احتكار الحكاية: حول المقاربات العقلانية لمسألة الموت في الفكر الديني

 

عبد الله الحميدي

 

فأفزعني الموت حتى همت على وجهي في البراري.
فيا صاحبة الحانة، أيكون في وسعي أن لا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟.
ملحمة جلجامش[1]

ربما كان سهلاً إلى حد ما أن يتفرد الإنسان وأن يكون وحيدًا في رأي يتبناه على الضد من الرأي السائد، متخذًا منه موقفًا نقديًا، لكن حالما يرتبط هذا الرأي بقضايا وجودية وعميقة، تبدو حينها المسألة في غاية الصعوبة. فكرة الموت هي أحد هذه الأمثلة التي تبرز على ضوؤها تضاؤل الحاسة النقدية للإنسان، فيبدو التوحد في الرأي حينها شاقًا، حيث يجد هذا الشخص نفسه في وحدة مضاعفة حينما يذهب عكس الرأي السائد.

فمهما كان حظ هذا الرأي قليلاً من الناحية الاقناعية، ومهما بدت تناقضاته، فالنأي عن اتخاذ موقف متفرد عن الرأي السائد في مثل هذه الحالات يفسره ذاك الإحساس بالأمان الذي تمنحه المشاركة في اعتقاد ما، إذ ثمة عزاء لا محدود يمنحه الوجود ضمن جماعة ثقافية أو دينية أو سياسية، بيد أن الأمن الذي توفره الجماعة ليس متوقفًا على وجودها الفيزيقي فحسب، بل يمتد ليأخذ أبعادًا ميتافيزيقية أخرى، وذلك من خلال القيمة التي تضفيها على المتعاطين مع هذا المعتقد سلبًا أو إيجابًا، فإما أن يكونوا خيرين أو أبطالاً إن كانوا ينتمون إلى ذات المعتقد المشترك، وإما على النقيض من ذلك إن كانوا خارج دائرة هذا المعتقد المشترك، فيتم التعاطي معهم بوصفهم أشرارًا أو مجرمين. غير أن ما يميز المقاربة الميتافيزيقية للدين عن ميتافيزيقا الأيديولوجيا العلمانية، إنما يكمن في غياب الأبعاد الميتافيزيقية الأخروية في هذه الأخيرة وحضورها في الدين، من حيث كونها تمثل بحسب المنظور الديني محطة أخيره في صيرورة الوجود الإنساني. ومن ثم تضاف إلى ثنائية الخيِّر والشرير ثنائية من نوع آخر وهي ثنائية أولئك الذين ينالهم الخلاص الأخروي وأولئك المحرومين منه.

فيما يلي، سأحاول تسليط الضوء على تجليات الأبعاد الميتافيزيقية للخطاب الديني، واستثمارها في عمليات ضبط وتحجيم محاولات إعادة قراءة أو ربما محاولة الخروج من البنى الفكرية والعقدية السائدة والتي تؤسس لهذا الخطاب. وسأتناول فكرة الموت أو المصير الأخروي كنموذج لهذا التوظيف في عمليات ضبط وإرساء المعتقد. وذلك من منطلق كون هذه الفكرة – فكرة الموت أو الخلاص – تشكل جزءًا جوهريًا وأساسيًا من (حكايةٍ) يتميز فيها النسق الديني عن بقية الأنساق المعرفية الأخرى، بتقديم سرديةٍ شاملة لها وبوثوقيه تامة، تتعثر في توفيرها بقية الأنساق المعرفية والفلسفية الأخرى. مبينًا في الوقت ذاته كيف وأن استثمار هذه المسألة من قبل الخطاب الديني يعبر فيما أرى عن نوعٍ من الانتهازية، من خلال استثمار القلق الوجودي للإنسان إزاء ظاهرة الموت ليعمد من خلال ذلك إلى تمرير مقولاته، بالإضافة إلى الدور الذي تلعبه هذه "الحكاية" في تحجيم العقلانية النقدية للإنسان ازاء ذات الخطاب. كما سأحاول تسليط الضوء على المحاولات التي سعت إلى عقلنة هذه الحكاية في الفكر العربي.

*

في ظهيرة يوم السابع من يوليو 1776. كان المحامي والكاتب الأسكتلندي جيمس بوزويل James Boswell في طريقة لزيارة الفيلسوف ديفيد هيوم والذي كان يحتضر وقتها في منزله. لم تكن زيارة بوزويل هذه زيارة عادية لمواساة هذا الفيلسوف أو التخفيف عنه في لحظاته الأخيرة، بل كانت مشبعة بفضول حول معرفة ما إذا كان هذا الفيلسوف ذي النزعة الشكية العميقة، سيغير من قناعته في تلك اللحظات التي "يصدق فيها الكاذبون". بيد أن هدوء هيوم ومزاجه المرح في تلك اللحظة وإصراره على مواقفه بعامة، واستقباله الموت بكل أريحيه، كان صادمًا لبوزويل[2]، الذي اعتقد أن أمام مشهد الموت، لن يستطيع أحدٌ الإصرار على نزعاته المعادية للدين، حتى هيوم نفسه. فالإله كما يقال ينتظر دائمًا على حافة فراش الموت. حيث يتضاءل كل موقف نقدي في تلك اللحظة. بحيث تصبح حينها الكثير من المعتقدات مقبولة. بيد أن ذلك لا يعني صحتها بالضرورة.

على الرغم من أن هذه الزيارة قد خيبت ظن بوزويل، إلا أنه فكرته تظل صحيحه إلى حد كبير. كل ما هنالك أن موقف هيوم، كان في تلك اللحظات موقفًا استثنائيًا وحسب[3].

احتكار الحكاية

كان الفلاسفة، الأبيقوريين[4] والرواقيين منهم على وجه الخصوص قد أدركوا مبكرًا الطاقة النفسية الهائلة لفكرة الموت وعلاقتها بالدين، ففي خضم محاربتهم للدين الشعبي آنذاك، كانوا قد تناولوا هذه المسألة في إطار ما يمكن تسميته بـ (علمنة الموت) ونزع السحر عنه، مدركين تمامًا أنهم من خلال هذا التفسير الطبيعي للموت واعتباره مجرد ظاهرة طبيعية كأي ظاهرة أخرى في الطبيعة فإنهم يصيبون كعب أخيل الدين الشعبي حينذاك[5]، في ذات السياق يمكن أن نلاحظ أن الحضور اللافت لذات الممارسة العقلية والمتمثلة في الإخضاع العقلي لموضوع الغيبيات بشكل عام والخلاص الأخروي أو لفكرة الموت والمعاد بشكل خاص في الفلسفة الإسلامية كما سنرى لاحقًا[6].

