أو رومانسيًا أو وجدانيًا؛ بل إنه يحتاج
إلى أساس عظيم من الاستقامة، من الفضيلة والنظام. أيضًا، على المرء أن
يفهم مسألة التجربة بأكملها. وكذلك على المرء أن يبحث فيها ليس لفظيًا
فقط، بل أن يتحسس أيضًا طريقه داخل شيء لا يمكن التعبير عنه بمجرد
الكلمات. إنه ليس حالاً غامضة من أحوال الرؤيا المحدثة بالفكر، بل هو
شيء يَحدث حدوثًا طبيعيًا وسهلاً عند إرساء أساس السلوك القويم. من غير
ذلك الأساس يصبح التأمل مجرد هروب، خيال، شيء يستمتع به المرء بصفته
وسيلة لبعض التدابير والتجارب الخيالية.
سوف نبحث، إذًا، في مسألة التأمل هذه. وعلى المرء فِعل ذلك - لأنه
بأهمية الحب والموت والعيش - ولربما أهم منه - لأنه من ذلك العقل
المتأمل يأتي الفهم لما هي الحقيقة. ابتداءً، يجب علينا، كما أشعر، أن
نكون واضحين جدًا في أمر بطلان أو صدق ما هو مقبول عمومًا عن التأمل في
كل من الشرق و، مؤخرًا، هنا في هذه البلاد. في الشرق، إنه يُفهم عمومًا
بصفته ممارسة فيها سيطرة على الفكر، هذه السيطرة القائمة على منهاج أو
نسق خاصين. هاهنا عدد من هذه الأنساق في الهند وكذلك في العالم البوذي،
ومن ذلك زِن. تقدَّم الأنساق والمناهج في الممارسة التي توصل المرء إلى
تلك الحال من الصمت، الحال التي يماط فيها اللثام عن الواقع. ذلك،
عمومًا، هو ما يُفهم بشتى أشكال التأمل.
هل أنتم مهتمون بهذا كله؟ لا يمكنني أن أقدِّر لماذا أنا حقًا لست
مهتمًا به البتة (ضحك).
هاهنا أنساق اخترعها السواميون، اليوغيون، المهاريشيون، وكل بقيتهم؛
تأملات على سلسلة من الكلمات ومعانيها، أو على عبارة، صورة، هيئة أو
اقتباس ما يُفترض أن له معنى عظيمًا. وهاهنا أيضًا ما يدعى "مانترا
يوغا" التي أُدخلت إلى هذه البلاد وفيها تردد كلمات سنسكريتية معينة
يعطيها المرشد للتلميذ سرًا. تردد هذه الكلمات في كل يوم ثلاث مرات أو
أربع، أو مئة مرة أو ألف، أو غير ذلك، وبهذا تهدئ العقل وتمكنك من
السمو فوق هذا العالم إلى عالم مختلف. من الواضح أن ترديد سلسلة من
الكلمات - سواء أكانت سنسكريتية، لاتينية، إنكليزية، أو حتى، إذا
أردتم، يونانية أو صينية - أنه يُنتج هدوءًا معينًا في العقل، خاصية
معينة في الكلمة التي تميل إلى أن تجعل العقل البليد أصلاً أكثر بلادة
(ضحك). لا، يا سادة، لا تضحكوا رجاءً؛ إنه أمر جدي جدًا لأنه واحد من
الأشياء التي تمارس، ببعض التنوع، على نحو عظيم في الشرق، والفكرة فيها
هي أن العقل الذي يهيم بلا نهاية يُهدأ بالترديد. وعليه فإن الكلمة
تصبح مهمة جدًا، ولاسيما عندما تكون بالسنسكريتية، لأن تلك لغة عجيبة
ذات نغمية وخاصية خاصتين؛ ومن المأمول أنك تنال بذلك شيئًا ما. الآن،
يمكنك أن تردد كلمة من مثل "كوكا- كولا" أو "بيبسي - كولا" - أو ما تحب
- وسوف تحصل أيضًا على شعور استثنائي (ضحك). يمكنكم أن تروا، إذًا، أن
ترديدًا كهذا إذ يُفعل ليس فقط في الشرق، بل أيضًا في الكنائس والأديرة
الكاثوليكية، فإنه يجعل العقل ضحلاً وخاويًا وبليدًا. إنه لا يأخذ بيده
إلى الحساسية، وهي خاصية من خصائص الإدراك. أيضًا، الإنسان الذي يردد
يرى ما يريد رؤيته. يمكننا، إذًا، نَبْذ ذلك الشكل الخاص مما يدعى
بالتأمل - ننبذه اتّباعًا للعقل، ليس لأن أحدهم يقول كذلك، بل المرء
يمكنه أن يرى أن من الواضح أن العقل يصبح حتمًا، بالترديد، أكثر بلادة
وبعدًا عن الحساسية. اعلموا، رجاءً، أن مكلمكم لا يقنعكم بحال من
الأحوال بأي منهاج أو نسق خاصين - إنه لا يؤمن به؛ ما من منهاج للتأمل،
كما سترون حالاً.
