في الحب وأشياء
أخرى
أميمة الخش
سألتني
صحافية مرة: "ما رأيك في الحب يا سيدتي؟"
فرددتُ على سؤالها بسؤال آخر: "ما الذي تقصدينه بسؤالك عن الحب، أيتها
الشابَّة؟ فهذا سؤال كبير ومهمٌّ ومتشعِّب. أرجو أن تحدِّدي بالضبط!".
صمتت الصبيَّة لحظة تفكِّر، وكأني صدمتها بسؤالي، ثم قالت، وهي تبتسم
بغنج: "ما تعريف الحب، مثلاً، ثم هل تؤمنين بوجوده الآن في هذا العصر،
أو لنقل في هذا المجتمع، أو ربما أردتُ أن أقول بتحقُّقه بين الناس
بشكل عام؟". وبدا على حركاتها بعض الارتباك، فطمأنتُها بابتسامة!: "لا
بأس عليك يا عزيزتي. أنت، فقط التبس الأمر عليك حين دمجتِ المعنيين
معًا، الوجود، والتحقُّق، ولكن، لا عليك، فلكل التباس توضيح! دعينا
أولاً نعرِّف الحب. وأنتِ إذ تطلبين رأيي، فأنا أعرِّفه بأنه العطاء،
وبأنه الصدق والإخلاص، وبأنه النقاء والنبل. أماعن وجوده، فنحن مغمورون
به. الحب يحيط بنا من كل جانب كيفما تلفَّتنا، وأينما نظرنا. هو فوقنا،
وتحتنا، وعن يميننا وشمالنا. الحب هو هذه الطاقة التي تغمرنا ونعيش
فيها ومنها. الحب هو الحياة التي تدخل أجسادنا الماديَّة الهامدة،
فتُحييها وتُحرك أجزاءها وأعضاءها، من دماغ وقلب ورئتين ونُسج وشرايين
وأوردة وكل ما يليها ويتبعها في تكويننا البشري. الحب هو الطبيعة، هو
الكون بكل مظاهره وأشكاله، سواء أكان في مظهره البشري، أم الحيواني، أم
النباتي، أم الحجري. نحن، كبشر شكل من أشكال الحب. الشجرة مظهر من
مظاهره، الوردة، الجبل، النهر، البحر، الهواء الذي يحيط بنا ونتنشَّقه،
السماء بزرقتها وغيومها البيضاء أو الرمادية، العصفور، النعجة،
الببغاء، حتى الغراب الأسود، والذئب، والنمر، والثعبان. كل ما هو مظهر
من مظاهر هذا الكون العجيب، هو دليل واضح على وجود الحب، وإلاَّ لما
وُجد أصلاً لأن الكون والطبيعة هي واحة للحب، والحب فقط.
أما الالتباس الذي أشرتُ إليه في استعمالك للمفردتين بالمعنى نفسه،
وجود وتحقُّق، فسيتَّضح بعد أن أوضح لك عن هذا التحقُّق كإمكانيَّة
وليس كحقيقة واقعة، وسأشرح لك لماذا هو مازال عند الناس كإمكانيَّة
وليس كواقع.
الإنسان يختلف عن باقي مظاهر الطبيعة بأنه مزوَّد بالوعي، وبأنه يعي
أنه يعي. أما باقي مخلوقات الكون فهي مزوَّدة بوعي متدرِّج ومتنوِّع في
قوة كمونه أو تفتُّحه، لكنها لا تعي أنها تعي. إذن الطبيعة كرَّمت
الإنسان بالوعي. إلا أن الإنسان ضلَّ الطريق حين لم يهتدِ إلى مفتاح
هذا الوعي، مفتاح هذا الكنز الثمين الذي لو اهتدى إليه، لعرف أنه هو
الحب الذي نتحدَّث عنه الآن، ونتساءل، ونحن في حيرة وشك عن وجوده بين
البشر، أو عدمه!
كانت الصحافية تحاول أن تسطِّر على ورق الدفتر الذي أمامها رؤوس أقلام
للكلام الذي تسمعه، بينما تظهر علائم دهشة واضحة على وجهها الجميل!
إحساسي كان يقول لي أنها لا تريد أن تفهم ما أقوله! هي تريد أن تنجح في
إعداد حوار ناجح وجيِّد مع كاتبة هجمت عليها الصحافة كما لم تهجم على
كاتبة أخرى، أو هكذا تهيأ للصبيَّة! بدت، فجأة، وكأنها التقطت شيئًا ما
مما أحسُّه، فإذا بها ترفع إليَّ رأسها وتنظر، وهلة، في وجهي. كانت
ملامحها الجميلة تعبِّر عن دهشة وحيرة واضحتين، كأنها رأت نفسها في
موقف لا تُحسَد عليه، لكن التراجع لم يكن واردًا بعد الآن!