ربما بدت بائسة وضعية الإنسان تلك، إذ يتم استغلال قلقه ومخاوفه من المجهول لفرض معتقدات معينه عليه، يبدو الإقرار بها حينها أشبه بالاعتراف القسري، فــي إطـــار ذلك، يكتب الفيلســوف الرواقـي سينيكا SENECA في عزائه لمارسيا مهونًا عليها فقد ابنها وجزعها عليه:

اعلمي جيدًا أن الأموات لا يشعرون بأي ألم، كل تلك القصص التي تبعث في نفوسنا الرعب حول ذلك العالم الآخر ليست سوى خرافات. ليس على الأموات أن يخشوا من الظلمات، ولا من السجون، ولا من أنهار اللهب ولا من نهر النسيان، ليس ثمة محاكم هناك. ليس الموت سوى حرية مطلقة لا نخشى معها وجود طغاة مستبدين. كل ذلك مجرد خيالات شعراء يبثون فينا الرعب دونما سبب. الموت ليس سوى التحرر من جميع الآلام، وليس بعده أي معاناة[7].

لا تعنينا مناقشة آراء سينيكا هنا، لكن يبدو أن هذه المقاربة كانت واعية جدًا لجوهرية فكرة الخوف من الموت بالنسبة للدين، وهي الفكرة التي ربما مثلت أساسًا إيبستيمولوجيًا للدين لا يمكن تصوره من دونه، وهذا في الحقيقة أحد أهم ما يعطي للدين، أي دين، كنسق معرفي ميزة على بقية الأنساق المعرفية والفلسفية الأخرى التي لا تنتمي إليه، فادعاء الدين امتلاكه لبقية (الحكاية) وقدرته على حل شفرتها، مقررًا بذلك شروطها وقواعدها، في الوقت الذي تقف فيه بقية الأنساق المعرفية الأخرى عند ما هو واقعي دون أن تتجاوزه، هو ما يجعل من هذه (الحكاية) أمرًا ذا أهمية كبرى في النسق الديني، الأمر الذي يجعلها عصية على العقلنة سواء من داخل النسق الديني أو من خارجه من باب أولى، وسنرى كيف أن محاولة عقلنة هذه (الحكاية) من داخل التفكير الديني عمومًا والاعتزالي منه بوجه خاص، قد بدا للبعض بمثابة تعدي على المطلقية الإلهية.

كل ذلك من الشعور بالوحدة، والقلق الذي ينتاب الإنسان من المضي في حياة منقوصة التكملة، إضافة إلى افتقار الأنساق المعرفية الأخرى على القدرة على تكملة بقية الحكاية – تلك الحكاية التي يحتكر الدين الكلام عنها-، يجعل من اشتغال الحاسة النقدية للإنسان في حدودها الدنيا، إذ يجد العقل – في هذا النسق – نفسه مجبرًا على قبول أفكار ربما بدت له لاعقلانية وموغلة في الخرافة في النسق المعرفي العادي، غير أنه يجد نفسه منساقًا إلى قبولها تحت ضغط الحاجة إلى معرفة تكملة (حكاية) تنأى وتمتنع عن تكملتها بقية الأنساق الفلسفية الأخرى، كما أن كون البعد "اللاتسامحي" للنسق الديني على المستوى الأخروي على الأقل، كالتهديد والوعيد الذي يطال الآخر المختلف، من شأنه جعل أي خيار آخر خيارًا باهظ الثمن.

ثمة نقطة أخرى تتعلق بعجز النسق المعرفي والفلسفي عن أن يكون مؤهلاً للخوض في هذه المسألة، وهي أن (الحكاية) التي ربما يتناولها النسق الفلسفي والمعرفي تظل (حكاية) ينقصها الوثوقية دائمًا، إلا أن هذا النقص ليس خللاً يتوجب اصلاحه في الخطاب الفلسفي، بل هو نقص مقصود بل وكامن في صلب هذا الخطاب، من حيث كونه خطابًا مفتوحًا "بالقوة" للأسئلة التي من شأنها تقويض أي دعاوى موثوقية يحاول أن يتبناها، إذ يمكن للشخص مثلاً أن يقرأ عن مصير النفس وخلودها في فيدون افلاطون[8] أو عند الفارابي مثلاً[9]. فمهما كانت النتيجة التي سيخرج منها، إلا أنه لن يشعر بضغط نفسي يمارس عليه للاقتناع بذلك الرأي، بل ربما اتخذ موقفًا مضادًا لذلك دونما شعورٍ بالخوف، إذ يظل الخطاب مفتوحًا للنقد في أي لحظة، ومهما بدا ادعاء الوثوقية فيه إلا أنه يظل ادعاء عرضيًا. فالخطاب الفلسفي قابل على الدوام لإعادة تأسيس جذري، بيد أن هذا (النقص) لا يعني بالضرورة صحة الموقف المقابل المتشبث بالوثوقية، بل ربما كان الخطاب الوثوقي أدعى إلى الارتياب وأجدر بمساءلته ووضعه تحت محك النقد، كما أن استثمار الخوف الفطري من هكذا ظاهرة، للترويج لرأي ما، يمكن أن يحسب أمارةً على ضعف الأدلة الإقناعية في هذه المسألة، فضلاً عن افتقاده لأدنى شروط الأخلاقية في الخطاب، فالمخاطب هنا موضوع على الدوام تحت سلطة التخويف من عواقب المخالفة، ومن هنا كان الخلاف في النسق الديني ذو عواقب وخيمة إن لم تكن على المستوى الدنيوي فعلى المستوى الأخروي، فعلى الرغم من أن خطاب التسامح كان قد شهد انفراجات فيما يتعلق بالمستوى الدنيوي – وهي في الواقع كانت استجابة لعوامل سياسية واجتماعية أكثر من كونها حصيلة نظر نقدي محض – فإنه ظل في مستواه الأخروي دونما تغير يذكر.

عقلنة الحكاية

مبكرًا وفي حدود القرن الثاني وتحت ضغط (تبرير ذاته) للآخر، وجد الخطاب الديني نفسه مضطرًا إلى نوع من إعادة التأسيس إن جاز القول، بحيث اقتضى ذلك وضعَ معايير عامة، تصبح بموجبها مقولات هذا الخطاب معقولة ويمكن الاتفاق عليها بمعزل عن اعتبار كونها ذات أصل إلهي أم لا، ما يعني أن الأصل الإلهي للخطاب كان – تحت ضغط التبرير العقلاني – بحاجه إلى إيجاد أصل بشري له، والتأكيد على أن هذا الأصل البشري أو العقلاني يوافق النص ولا يعارضه. بمعنى أن حاجة التبرير للخطاب الديني كانت بمثابة محاولة إيجاد امتدادات عقليه له، لم تكن حاضرة بما فيه الكافية قبل ذلك، حيث أن الوضوح الذي كان يميز المعطى العقدي الديني "الماقبل كلامي"، قد بدا يكشف عن محدوديته واقتصاره على نوع محدد من المضامين الثقافية والتاريخية منذ النصف الأول من القرن الهجري على الأغلب.