مرة أخرى، إذًا، ترسي أنساق أخرى سلسلة بأكملها من الجلسات، تكون
نتيجتها، إن تجلس جلسة قويمة، متربعًا ومتنفسًا بعمق، فإنك سوف تُسكت
العقل. تروى حكاية عن أستاذ عظيم يتسكع في الحديقة بينما يقترب أحد
التلاميذ ويجلس، متخذًا الجلسة المرسومة، وينظر إلى المعلم طلبًا لمزيد
من الإرشاد. ويجلس المعلم بجانيه وبينما هو يجلس فإنه يراقب التلميذ
الذي كان قد أغمض عينيه وأخذ يتنفس بعمق. حينئذ يسأل الأستاذ: "ماذا
تفعل، يا صديقي؟" يجيب التلميذ: "أحاول الوصول إلى الشعور الأعلى".
حينئذ يلتقط الأستاذ حصاتين ويأخذ في فركهما واحدة بالأخرى. وبينما هو
يفرك يفتح التلميذ، وهو في أعلى مستوى للشعور، يفتح عينيه وعند ملاحظته
لما يفعل المعلم فإنه يسأل: "ماذا تفعل، يا معلم؟" يجيب المعلم: "إنني
أفرك الحصاتين إحداهما بالأخرى لأصنع من إحداهما مرآة". ويضحك التلميذ
ويقول: "يا معلم، لو فعلت هذا عشرة آلاف سنة أخرى فلن تصنع من الحجر
مرآة". عندها رد المعلم بحجة معاكسة: "لو جلست على تلك الهيئة عشرة
آلاف سنة أخرى فلن تنال ما تريد!".
هاهنا، إذًا، هذه الأنساق من التنفس والجلسة الصحيحة. من الواضح أنه في
الجلوس منتصب الظهر والاضطجاع على الظهر يجري الدم إلى الرأس على نحو
أسهل، أما الانحناء الشديد فيقيد الجريان - تلك هي فكرة الجلوس منتصب
الظهر. إن التنفس بانتظام يجعل في الدم المزيد من الأوكسجين وبالتالي
فهو يهدئ البدن، ويمكننا تقدير أهمية ذلك أو عدم أهميته. الفكرة هي إنك
متى تمارس المنهاج الذي وضعه المرشد تنل كل يوم درجة من الفهم أو من
الصمت أكبر من اليوم الذي قبله، فتقترب من السماء، أو من أعظم شيء على
الأرض أو خارج الأرض. من المفترض أن يكون المرشد متنوّرًا وأكثر من
التلميذ عِلْمًا. معنى لفظة "المرشد" بالسنسكريتية (guru)
هو: الذي يشير؛ إنه، مثل عمود الإشارة، يشير فقط. لا يخبرك بما عليك
فعله. حتى إنه لا يأخذ بيدك فيقودك: إنه يشير إلى الطريق فقط، تاركًا
إياك تفعل به ما تريد. لكن تلك الكلمة قد فسدت على يد الذين يستعملونها
بأنفسهم، لأن المرشدين الذين هم هكذا يقدِّمون مناهج.
الآن، ما المنهاج، النسق؟ رجاءً، تابعوا هذا عن كثب لأنه بنَبْذ ما هو
باطل - أعني بالنفي - يكتشف المرء ما هو حق. ذلك ما نحن فاعلوه. من غير
النفي الكلي لما هو باطل بطلاناً واضحًا لا يمكن للمرء الوصول إلى أي
شكل من الفهم. من كان منكم قد مارس أنساقًا معينة أو أشكالاً معينة من
التأمل أولئك يمكنهم الشك فيها بأنفسهم. متى تمارسوا شيئًا ما ممارسة
منتظمة يومًا بعد يوم، فتستيقظون في الثانية أو الثالثة صباحًا كما
يفعل الرهبان في العالم المسيحي، أو تجلسون بهدوء في أوقات معينة في
أثناء النهار، فتضبطون أنفسكم وتشكلون هيئة فكركم بحسب النسق أو
المنهاج، حينئذ يمكنكم أن تسألوا أنفسكم ماذا نلتم. إنكم، في الحقيقة،
تسعون وراء منهاج يَعِد بمكافأة. ومتى تمارسوا منهاجًا يومًا بعد يوم
فمن الواضح أن عقلكم يصبح ميكانيكيًا. ما من حرية فيه. ينطوي المنهاج
على أنه طريق وضع على يد أحد ما يُفترض فيه أنه يعلم ماذا يفعل. ولو
جاز لي أن أقول لقلت إنكم إن لم تكونوا أذكياء بما يكفي لتروا من خلال
ذلك، فإنكم سوف تعلقون في عملية ميكانيكية. أعني الممارسة اليومية،
التلميع اليومي، جعْل حياتكم روتينية بحيث أنكم تصبحون بالتدريج، في
آخر المطاف - قد يأخذ ذلك خمس سنوات، أو عشرًا أو أي عدد - تصبحون في
حال تمكنكم من فهم ما الحقيقة، ما التنوُّر والواقع وهلمجرا. من الواضح
جدًا أنه ما منهاج يمكنه فِعل ذلك لأن المنهاج ينطوي على ممارسة؛
والعقل الذي يمارس شيئًا ما يومًا بعد يوم يصبح ميكانيكيًا، يفقد ما له
من خاصية الحساسية ومن انتعاش. مرة أخرى، إذًا، يمكن للمرء رؤية بطلان
النسق المقدَّم. لكن هاهنا أنساق أخرى، منها زن وشتى الأنساق الممتنعة
على الفهم وفيها تُكشَف المناهج فقط لقلة من الناس. لقد التقى مكلمكم
ببعض أولئك لكنه نَبَذهم منذ أول وهلة معتبرًا إياهم بلا معنى.
إذًا، من خلال لصيق الفحص والفهم والذكاء يمكن للمرء نَبْذ مجرد
الترديد للكلمات ويمكن للمرء أن ينبذ كليًا المرشد - الذي يتصدى
للمرجعية، الذي يعرف بصفته مقابلاً لمن لا يعرف. المرشد أو
الإنسان الذي يقول إنه يعرف هو لا يعرف. ليس يمكنكم معرفة ما
الحقيقة البتة لأنها شيء حي، أما المنهاج، الصراط فيضع الخطوات التي
ينبغي أن تُسلك من أجل الوصول إلى الحقيقة - كما لو أن الحقيقة هي شيء
ثابت ودائم، مربوط انتظارًا لفرصتك المناسبة. إذًا، إن تنبذوا المرجعية
نبذًا تامًا – ليس جزئيًا بل تامًا، ومن ذلك مرجعية مكلمكم -
تنبذوا أيضًا، نَبْذًا طبيعيًا جدًا، كل الأنساق ومجرد ترديد الكلمات.