وعلى الرغم من أن مسار العقلنة هذا لم يخلُ من صعوبات تمثلت في الاصطدام بما يمكن تسميته بالبديهية الدينية أو المعطى المباشر للمدونة العقدية، غير أن ذلك كان بمثابة ثمن البحث عن جذور الخطاب الديني في العقل البشري. على أساس أن إشكالية العقلانية كانت في الأساس إشكالية تتعلق بجعل نص الخطاب نصًا مشتركًا بين جميع البشر. بيد أن الإشكالية الحقيقية تمثلت في إيجاد ضمانات كافية تجعل من النظر العقلي يعطي على الدوام ذات النتيجة المعطاة مسبقًا في النص الديني، وهو ما اقتضى (تعقيلاً) للنص الديني لضمان عدم تعارضه مع العقل، وجعله نصًا كونيًا قائمًا على أسس أكثر شمولية واشتراكًا بين البشر، وذلك من خلال توظيف آليات كالتأويل والمجاز في محاولة للتقليل من البعد الحرفي للنص، من جهة، ومن جهة أخرى تم تقنين وتحديد لمساحات عمل العقل داخل النص الديني.

تلك كانت أحد أهم عوامل ظهور الإشكالية الأهم والتي حكمت مسار الفكر الديني عمومًا وهي إشكالية التوفيق بين العقل والنص. ومهما يكن من تقييمنا لمنتجات هذه الإشكالية فلا بد من الاعتراف بأنها أسهمت في عقلنة مساحات واسعة من الفكر الديني. في حين ظلت مساحات أخرى عصية على العقلنة أو إن شئنا الدقة بدت عقلنتها صعبة للغاية. كانت فكرة احتكارية الدين للخلاص الأخروي فيها أحد أهم المسائل التي ظلت عصية على العقلنة، إذ بدا أن التفكير العقلي فيها كان حدوده الدينا. بسبب ما بدا حينها ولا يزال أن ذلك يفضي إلى علمنة العقيدة أو اللاهوت، أو أنسنتها إن صح القول.

سأحاول هنا وبإيجاز أن أتناول مسار العقلنة هذا فيما يتعلق بفكرة الموت الخلاص الأخروي بشكل عام، عند كل من المعتزلة والفلاسفة. إذ شكلت هذه المحاولات أهم ما وصل له التفكير الديني في محاولة كسر احتكار تلك الحكاية، وذلك من خلال إتاحة المجال للتفكير العقلي فيها. كما سأحاول أيضًا أن أبين بعضًا من تلك المحاولات وذلك من خلال عرض بعض النماذج في الفكــر العربي والتي تناولت هذه المسألة بالتفكير العقلاني من زاويتها الخاصة، وذلك عند كل من المعتزلة من ناحية والفلاسفـة: الفارابي وابن سينا ومسكويه من ناحية أخرى، والتي مثلت فيما يبدو للحكاية تمثل أقصى ما وصلت له العقلانية الإسلامية.

1-2 في الفكر الاعتزالي

يجمع كثير من الباحثين على اعتبار اللحظة الاعتزالية أحد لحظتين بدت فيها العقلانية الإسلامية في أوجها. أما اللحظة الأخرى فهي اللحظة الفلسفية والتي سنتناولها لاحقًا. غير أن ما يميز هذا العقلانية "الاعتزالية" عن العقلانية الفلسفية هو كونها أكثر التصاقًا بالإشكاليات والقضايا التي يثيرها النص الديني. ومن ثم تمثلت ممارسة العقلانية الاعتزلية في محاولة عقلنة وتبرير النص من الداخل. وإن بأدوات ومعايير ليست نصية على الدوام.

تكاد "نظرية التكليف" أن تشكل الأساس الذي تدور عليه مجمل موضوعات الفكر الإسلامي عمومًا والاعتزالي منه بوجهة خاص، باعتبار كون جل العلوم الإسلامية من فقه وكلام ولغة، إنما تتمحور حول فكرة التكليف ذاته. ومن حيث كونه معنيًا في الأساس بتحديد العلاقة ما بين المكلِّف والمكَلَّف، من هنا كانت عقلنة هذه الفكرة بمثابة مدخل لعقلنة مجمل الخطاب الديني بما فيه ما أطلقنا عليه "الحكاية" – أو مسألة الموت والمصير النهائي – وجعلها أكثر عدالة وأقل تعسفية، بيد أن مسألة التكليف بحسبهم، لا يمكن أن تكون مبررة دون وجود معايير تضبط هذه العلاقة ما بين المكلف والمكلف، وما يكتنفها من مسائل أهمها وجود ثواب وعقاب، حيث لا يمكن اتخاذ موقف عقلاني منها دون افتراض وجود معايير عدالة عامة تستند عليها العدالة الإلهية ذاتها، والتي تعد من وجهة نظرهم – المعتزلة – من جملة قضايا يستدل عليها بالعقل – في الأساس – لا بالسمع، ما يعني أن صحة هذا الأخير إنما يتوقف عليها من حيث الجملة وعليه فـ "سائر ما ورد به القرآن في التوحيد والعدل، ورد مؤكدًا لما في العقول، فأمَّا أن يكون دليلاً بنفسه يمكن الاستدلال به ابتداء فمحال"[10].

وإذا كانت المعايير الأخلاقية العامة قد شكلت الأساس لفكرة العدل من ناحية، وإذا كان تصور الله مستحيلاً من غير هذه الفكرة من ناحية أخرى، بدا ضروريًا أن تشكل هذه المعايير جزءًا بنيويًا في المقاربة العقلانية لفكرة الألوهية عندهم. وهو ما يعني رفع المعيار الأخلاقي إلى مقولة قبلية لأي تصور لاهوتي. فلم تكن المسألة الإلهية عند المعتزلة مسألة طبيعية كما هي الحال عند الفلاسفة عمومًا، ولا هي مدفوعة بمقاربة للألوهية من منطلق إطلاقي متعال كما هي الحال عند الأشاعرة، بل بدت عند المعتزلة مزيجًا من المقاربة الطبيعة والمعيارية. بمعنى أن ضرورة وجود الله ليست نابعة من اعتبارات سببية أو طبيعية وأنه هو العلة الأولى والخالقة للطبيعة فحسب، بل ومن اعتبارات أخلاقية ومعيارية، بمعنى أنه موجود لا باعتبار كونه خالقًا للعالم أو علة أولى له فحسب، بل لأنه عادل وغير ظالم.