بعد نَبْذ ذلك كله، لربما يمكننا الآن المضي لاكتشاف ما هو العقل
المتأمل. كما قد أشرنا، يجب أن يكون أساسٌ للسلوك القويم، ليس بصفته
سعيًا وراء فكرة تُعدُّ قويمة، الذي ممارسته في الحياة اليومية تصبح
محترمية مجردة وبالتالي بعيدة جدًا عن أن تكون قويمة. المحترم، المقبول
من المجتمع بصفته أخلاقيًا، لا يكون أخلاقيًا: إنه غير قويم. هل تقبلون
هذا كله؟
هل تعرفون، يا سادة، ما معنى أن يكون المرء أخلاقيًا، أن يكون فاضلاً؟
قد لا تحبون تينك الكلمتين، لكن كون الأمر أخلاقيًا حقًا هو إنهاء كل
محترمية - المحترمية التي يعترف بها المجتمع بصفتها أخلاقية. قد تكونون
طموحين، جشعين، حسودين، غيورين، طافحين بالعنف، تنافسيين، مدمرين،
محرضين على القتل، وسيعدُّ المجتمع ذلك كله أخلاقيًا وبالتالي محترمًا
جدًا. لكننا نتحدث عن أخلاقية وفضيلة مختلفتين جدًا، عن شيء لا صلة له
بأخلاقية المجتمع. الفضيلة نظام، لكنه ليس نظامًا بحسب تصميمٍ أو مخططٍ
تصميمي، بحسب شيء موضوع من الكنيسة، من المجتمع أو من مبادئكم
الإيديولوجية. الفضيلة معناها النظام. النظام معناه فهْمُ ما الاضطراب
وتحرير العقل من ذلك الاضطراب - اضطراب المقاومة، اضطراب الجشع، الحسد،
الوحشية والخوف. ومن ذلك تأتي الفضيلة التي هي ليست شيئًا يُتعهَّد
بالفكر، لأن التواضع هو شيء لا يمكن أن يتعهد بالفكر. يمكن للعقل الذي
هو مزهو أن يحاول أن يتعهد التواضع، أملاً منه في أن يجعل ذلك قناعًا
لخيلائه، لكن عقلاً كهذا ليس فيه تواضع. على نحو مماثل، الفضيلة هي شيء
حي ليس هو نتيجة لممارسة، ليس تابعًا للنفوذ البيئي؛ إنها سلوك قويم،
صادق وأمين أمانة عميقة. إن أكثرنا ليس أمينًا. الذين لديهم مَثَل أعلى
ويسعون وراءها هم غير أمينين على نحو جوهري؛ لأنهم ليسوا كما يتظاهرون
به. على المرء، إذًا، أن يرسي هذا الأساس، وللطريقة التي يرسى بها
أهمية أعظم من أهمية فهم ما هو التأمل: والحق، إن طريقة الإرساء، نفس
هذه الطريقة هي التأمل. إن يكن في ذلك الإرساء أية مقاومة أو
كبت أو سيطرة فإنه يكفُّ عن كونه قويمًا لأن الجهد يدخل في ذلك كله؛
والجهد، كما قد قلنا بالأمس، يَحدث فقط متى يكن في نفس المرء تناقض.
هل من الممكن، إذًا، للعقل أن يُميِّز أن الأخلاقية التي تمارس في
العالم ليست أخلاقية على نحو حقيقي البتة؛ وأنه، بالفهم لذلك، برؤية
حسده وجشعه وحبه للاستحواذ، أنه يتحرر منه من غير جهد؟ هل أنا واضح في
ما أقصده؟ أعني أن برؤيته لكلية الحسد، ليس لصورة معينة منه فقط بل
لمعناه بأكمله، برؤيته ليس فقط بصفته فكرة بل بفعليته، حينئذ نفسُ فِعل
الرؤية يحرر العقل من الحسد. ولذلك، في تلك الحرية، لا يكون صراع. لا
يمكن للاستقامة، إذًا، أن تكون حصيلة للصراع وليس نتيجة لعقل متمرن. في
العقل الذي يفهم ما هو التَّعلم (وهو فهم "ما هو كائن")، نفس التعلم
يُحدث انضباطه؛ والانضباط الذي هكذا هو زهد على نحو استثنائي. هاكم
إذًا: إن تكونوا قد أرسيتم الأساس بتلك الطريقة، يمكننا المضي، أما إن
كنتم غير فاضلين بذلك المعنى العميق للكلمة، فإن التأمل يصبح هروبًا،
فعالية غير أمينة. حتى العقل الغبي، العقل البليد يمكنه أن يجعل نفسه
هادئًا بالعقاقير أو بترديد الكلمات، أما ليكون مستقيمًا فهو يحتاج إلى
حساسية عظيمة وبالتالي إلى زهد عظيم - ليس زهد الخرائب وتشكيلة المآزر
وهو مرة أخرى ادعاء وتظاهر خارجي - لكن ليكون زاهدًا داخليًا وبعمق.
لزهد كهذا جمال عظيم: إنه مثل الفولاذ الصافي.