بناء على ذلك يمكن ملاحظة انعكاسات هذه المقاربة العقلانية على التصور اللاهوتي عندهم من خلال أفكار معينه، كفكرة الصلاح والأصلح على سبيل المثال. يذكر الشهرستاني مثلاً اتفاقهم – أي المعتزلة – من "أن الله تعالى لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب – عليه من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح والألطف ففي وجوبه خلاف عندهم"[11] ويذهب النظام إلى أن "الله لا يقدر على أن يفعل بعباده خلاف ما فيه صلاحهم، وهذا في تعلق قدرته بأمور الدنيا، وأما في أمور الآخرة فقال: لا يوصف الباري بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئًا، ولا على أن ينقص منه شيئًا، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحدًا من الجنة لأن وليس ذلك مقدورًا له"[12]. بل نجد أن هذه المقاربة الأخلاقية لمفهوم الله لا تقتصر في انطباقها على البشر فحسب، بل حتى على البهائم. فعلى الرغم من اختلافهم حول ما إذا كان الله ملزمًا أو غير بأن يعوضها في الآخرة، فلا خلاف بينهم في أنها لا يمكن أن ينالها العذاب، طالما لم تكن مكلفة، إذا أن ذلك يستوجب الظلم، وهو محال في حقه[13].

أمرٌ أخر يتضمنه تطبيق المعيار الأخلاقي[14] في التصور اللاهوتي ألا وهو فكرة استحالة الظلم على الله، بمعنى هل يقدر الله على إثابة من يستحق العقاب وعقاب من يستحق الثواب؟ وبتعبير آخر، هل يحسن من الله فعل ذلك؟ ثمة خلاف عند المعتزلة في ذلك. بيد أنه لا يعدو أن يكون خلافًا نظريًا، بمعنى أنه يستحـــيل عليه – أي الله – عمليًا فعل الظلم وارتكابه. فالقائلون بقدرة الله على فعل الظلم من المعتزلة مثلاً[15] يجعلون من الله قادرًا على فعل الظلم ولكنه لا يفعله أبدًا، ما يعني أن القدرة على فعل الظلم هي قدرة صورية أو نظرية بحتة. وقد أوضح أبو موسى المردار حجتهم في ذلك بقوله: أن الله يوصف بالقدرة على العدل وعلى خلافه، وعلى الصدق وعلى خلافه، لأن هذه هي حقيقة الفاعل المختار أن يكون إذا قدر على فعل شيء قدر على ضده وتركه، بيد أنه يضيف إلى ذلك: ولو فعل -الله- تعالى مقدوره من الظلم والكذب لكان إلهًا ظالمًا كاذبًا[16]. وهذا ما يناقض فكرة الله عند المعتزلة وتعريفهم له، إذ يقولون أن ذات الله هي الكمال، والظلم لا يقع إلا عن كائن غير كامل، في حين يذهب النظَّام إلى نفي القدرة على فعل الظلم من أساسها، "ففي تجويز وقوع القبيح منه قبح أيضًا، فيجب أن يكون مانعًا، ففاعل العدل لا يوصف بالقدرة على الظلم" ولا يقدر على أن يفعل لعبادة في الدنيا ما ليس فيه صلاحهم، هذا في تعلق قدرته بما يتعلق بأمور الدنيا، وأما في أمور الآخرة فيذهب إلى أن الله لا يوصف "بالقدرة على أن يزيد في عذاب أهل النار شيئًا، ولا على أن ينقص منه شيئًا، وكذلك لا ينقص من نعيم أهل الجنة، ولا أن يخرج أحدًا من أهل الجنة، وليس ذلك مقدور له"[17].

ورغم أن هذه العقلانية الاعتزالية وإن بدت قد وصلت إلى قمتها عند النظام ومعمر، إلا أن ثمة حدودًا لم تكن قادرة على تجاوزها دون قلبٍ لكامل الأبستمولوجيا الكلامية. بمعنى أنه لم يكن في مكنتها مد بساط العقلنة على كامل فكرة الثواب والعقاب. إذ ظلت هذه الفكرة مقتصرة على دائرة التكليف دون أن تمارس النظر العقلي فيما يفضي إليه هذا التكليف، أعني الخلاص النهائي، فهذه المسألة قد بدت من المسائل السمعية أغلبهم[18]، فإنها بالتالي ظلت محصنة من أن يطالها مِبضع التحسين والتقبيح العقليين.

ما يعني أن اشتغال عقلنة الخطاب الديني فيما يتعلـق بمبدأ العقوبة الأخروية عند المعتزلـة، كان بمثابة "عقلنة من الخارج" أي أن آلية الاشتغال العقلي للخطاب الديني لم تصل إلى مضامين المعطى العقدي ذاته، أي أنها رامت عقلنة التكليف دون عقلنة ما يترتب عليه من ثواب أو عقاب وتفصيلاتها، ومن ثم نستطيع القول أن اشتغال العقلانية الاعتزالية في عقلنة الحكاية كان بغية توفير غطاء عقلاني لها، والإبقاء على مضامينها ضمن دائرة السمع، وهو ما يضمن جعل الخلاص الأخروي محصورًا داخل الدين ذاته. ومن ثم كانت العقلنة التي مارسها المعتزلة، مهما بدت جرأتها في نظر البعض، إنما تسعى في الواقع إلى إيجاد تبرير عقلي "للحكاية" في حدودها الدينية العامة، دون أن تمس فكرة احتكارية الخلاص الأخروي.

أما لماذا لم تستطع أو بالأحرى لم ترد هذه العقلانية أن تشمل في عقلانيتها كامل فكرة العقاب والثواب ذاتها، فذلك راجع إلى اعتبارات متعلقة بالقيمة المركزية لحصرية الثواب والعقاب أو الخلاص الأخروي في المنظومة الدينية، فمن شأن فتح باب العقلنة إزاءها أن يفضي – ربما – إلى جعلها قائمة على اعتبارات غير دينية، بل معرفية أو أخلاقية، كما سنراها عند الفلاسفة. ومن ثم إيجاد "فضاء خلاصي جديد" من شأنه أن يفسح المجال لإيجاد مقاربات للمسألة الإلهية من خارج الدين ذاته، وذلك في غياب الثقل النفسي والقلق الوجودي الذي يعكسه احتكار الدين للحكاية.