من الواضح أنه في فهم أنفسنا تقوم بدايات التأمل. هذا الفهم لنفس المرء
هو شأن معقد جدًا. هاهنا العقل الشعوري والعقل المخبوء أو الذي يدعى
بالعميق - اللاشعوري. لا أدري لماذا نسبت إلى اللاشعوري كل هذه الأهمية
العظيمة. إنه كنز الماضي - إذا أمكن أن يدعى ذلك كنزًا. الإرث العرقي،
التراث، الذكريات، البواعث، المطالب المخفية، الإلحاحات، الرغبات،
المناشد، والإكراهات. من الواضح أن العقل الشعوري لا يمكنه أن يستعرض،
بالتحليل، كل اللاشعوري، تلك الطبقات العميقة، المخبوءة، السرية للعقل،
لأنه سوف يأخذ سنوات كثيرة. أضف إلى ذلك أن العقل الشعوري الذي يقوم
بفحص اللاشعوري يجب أن يكون هو بنفسه يقظًا وغير مشروط وحاد وذا إدراك
غير منحاز، أن يكون كذلك على نحو استثنائي. وعلى هذا النحو يصبح مشكلة
كبيرة. لقد قيل أن اللاشعوري يكشف نفسه بالأحلام والإيحاءات، وأنه يجب
أن تحلموا وإلا جننتم. هل يتساءل المرء ذات يوم لماذا ينبغي عليه أن
يحلم البتة؟ لقد قبلنا أنه يجب علينا أن نحلم. كما تعلمون، إننا أكثر
الناس تقييدًا بالتراث؛ مع أننا حديثون جدًا ومعقدون تعقيدًا عظيمًا
فإننا نقبل التراث ونحن من "أهل نَعَم". لا نقول "لا" البتة، لا نشك
البتة، لا نناقش البتة. يأتي مرجع أو مختص ويقول هذا أو ذاك فنوافق
فورًا قائلين: "صحيح، يا سيدي، أنت تعلم أحسن منا". لكننا سوف نضع قضية
اللاشعوري والشعوري والأحلام، سنضع هذه القضية بأكملها موضع النقاش.
لماذا ينبغي عليكم أن تحلموا البتة؟ من الواضح أن السبب هو أنه في
أثناء النهار يكون عقلكم الشعوري مشغولاً جدًا بالوظيفة، بالشجارات،
بالأسرة، شتى عناصر التسلية الممكنة. إنه يثرثر طوال الوقت بلا نهاية،
يتحدث إلى نفسه، يعدُّ - تعلمون كل ما يفعله. وعليه، في الليل، عندما
يكون العقل أكثر هدوءًا على نحو ما، ويكون الجسم بأكمله خلوًا من
الاضطراب، فإنه يقال إن الطبقات الأكثر عمقًا تشع محتوياتها إلى العقل،
فتعطيه تلميحات وإيحاءات مما يكون له أمل في أنكم ستفهمونه، وهلمجرا.
هل حاولتم ذات يوم، في أثناء النهار، أن تكونوا يقظين من غير تصويب،
واعين من غير اختيار، مراقبين لفكركم، لبواعثكم، لما تقولونه، كيف
تجلسون، طريقة استعمالكم للكلمات، إيماءاتكم - مراقبين؟ هل حاولتم ذات
يوم؟ لو أنكم، في أثناء النهار، راقبتم من غير محاولة التصويب، من غير
أن تقولوا لأنفسكم: "ما أفظع تلك الفكرة، لا يجوز أن تكون لي"، فقط لو
راقبتم، إذًا لرأيتم أنكم بكشف الغطاء، في أثناء النهار، عن بواعثكم،
مطالبكم وإلحاحاتكم، أنكم عندما تأتون لتناموا ليلاً، فإن عقلكم
ودماغكم يكونان أكثر هدوءًا. وستجدون أيضًا، وأنتم تغطون في نومكم
عميقًا جدًا، أنه لا أحلام ممكنة. نتيجة لذلك، عندما يستيقظ العقل فإنه
يجد نفسه نشيطًا وفعالاً ومنتعشًا وبريئًا على نحو استثنائي. إنني
لأعجب إن كنتم ستحاولون فعل هذه الأشياء كلها أم إن هذا كله هو مجرد
حشو كلام.