2-2 في الفكر الفلسفي

إذا كان أساس عقلنة الحكاية أو الخلاص الأخروي عند المعتزلة هو نظرية التكليف، فإن الأساس الذي انطلقت منه الفلسفة الإسلامية في عقلنتها إنما يكمن في نظرية المعرفة، وهذا هو ما جعل من اعتبارات تصور الحكاية لدى كل منهما مختلفًا عن الآخر. فالإشكالية التي تحكم التصور الفلسفي هي إشكالية وجودية طبيعية، فطبيعة الخلاص الفلسفي هي طبيعة معرفية في المقام الأول، فمعرفة وإدراك الله أو الحق هو غاية الكمال والسعادة وفق المعيار الفلسفي، حيث تنحصر وظيفة الإنسان في تحصيل هذه السعادة وحسب، وذلك خلال التأمل الفلسفــي والعقلي[19]. وفق ذلك، فإن فكرة الخلاص الأخروي ليست مرتبطة سوى في إدراك المعقولات المجردة. من حيث ارتباطها بكمالات النفس العقلية والمعرفية، فنجد أن الخلود عند الفارابي على سبيل المثال إنما هو كسب للنفس التي أدركت هذه المعقولات، وإن لم تعمل بمقتضى هذه المعقولات التي أدركتها، في حين أن الأنفس التي لم تدرك هذه المعقولات فمصيرها الهلاك أو الفناء[20] فليس ثمة بقاء إلا للنفوس الكاملة التي أدركت الحقائق، وأما النفوس الجاهلة، تلك التي "لا تصغي أصلاً إلى قول مرشد ولا معلم ولا مقوم. فهؤلاء تبقى أنفسهم هيولانية غير مستكملة استكمالاً تفارق به المادة، حتى إذا بطلت المادة بطلت هي أيضًا"[21]. ومن ثم كان ولابد أن ينعكس هذا التصور في اللغة المستخدمة في كل من الخطاب الفلسفي باعتباره خطابًا عقلانيًا، وفي الخطاب الكلامي أو الديني باعتباره خطابًا معياريًا، كما يلاحظ بعض الباحثين[22]، حيث تتصف لغة هذه الأخيرة بالتفسيق والتضليل والتبديع للخصوم في حين تتصف الأولى ضد خصومها بتبني مصطلحات التجهيل. وبناء على ملاحظة هذا النزوع العقلاني للمنظومة الفلسفية وبحكم اعتبارات ابيستيمولجية[23] ترى في كل نزعة حسية نقيضًا للعقل، نستطيع تفهُّم الحساسية الفلسفية إزاء التصورات الحسية في الدين بحيث عملت العقلانية الفلسفية على ما يمكن تسميته بالقلب العقلي لكامل "المحسوس في ميتافيزيقيا الدين" واعتبارها مجرد رموز ومثالات لمفاهيم عقلية مجردة[24]، حيث يترجم ابن سينا على سبيل المثال جل المضمون الحسي للعالم الأخروي إلى مضامين عقلية، فالجنة والنار تقابلان العالم العقلي والعالم الحسي وحظ الإنسان من النعيم أو الشقاء وثيق الصلة بهذه الثنائية[25] حيث يبدو المضمون الحقيقي للدين ليس كامنًا في الخطاب الحسي من حيث هو خطاب للعامة يتناسب مع إمكاناتهم الذهنية، فالنبي يجب أن يقرر لهم "أمر المعاد على أوجه يتصورون كيفيته وتسكن إليه نفوسهم، ويضرب للسعادة والشقاوة أمثالاً ممَّا يفهمونه ويتصورونه، وأمَّا الحقُّ في ذلك فلا يلوح لهم منه إلا أمرًا مجملاً"[26] الأمر المهم هنا والذي يميز هذه المقاربة الفلسفية، هو أنها - وبالرغم من كونها قد اصطنعت حكايتها الخاصة بها من خلال عمليه تأويل فلسفي للمضامين العقدية المتعلقة في المعاد والثواب والعقاب الأخرويين، وذلك من خلال أسس مختلفة تمامًا عن الأسس العقدية الذائعة للدين، تلك التي نجدها عند عامة المتكلمين وأهل الحديث - قد عملت على خلق "فضاء خلاصي جديد" مختلفًا عن ذلك الذي يَرُوج في الحكاية الرسمية للدين، مبنيٌ على الممارسة العقلية والتأمل الفلسفي للوصل إلى الحق.

فبناء على هكذا مقاربة فلسفية تسعى لإضفاء صبغة عقلية على الوجود، فإن "الحكاية الرسمية للدين" تغدو مجرد "حكاية" بكل معنى الكلمة، لا تغدو سوى أن تكون مجرد رموز مثالاتٍ لمعاني حقيقية[27] لا يمكن أخذها – المثالات والرموز–  بمضامينها الحرفية دون الوقوع في تناقض مع فكرة الكمال الإلهي[28]، حيث لا تخص هذه الحكاية سوى للعامة الذي يقصرون عن النظر العقلي البرهاني بحسب رشد، والذي لا يستطيع تحصيله سوى الفيلسوف. ومن نافل القول أن هذا الطريق البرهاني الذي يشير إليه ابن رشد هو ذاته طريق أرسطو والذي عبر عن مضامينه في كتبه الخاصة والتي جاءت على هيئة تعليقات وشروح على كتب أرسطو.

في رسالته التي خصصها لـ "علاج الخوف من الموت". يصرح مسكويه بأن

الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة، أو لا يعلم إلى أين تصير نفسه، أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه، فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه بطلان عدمٍ ودثورٍ، وأن العالم سيبقى موجودًا أو ليس هو بموجود فيه كما يظنه من يجهل بقاء النفس وكيفية المعاد. أو لأنه يظن أن للموت ألمًا عظيمًا غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه، وكانت سبب حلوله أو لأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت. أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يقدم بعد الموت. أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال والمقتنيات وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها.[29]

ثلاثة ملاحظات مهمة تصادفنا في رسالة مسكويه هذه، الأولى هو عنوان هذه الرسالة ذاتها. فعلى النقيض من تراث ديني سائد يحتفى بفكرة الخوف من الموت باعتبارها فكرة ذات أهمية في ضمان المحافظة على المنظومة السلوكية والفكرية للمؤمن، يذهب مسكويه إلى العكس من ذلك معتبرًا الخوف من الموت عبارة نقيصة ومرض يعتري الإنسان، ينبغي الخلاص منه. الملاحظة الثانية هي في مضمون هذا العلاج من وجهة نظره، إذ يلاحظ مسكويه الجانب النفساني في موضوع الخوف من الموت من حيث كونه مرتبطًا بمسألة أعم وهي الخوف والحزن، وهي مسألة كان قد أفرد لها رسالة خاصة بها من حيث ارتباطه بالمطلوبات المادية لعالم الكون والفساد.

فإذا أنصف الشخص نفسه وعلم أن جميع ما في عالم الكون والفساد غير ثابت، وإنما الثابت والباقي هو ما يكون في عالم العقل، لم يطمع في المحال ولم يطلبه، وإذا لم يطمع فيه، لم يحزن لفقد ما يهواه، ولا لفوت ما يتمناه في هذا العالم، وصرف سعيه إلى المطلوبات الإضافية، واقتصر بهمته على طلب المحبوبات الباقية، وأعرض عما ليس في طبعه أن يثبت ويبقى[30].