ثم إن هاهنا مشكلة أخرى. العقل، على نحو ما هو عندنا، هو دائمًا في
حسابٍ، مقارنةٍ، سعيٍ، مقادٌ، مثرثرٌ إلى نفسه بلا نهاية وينهمك في
القيل والقال عن أحد ما - إنكم تعلمون ماذا يفعل كل يوم وطول اليوم. إن
عقلاً كهذا ربما لا يمكن أنه يرى ما هو حق أو أن يدرك ما هو باطل. إن
إدراكًا كهذا ممكن فقط عندما يكون العقل هادئًا. عندما تريدون أن
تستمعوا إلى ما يقوله مكلمكم - إذا كان ذلك يهمكم - فإن عقلكم يكون
هادئًا هدوءًا طبيعيًا: إنه يكف عن الثرثرة أو التفكير في شيء آخر. إن
تكونوا تريدون رؤية شيء ما بوضوح شديد - إن تكونوا تريدون أن يفهم
الرجل زوجته أو الزوجة زوجها، أو أن تروا السحابة بكل بهائها وجمالها -
فانظروا، ومن الواجب أن يكون النظر عن صمت، وإلا فلن يمكنكم أن تروا.
إذًا، هل يمكن للعقل، الذي يتحدث، يتحرك، يثرثر، يسعى، يلاحق، الذي هو
مذعور جدًا، الذي هو هكذا بلا نهاية هل يمكنه أن يهدأ البتة؟ ليس
بالتمرين أو الكبت أو السيطرة، بل أن يكون هادئًا فقط؟
ينصحنا الوسطاء المحترفون بالسيطرة. الآن، إن السيطرة لا تنطوي فقط على
الذي يسيطر بل أيضًا الشيء المسيطر عليه. عندما تراقبون عقلكم، يَهيم
فكركم بعيدًا فتجذبونه؛ ثم إنه يهيم مرة أولى ومرة أخرى تجذبونه.
وتستمر هذه اللعبة بلا نهاية. وإذا أمكنتكم السيطرة على نحو تام، في
آخر نهاية سنوات عشر أو غير ذلك، بحيث أن عقلكم لا يهيم أبدًا ولا تكون
له أفكار كائنة ما تكون، فإنكم، كما يقال، تكونون قد حصلتم على أعلى
الأحوال الاستثنائية. لكن فعليًا، وبالعكس، سوف لن تكونوا قد حصلتم على
شيء البتة. إن السيطرة تنطوي على المقاومة. رجاءً، تابعوا هذا قليلاً.
التركيز هو صورة من صور المقاومة، تضييق مجال الفكر على مقدار أمر
معين. ومتى يدرب العقل على التركيز على شيء واحد تركيزًا تامًا، فإنه
يفقد مرونته، حساسيته، ويصبح غير قادر على تناول ميدان الحياة كله.
الآن، هل من الممكن للعقل أن يكون له حس التركيز هذا من غير استثناء،
ومع ذلك من غير اللجوء إلى الاستعباد أو الامتثال أو الكبت من أجل
أغراض السيطرة؟ من السهل جدًا التركيز؛ كل تلميذ مدرسة يتعلمه - وإن
كان يكره فِعْله، إنه يُجبَر على محاولة التركيز. وعندما تركزون فمن
المؤكد أنكم تكونون في مقاومة؛ يكون عقلكم بأكمله مسلطًا على شيء ما
وإذا دربتموه يومًا بعد يوم على التركيز على شيء واحد فمن الطبيعي أنه
يفقد حدته، اتساعه، عمقه، ولا تكون فيه فسحة. المشكلة، إذًا، هي: هل
يمكن للعقل أن يمتلك خاصية التركيز هذه - علمًا بأن هذه ليس هي الكلمة
المناسبة - هذه الخاصية من الانتباه لشيء واحد من غير فقد الانتباه
الكلي؟ الذي نعنيه بقولنا "الانتباه الكلي" هو أن الانتباه المعطى
بعقلكم بأكمله، والذي ليس فيه خوف، ولا ألم، ولا باعث من المنفعة، ولا
لذة - لأنكم تكونون قد فهمتم للتو ما هي مضامين اللذة. إذًا، متى يعطِ
العقل الانتباه على هذا النحو التام - أعني بكل قلبكم، أعصابكم،
عيونكم، بوجودكم كله - فإن الانتباه الذي هو هكذا يمكنه أيضًا أن يشتمل
على الانتباه المعطى لعنصر واحد صغير. عندما تغسلون الصحون يمكنكم أن
تعطوا تام الانتباه له من غير مقاومة، هذا التضييق للمجال المصاحب
للتركيز العادي.
وعليه، بعد أن رأينا ضرورةَ إرساء الأساس على نحو طبيعي، من غير أي
تشويه، من غير أي جهد وضرورةَ نَبْذ كل مرجعية، يمكننا الآن النظر في
البحث بالعقل طلبًا للتجربة. يحيا أكثرنا هذه الحياة الرتيبة،
الروتينية التي هي ذات معنى ضئيل بشكل واضح، بحيث أننا، بواسطة شتى
أشكال المثيرات ومنها العقاقير، أننا نسعى بدأب إلى تجارب أوسع نطاقًا
وأكثر عمقًا. الآن، عندما يكون للمرء تجربة، فإن تمييزكم لها بصفتها
تجربة يُبين أنكم قد مررتم بها حتمًا، وإلا ما كنتم لتميزوها. وعليه،
فإن المسيحي، المشروط على نحو ما هو ليعبد مخلِّصًا معلومًا، فإنه
عندما يتناول عقاقير أو يسعى إلى تجربة عظيمة ما بواسطة طرق مختلفة،
فإنه من الواضح أنه سوف يرى شيئًا ملونًا بحال مشروطيته الخاصة،
وبالتالي فإن ما يراه سوف يكون هو إسقاطه الخاص. ومع أن ذلك سوف يكون
على نحو أشد استثنائية، مع جلاء وعمق وجمال عظيم، فإنه سيظل هو خلفيته
الخاصة وقد أُسقطت. لذلك فإن العقل الذي يسعى إلى التجربة كوسيلة
لإسباغ الأهمية والمعنى على الحياة، هو، في الواقع، يُسقط خلفيته
الخاصة، أما العقل الذي لا يسعى لأنه حر فإنه يكون ذا خاصية مختلفة
جدًا.
الآن، كل ما لوحظ، من بداية هذا الحديث إلى الآن، هو جزء من التأمل؛
لرؤية الحقيقة ونحن نمضي قدمًا؛ لرؤية بطلان المرشد، المرجعية، النسق؛
لإرساء الأساس لسلوك ليس هو مجرد حصيلة للبيئة ولا يكون فيه جهد البتة.
ذلك كله ينطوي على خاصية التأمل. متى يكن المرء في تلك النقطة، وقد فهم
كامل أمر العيش الذي ليس فيه صراع البتة، فإنه يمكنه المضي في
الاستعلام ما هو الصمت. إن تستعلموا من غير فعل كل الأشياء السابقة،
يكن صمتكم بلا معنى كائنًا ما يكون، لأنه من غير صحيح الفهم للجمال،
للحب، للموت، للفضيلة، فمن المحتوم العقل أن يبقى ضحلاً، وأي صمت ينتجه
سوف يكون صمت الموت. لكن لو قمتم بالرحلة مع مكلمكم هذا المساء، على ما
هو أملي فيكم، لأمكننا المضي والتساؤل: "ما الصمت، ما خاصية الصمت؟"
تذكَّروا أنه إذا أراد المرء أن يرى أي شيء بوضوح شديد، من غير أي جهد
ومن غير تشويه، فمن الواجب أن يكون العقل هادئًا. إذا أردتُ أن أرى
وجهك، إذا أردت أن أستمع إلى جمال صوتك، إذا أردت أن أرى ما أنت من
أصناف الأشخاص، فمن الواجب أن يكون عقلي هادئًا وألا يثرثر. إن يكن
مثرثرًا وهائمًا في كل أنحاء المكان أكن عاجزًا عن رؤية جمالك أو قبحك.
الصمت، إذًا، ضروري لرؤية كهذه، مثل ضرورة الليل للنهار؛ كذلك ليس ذلك
الصمت نتاجًا للضجة ولا لانقطاع الضجة. إن ذلك الصمت يأتي طبيعيًا
عندما تَحدُث كل الخاصيات الأخرى.