فالعقوبة إن كان ثمة عقوبة هي تلك الحاصلة من الجهل، فالتعب "الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس، والبرء منه خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية" ولا علاج سوى في الانكباب على المطلوبات العقلية التي لا تقبل الفساد أو الزوال[31]، الملاحظة الأخيرة في مقاربة مسكويه هي محاولته تفسير ظاهرة الموت من خلال سياق طبيعي بقدر الإمكان، على اعتبار أن النفس جوهر غير جسماني

مفارق لجوهر البدن، مباين له كل المباينة بذاته وخواصه وأفعاله وآثاره، فإذا فارق البدن كما قلنا وعلى الشريطة التي شرطنا بقي البقاء الذي يخصه ونقى من كدر الطبيعة وسعد السعادة التامة ولا سبيل إلى فنائه وعدمه، فإن الجوهر لا يفنى من حيث هو جوهر ولا تبطل ذاته وإنما تبطل الأعراض والنسب والإضافات التي بينه وبين الأجسام بأضدادها. فأما الجوهر فلا ضد له وكل شيء يفسد فإنما فساده من ضده وقد يمكنك أن تقف على ذلك بسهولة من أوائل المنطق قبل أن تصل إلى براهينه. وإن أنت تأملت الجوهر الجسماني الذي أخس من ذلك الجوهر الكريم واستقرت حاله، وجدته غير فإن ولا متلاش من حيث هو جوهر، إنما يستحيل بعضه إلى بعض فتبطل خواصه شيئًا فشيئًا منه وأعراضه. فأما الجوهر نفسه فهو باق لا سبيل إلى عدمه وبطلانه[32].

*

يمكننا أن نلاحظ هنا المدى الذي وصلت إليه عملية عقلنة الحكاية في الفكر الفلسفي. من حيث انعتاقها من فكرة التكليف الكلامية، واعتبار مسألة الخلاص مجرد فكرة عقليه تندرج في إطار من التأمل والتفكر الفلسفي الأمر الذي يجعل منها ما يمكن اعتباره سقفًا أعلى للتفكير العقلاني في مفهوم الخلاص الأخروي. لا يعنينا من هذا العرض لفكرة المعاد من وجهة النظر الفلسفية سوى إبراز الأبعاد الفكرية التي أفرزها التفكير في الحكاية ومحاولة عقلنتها من داخل المنظومة الدينية. حيث حرصت الممارسة العقلية الفلسفية على إيجاد صيغة عقلانية - بالمعنى الفلسفي - للدين، فلم يكن لتصوراتها أي دوافع مناوئة للدين أو رافضة له. مهما بدت تلك التصورات شديدة المصادمة للبديهيات الدينية بعامة وخاصة التصور العام للألوهية[33].

لم تكن هذه الممارسة هو الشكل الوحيد في عقلنة الحكاية في الفكر العربي والإسلامي، ولكنها تبقى على الأقل الشكل الأهم من وجهة نظري، هو من حيث كونها – التجربة الاعتزاليه والفلسفية – قد استشعرت ضرورة إيجاد تبرير عقلي لمضامين الخطاب الديني بشكل عام ولفكرة المعاد والخلاص الأخروي بشكل خاص. صحيح أنها لم تكسر احتكار "الحكاية"، بيد أنها ساهمت من خلال توسيع مضامينها وإضفاء طابع عقلاني عليها، بالتخفيف من ثقل الخطاب الديني الأصولي، وإلا فثمة مقاربات عقلانية أخرى، ساهمت في النظر العقلي لفكرة الخلاص إن كان ذلك من زاوية نقدية للفكرة الدينية، بيد أنها كانت عقلنة من خارج الدين ذاته على كل حال وفي سياق جدل مناوئ له ولمقولاته. فعلى الرغم بعض التشابه في بعض هذه الملاحظات التي يوردها هذا التيار مع الملاحظات التي يوردها المعتزلة على سبيل المثال. إلا أن الدوافع كانت مختلفة تمامًا. فالتوحيدي على سبيل المثال يذكر عن أبي عيسى الوراق أنه قال "أن الآمر بما يعلم أن المأمور لا يفعله سفيه، وقد علم الله من الكفار أنهم لا يؤمنون، فليس لأمرهم بالإيمان وجهٌ في الحكمة"[34]، وهو ذات ما يذهب إليه المعتزلة في عدم جواز تكليف ما لا يطاق[35] وهو أيضًا ذات الاعتراض الذي يمكن أن يوجه إلى الأشاعرة الذين يرون بتكليف ما لا يطاق[36]، لم تكن أمثال هذه العقلانية – عقلانية الرازي أو الراوندي أو ابن الوراق – تستهدف تقديم حلول عقلية لما يبدو لها غير عقلاني في الدين. بل كانت مقارباتها العقلانية لبعض مسائل الدين بمثابة نقد للمعطى الديني ذاته. وعلى عكس الموقف الاعتزالي والفلسفي الذي سعى إلى إيجاد "العقل" أو بالأحرى "تأسيسه" من داخل الدين، سعت هذه العقلانية إلى تأسيس "العقل" خارج الدين، نافية عنه - أي الدين - نصاب المعقولية ومستهدفة تقديم بديلٍ عقلي أو فلسفي له. فهي بهذا أقرب إلى أن تكون "عقلانية مضادة" ترفض إمكان أي مصالحة بين العقل والنص.

ثمة نص آخر يورده التوحيدي للوراق نفسه، وهو أن "المعاقب الذي لا يستصلح بعقوبته من عاقبه، ولا يستصلح به غيره، ولا يشفي غيظه بعقوبته، جائر، لأنه قد وضع العقوبة في غير موضعها. قال: لأن الله تعالى لا يستصلح أهل النار ولا غيرهم، ولا يشفي غيظه بعقوبتهم، فليس للعقوبة وجهٌ في الحكمة"[37].

في الواقع يمكن ملاحظة وحدة الممارسة العقلية بين "عقلنة الديني" كما تمثل في الممارسة الاعتزالية وبين هذا "النقد المضاد"، إلا أن الاختلاف يكمن في تحديد النقطة التي يقف عندها العقل في ممارسة مهامه النقدية، فعلى سبيل المثال، نجد أن الآلية الأهم في العقلنة الدينية - أقصد التحسين والتقبيح – في النزعة الاعتزالية، قد وجدت نفسها مجبرة على التوقف على تخوم الخلاص الأخروي بشكل عام، حيث اعتبرتها مسألة خاصة في السمع، إذ بدت واعية لكون سرِّ احتكار الدين للخلاص الأخروي ينطوي على خرق لكامل "الحكاية" التي يتسند إليها الخطاب الديني. في حين نجد أن ذات الخطوة التي أحجم عنها هذا الخطاب العقلاني قد تمت من قبل ما أسميناه "عقلانية مضادة" فيما نقلناه عن الوراق قبل قليل، وما نجده أيضًا في نص مهم لأبي سعيد الحضرمي في قوله:

إن كان الله عدلاً كريمًا جوادًا عليمًا رؤوفًا رحيمًا فإنه سيصير جميع خلقه إلى جنته، وذلك أنهم جميعًا على اختلافهم يجتهدون في طلب مرضاته، فيهربون من وقع سخطه بقدر علمهم ومبلغ عقولهم، وإنما تركوا اتباع أمره لأنهم خدعوا، وزين لهم الباطل باسم الحق؛ ومثلهم في ذلك مثل رجل حمل هديةً إلى ملك، فعرض له في الطريق قومٌ شأنهم الخداع والمكر والاستغلال، فنصبوا له رجلاً، وسموه باسم الملك الذي كان قصده، فسلم الهدية إليهم؛ فالملك الذي قصده إن كان كريمًا فإنه يعذره ويرحمه ويزيد في كرامته وبره حين يقف على قصته، وهذا أولى به من أن يغضب عليه ويعاقبه[38].

*** *** ***

عن موقع حكمة


 

horizontal rule

[1]  طه باقر، ملحمة جلجامش، ص 79.

[2] Fieser,James. Early Responses to Hume’s Life and Reputation: Volumes 9 and 10. Thoemmes Press p.2003 p286

[3] Birkbeck Hill. Letters of Hume to William Strahan. oxford .1888 .p.xl

[4]  كان الدافع وراء دراسة العلوم الطبيعية عند الابيقوريين دافعًا نفسيًا في المقام الأول، من حيث كونه يسعى إلى تحرير الإنسان من المخاوف والخرافات التي تنشا من خشية الموت وغضب الآلهة، فالتفسير الآلي للكون يقضي على خوف الإنسان مما يعقب موته، ومن ثم فإن ظاهرة الخوف من الموت ليست إلا خطأ في التفكير. ينبغي تصحيحه من خلال دراسة هذه الظواهر دراسة علمية.

توفيق الطويل، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، القاهرة، دار النهضة العربية، 1979. ص 132.

[5]  من المهم الإشارة إلى أن هذا الموقف النقدي عند الرواقية للدين لا ينسحب إلى أن يكون نظرية سلبية للدين ككل بل يقتصر دوره في نقد ورفض لبعض المفاهيم والمعتقدات الدينية الشائعة حينها، فكلينثيس على سبيل المثال في الوقت الذي لا يخفي امتعاضه واحتقاره من الدين الشعبي وفكرة وجود الجحيم "تارتاروس". إلا أنه في الوقت ذاته يكتب ترنيمته الشهيرة للإله زيوس، يبدو هذا راجع إلى الاختلاف الجذري ما بين المفهوم الرواقي للدين بشكل عام والإله بشكل خاص، عن التدين بالمفهوم العام أنظر على سبيل المثال:

Arnold, Edward Vernon. ” Roman Stoicism: being lectures on the history of the Stoic philosophy with special reference to its development within the Roman Empire ” Cambridge: university press. 1911 P223228-  and 234-235

[6]  فابن سينا يذهب إلى التعليل الطبيعي لفكرة الموت باعتباره نتيجة لقصور الطبيعة البدينة عن إلزام المادة صورتها وحفظها عليها بإدخال بدل ما يتحلل، فالموت يعد بلا غاية، فهو نظام متوجه إلى غاية وهو فعل الطبيعة. أنظر عاطف العراقي، الفلسفة الطبيعية عند ابن سينا، ص 182.

[7] Consolations from stoic. Enhanced media.2016 p27

[8]  أفلاطون، فيدون، ترجمة: عزت قرني، القاهرة، دار قباء، 2001، الصفحات 162-166 و213-222.

[9]  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، تحقيق البير نصري نادر، بيروت دار المشرق، الطبعة الثانية، 1986 ص137-138: "إذا مضت طائفة فبطلت أبدانها، وخلصت أنفسها وسعدت؛ فخلفهم ناس آخرون في مرتبتهم بعدهم، قاموا مقامهم وفعلوا أفعالهم. فإذا مضت هذه أيضًا وخلصت صاروا أيضًا في السعادة إلى مراتب أولئك الماضين، واتصل كل واحد بشبيهه في النوع والكمية والكيفية. ولأنها كانت ليست بأجسام صار اجتماعها، ولو بلغ ما بلغ غير مضيق بعضها على بعض مكانها، إذا كانت ليست في أمكنة أصلاً، فتلاقيها واتصال بعضها ببعض ليس على النحو الذي توجد عليه الأجسام. وكلما كثرت الأنفس المتشابهة المفارقة، واتصل بعضها ببعض، وذلك على جهة اتصال معقول بمعقول، كان التذاذ كل واحد منها أزيد شديدًا. وكلما لحق بهم من بعدهم، زاد التذاذ من لحق الآن بمصادفة الماضين، وزادت لذات الماضين باتصال اللاحقين بهم، لأن كمل واحدة تعقل ذاتها وتعقل مثل ذاتها مرارًا كثيرة، فتزداد كيفية ما يعقل".

[10]  القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، بيروت، الدار المصرية للتأليف والترجمة، 1965 4/174-175.

[11]  الشهرستاني، الملل والنحل، تحقيق: سعيد الغانمي، بيروت، دار الجمل، 2013، ص 125. أنظر أيضًا الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد، بيروت، المكتبة العصرية، 1990، ص 131-132.

[12]  الشهرستاني، الملل والنحل، ص 125-133.

[13]  أنظر مقالات الإسلاميين، 319-320.

[14]  كان تطبيق العيار الأخلاقي على تصور فكرة الله، مقولاتها المتعلقة بالحسن والقبح، أحد أوجه العقلانية في الفكر الاعتزالي. بيد أن هذه العقلانية كان على حساب التحديد من "مطلقية الله" تلك المطلقية التي مثلت المقاربة الأشعرية عمومًا الله وعلاقتها بالإنسان، حيث يذكر الرازي علي سبيل المثال في معرض تعليقة على الآية 191 من سورة آل عمران "فقنا عذاب النار" قوله: "فاعلم أنه تعالى لما حكى عن هؤلاء العباد المخلصين أن ألسنتهم مستغرقة بذكر الله تعالى، وأبدانهم في طاعة الله، وقلوبهم في التفكر في دلائل عظمة الله، ذكر أنهم مع هذه الطاعات يطلبون من الله أن يقيهم عذاب النار، ولولا أنه يحسن من الله تعذيبهم وإلا لكان هذا الدعاء عبثًا، فإن كان المعتزلة ظنوا أن أول الآية حجة لهم، فليعلموا أن آخر هذه الآية حجة لنا في أنه لا يقبح من الله شيء أصلاً". أنظر: فخر الدين الرازي، تفسير الفخر الرازي: الشهير بالتفسير الكبير ومفاتح الغيب، بيروت، عالم الفكر، ج 9، ص 145.