تعلمون، يا سادة، أنه في ذلك الصمت مسافة، لكنها ليست المسافة القائمة
بين الملاحِظ والشيء الملاحَظ - مثال ذلك المسافة التي بيني وبين هذا
الميكروفون (التي لولاها لم تمكنني رؤيته). للعقل الصامت فسحة عظيمة لم
تُخلق بأي من الموضوع أو الملاحِظ. لا أدري هل راقبتم ذات يوم ما هي
الفسحة: هاهنا الفسحة قد أزاحها الميكروفون والتي هي حوله؟ هاهنا فسحة
حول الـ"أنا" وحول الـ"أنت". كلما قلنا "نحن" و"هم" كانت هذه الفسحة
التي خلقناها حول أنفسنا. متى تقل أنت مسيحي، أو كاثوليكي، أو
بروتستانتي أو شيوعي، تكن فسحة بحسب الحد الذي تجعله لنفسك، وتلك
الفسحة تولد حتمًا الصراع لأنها محدودة ولأنها تفرِّق. لكن متى يكن صمت
فإنه لا تكون فسحة التفرقة تلك، بل خاصية من الفسحة مختلفة جدًا. ووجود
فسحة كهذه أمر واجب لأنه فقط حينئذ يمكن أن يأتي ما هو غير قابل للقياس
بالفكر - ذلك الشيء الضخم، ذلك الذي هو الأعلى ولا تمكن دعوته. العقل
صغير، بممارسته من غير حد يقف عنده، يبقى صغيرًا. إن أكثر الناس
الساعين وراء الحقيقة هم فعليًا يدْعون الحقيقة، لكن الحقيقة لا تُدعى.
لا تكون للعقل فسحة كافية ولا يكون هادئًا بما يكفي. هو التأمل، إذًا،
من البداية إلى النهاية، وفي التأمل تقوم المهارة في الفِعل.
هذا كله، إذًا، تأمل. إن يمكنكم فِعل هذا يُفتح الباب، والأمر لكم كي
تأتوا إليه. ما وراءه ليس شيئًا رومانسيًا أو عاطفيًا، شيئًا تتمنونه،
شيئًا يمكنكم الهرب إليه. لكنكم تأتون إليه بعقل تام، ذكي وحساس ومن
غير أي تشويه. تأتون إليه بحب عظيم، وإلا فلن يكون للتأمل معنى.
سائل: ذكرت في وسط حديثك أنه مع أن التأمل ليس هو ما كنت تريد التحدث
فيه، فإنه كان من الضروري التحدث فيه. هل كان عندك موضوع آخر ما؟
كريشنامورْتي:
سيدي، ما لم يثر اهتمامي كان هو شرح الواضح، حيث الواضح هو المناهج،
الأنساق، ترديد الكلمات، المرشدون - كله واضح جدًا. ما هو مهم
ليس هو اتِّباع أي أحد بل فَهْم نفس المرء. لو بحثت في نفسك من غير
جهد، خوف، من غير أي حس للكظم، وغُصت عميقًا غوصًا حقيقيًا، لوجدت
أشياء استثنائية؛ ولم تكن محتاجًا لأن تقرأ كتابًا واحدًا. إن مكلمكم
لم يقرأ كتابًا واحدًا عن أي من هذه الأشياء: الفلسفة، علم النفس،
الكتب المقدسة. في نفس المرء يقوم العالم بأكمله، وإن تعرف كيف تنظر
وتتعلم فالباب هناك والمفتاح بيدك. ليس على الأرض أحد يمكنه أن يعطيك
ذلك المفتاح ولا الباب لتفتحه، ليس لك غير نفسك.
سائل: هل من سبب للوجود؟
كريشنامورْتي:
لماذا تريد سببًا للوجود؟ (ضحك) أنت موجود هنا. ولأنك موجود هنا ولا
تفهم نفسك فإنك تريد أن تخترع سببًا. تعلم، يا سيدي، عندما تنظر إلى
شجرة أو السُحب، الضوء على الماء، عندما تعرف ماذا يعني الحب، فإنك لن
تحتاج إلى سبب للوجود: أنت موجود، فلان موجود. حينئذ ستكون لكل المتاحف
في العالم ولكل الحفلات الموسيقية ستكون لها أهمية ثانوية فقط. الجمال
موجود هناك لتراه، إن يكن لك العقل والقلب حتى تنظر - ليس هناك خارجًا
في السحابة، في الشجرة، في الماء، في الشيء، بل في نفسك.
*** *** ***