[15]  أبو الهذيل العلاف وأبو موسى المردار وجعفر بن حرب وبشر بن المعتمر.

[16]  الملل والنحل، ص 147. وأنظر أيضًا: عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة، تحقيق عبد الكريم عثمان، القاهرة، مكتبة وهبة، 1996، ص 639.

[17]  نفس المصدر

[18]  نفس المصدر ص 138 و156 "حيث يذكر عن ابن مبشر" أنه كان يقول في: الوعيد أن استحقاق العقاب والخلود في النار بالكفر يعرف قبل ورود السمع، وسائر أصحابه يقولون التخليد لا يعرف إلا بالسمع"، على الرغم من أن العديد منهم حسب ما يبدو من كلام الأشعري، يذهب إلى القول بأن الوعد والوعيد إنما يعرفان بالعقل، ص 335. حيث يبدو كأن ثمة تفرقة ما بين مسألة العقوبة بشكل عام والخلود في النار. كأن الأولى تعرف بالسمع عند أغلبهم، وأما الأخيرة فلا تعرف عند أكثرهم إلا بالسمع. أنظر أيضًا شرح الصول الخمسة، ص 665-670 إذ يحاول القاضي عبد الجبار إيجاد مبررات عقليه للتخليد.

[19]  الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 26 و68 و105.

[20]  نفس المصدر، 145.

[21]  الفارابي، السياسة المدنية، نسخة إلكترونية، ص 24.

[22]  أنظر: يحيى محمد، الفلاسفة وحقيقة المعاد http://fahmaldin.net/

[23]  يبرز ارتباط الوجود والعقل في المنظومة الفلسفية بشكل واضح في التصور الفلسفي للوجود وتراتبيته، من حيث أنه سلسله من عمليات التعقل المختلفة، كما يتبين من نظرية الصدور، وهو ما يشير لوجود علاقة وثيقة بين الوجود والعلم الإلهي، فهذا الأخير هو ما تتأسس عليه وتوجد بسببه الأشياء. أنظر: آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 61-62. والاسفراييني، شرح كتاب النجاة لابن سينا: قسم الإلهيات، تحقيق حامد أصفهاني، ص 426-428.

[24]  ابن سينا، تسع رسايل في الحكمة والطبيعيات، القاهرة: دار العرب، دون تاريخ، ص 129-132.

[25]  الاسفراييني، شرح كتاب النجاة لابن سينا ص 483-482. وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات الردية صارت إلى سعة من رحمة االله تعالى ونوع من الراحة، وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية وليس لها عندها هيئة غير ذلك معنى يضادها وينافيها فتكون لا محالة ممنوة بشوقها إلى مقتضاها، فتعذبت عذابًا شديدًا بفقد البدن ومقتضيات البدن من غير أن يحصل المشتاق إليه، لأن آلة ذلك قد بطلت وخلق التعلق بالبدن قد بقي.

[26]  نفس المصدر، ص 540.

[27]  حيث يصف الفلسفة بأنها العلم الذي يتناول الموجودات ببراهين يقينية، وأن هذه البراهين إنما يتم تمثيلها على جهة الخيال والرمز ليسهل على العامة فهمها. أنظر الفارابي، تحصيل السعادة، تحقيق: علي بوملحم، بيروت، دار وكتبة الهلال، 1995، ص 83-89.

[28]  "لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب، على ما يظنه المتكلمون من الله تعالى من إجزاء الزاني مثلاً بوضع الأنكال والأغلال وإحراقه بالنار مرة بعد أخرى وإرسال الحيات والعقارب عليه، فإن ذلك فعل من يريد التشفي من عدوه بضرر أو ألم يلحقه ليعذبه عليه، وذلك محال في صفة الله تعالى، إذ هذا فعل من يريد أن يرتدع المنكل به عن مثل فعله، أو ينزجر عن معاودة مثله، ولا يتوهم أن بعد القيامة تكليف وأمر ونهي على أحدن حتى ينزجر أو يرتدع لأجل ما شاهده من الثواب والعقاب على ما يتوهمه" ابن سينا، رسالة في سر القدر، ص 305، في التفسير القرآني واللغة الصوفية في فلسفة الصوفية، حسن عاصي بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1983.

[29]  مسكوية، تهذيب الأخلاق، بيروت، دار الكتب العلمية، 1985، ص 173-174.

[30]  نفس المصدر، ص 180-181.

[31]  نفس المصدر، ص 175-176.

[32]  نفس المصدر، ص 174.

[33]  يكفي أن نلاحظ كدليل على هذه التباين، اختلاف تصور الألوهية ذاتها في كل من التصور الديني العام بشكله الكلامي وبين التصور الفلسفي مثلنا يبدو لنا عند الفارابي وابن سينا وابن رشد، فليس إله الفلاسفة هو ذاته إله المتكلمين، الإله الذي يثيب ويعاقب ويغضب ويفرح ويستجيب دعاء المكلومين. بل هو أقرب ما يكون إلى الإله الأرسطي، المحرك الذي لا يتحرك، والذي تفصله عن الناس سلسلة طويلة من الأسباب أو العقول السماوية بحسب التصور الأفلوطيني.

[34]  التوحيدي، الامتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1944، ص 192.

[35]  عبدالجبار، نظرية التكليف، ص 300.

[36]  السبكي، رفع الحاجب عن حاشية أبن الحاجب، تحقيق: علي محمد معوض وعادل عبد الموجود. بيروت، عالم الكتب، 1999. جـ 2، ص 70-72.

[37]  الامتاع والمؤانسة، ص 192.

[38]  نفس المصدر، ص 192.

 

 

 

 

الصفحة الأولى
Front Page

 افتتاحية
Editorial

منقولات روحيّة
Spiritual Traditions

أسطورة
Mythology

قيم خالدة
Perennial Ethics

 إضاءات
Spotlights

 إبستمولوجيا
Epistemology

 طبابة بديلة
Alternative Medicine

 إيكولوجيا عميقة
Deep Ecology

علم نفس الأعماق
Depth Psychology

اللاعنف والمقاومة
Nonviolence & Resistance

 أدب
Literature

 كتب وقراءات
Books & Readings

 فنّ
Art

 مرصد
On the Lookout

The Sycamore Center

للاتصال بنا 

الهاتف: 3312257 - 11 - 963

العنوان: ص. ب.: 5866 - دمشق/ سورية

maaber@scs-net.org  :البريد الإلكتروني