وربما كان حال نفسها يقول: أنا لم أتِ إليك أيتها الكاتبة كي نحلَّ
سوية لغز الحياة! أنا أتيتُ كي أسألك أسئلة بسيطة وواضحة عن الحب، فلمَ
تُصرِّين على إدخالي في متاهاتك الفكرية التي يبدو أنها صعبة، كما
يُقال عنك؟! إلا أنها أخيرًا آثرت السلامة والبقاء، فحاولت مسايرتي
بلهجة اختلط فيها المرح ونفاذ الصبر: "وما هو هذا المفتاح، برأيك يا
سيدتي؟ أو أين يوجَد؟!". تابعتُ، بأسارير منفرجة، وأنا أقدِّر موقفها
والهمَّ الكبير الذي ركبها، دون أن تحسب له حسابًا: "رأيي، أيتها
الصحافية الفتيَّة أن المفتاح هو الانتباه إلى داخلنا، إلى تلك البذرة
الصغيرة التي زرعتها الحياة في نقطة ما في أعماقنا، أو لنقل، بتسمية
أخرى إلى ذلك الخيط الرفيع من شعاع يربطنا بالألوهة. وأقول لك بوضوح،
وهذا في النهاية هو رأي لكاتبة لها رؤية معيَّنة! أقول: هذه هي الغاية
من وجودنا في هذا الكون العظيم. أي لو انتبه كل منَّا إلى داخله، إلى
تلك البذرة الصغيرة من الخير، ورعاها حتى تنتش ثم تنمو وتكبر، لنظر إلى
نفسه، وإلى من حوله، وإلى الطبيعة والكون، والإنسانية جمعاء نظرة
مختلفة!
- ولماذا تعتقدين ذلك يا سيدتي؟ سألت بانفعال واضح!
- لأن انتباهه إلى داخله، أيتها الشابة، يوصله إلى المعرفة، والمعرفة
توصله إلى الوعي.
- اسمحي لي، يا سيدتي، أنا حتى الآن لم أفهم عن أية معرفة تتحدًّثين!
قالت هذا بنوع من الضيق المُحبَّب. فأسرعتُ أمتصُّ ضيقها:
- لا عتب عليك، يا عزيزتي، فأنت ما زلتِ شابَّة، والتعلُّق بمظاهر
الحياة ومغرياتها، وتأثّرُك بهذا المجتمع المضطرب، والذي تحاول ثقافته
المزيَّفة، وأيضًا تعلُّقه بقشور علوم التكنولوجيا التي تصدِّرها له
الدول الكبرى وشركاتها التي تحكم العالم، فينتقي هو منها، نتيجة جهله
واسترقاقه من قبل حكامه، ما يستثير حواسَّه، لا إحساسه، فيبتعد بذلك عن
ذاته الحقيقية، عن فرادته، ويركض لاهثًا وراء رغباته وجشعه فقط، هو
السبب!
والآن سأسألك أنا: إذا بقي الإنسان منَّا منشغلاً بنفسه، بكل ما تحمله
من مطامع ورغبات، وجعل جلَّ طموحه في الحياة أن يسعى جاهدًا لتكديس
الأموال وشراء البيوت والسيارات، وكل عفن هذه الدنيا، دون أن يفكِّر
للحظة ما مصدر هذه الأموال وكيف حصل عليها، فكيف سينتبه إلى داخله؟ كيف
سيهتمُّ بذاته العميقة؟ بأي ماء سيسقي بذرة الخير الكامنة في أعماقه،
وكل مصادر المياه حوله ملوَّثة؟!
ولا تجيب الصحافية الشابة، بل يذهب فكرها بعيدًا. كانت تفكّر فيما
تسمعه، وبعد فترة صمت تقول:
- أنا مقتنعة بما تقولينه يا سيدتي، ولكن تحقيقه صعب، صعب للغاية!
وضربت بيدها على الدفتر الذي أمامها، وهي تهزُّ رأسها بحركة طفولية
لطيفة. أدركتُ أنني أثقلتُ عليها، فرحتُ أفكر في تبسيط الحوار أكثر،
وقبل أن أفتح فمي بالكلام، قالت:
- والآن اسمحي لي أن أعود إلى الشق الثاني من سؤالي الأول، وإلى جوابك
عليه. أنت تقولين إن الحب يغمرنا ويحيط بنا من كل جانب. سؤالي الآن:-
لماذا لا نحس به، أي لماذا لا يحس به الناس؟؟
- هناك من يحسُّون به فعلاً، لكن أكثر الناس أجهزة استقبالهم معطَّلة!
ألم تسمعي عن أجهزة الاستقبال الإنسانية؟ أم تعتقدين أنها وقف على
الأجهزة الإلكترونية؟ اسمعي يا عزيزتي: لكل إنسان منَّا على هذا الكوكب
جهاز استقبال معيَّن، تختلف قوَّته وطاقته بحسب الاستعداد الذي يحمله
معه من حيواتٍ سابقة، وأيضًا بحسب ثقافته الأسريَّة والمجتمعية
والشخصية، وهذه مهمة جدًا! وهكذا، كلما كان جهاز استقباله فعَّالاً،
كان قادرًا على التقاط شحنات الحب المحيطة به، والشعور بها في قلبه
مباشرة، قلبه الذي لا يعرف معنى الغربة، ولا يحس إلا بتوقُّد المحبة
فيه. ومادام إحساسه بالمحبة والنقاء تجاه مَن حوله، وتجاه الإنسانية
جمعاء موجود، فستكون لديه القدرة على الانتباه إلى أعماقه وعلى ملامسة
ذلك الشعاع الإلهي في داخله، وعلى العمل على إحياء قيم الخير والحق في
ذاته، حتى يتحوَّل ذلك الشعاع إلى شعلة تنير أمامه طريق الحكمة
والروحانية، فينفتح وعيه على ما لا يعرفه الآخرون، وبذلك يكون قد وضع
قدمه على أول درب الحقيقة اللامتناهية.
ظننتُها انتهت من مهمَّتها الصعبة، وسوف تشكرني ثم تمدُّ يدها لتصافحني
وتنصرف هاربة من ألغازٍ لم تسمعها من قبل. إلاَّ أنها ظلَّت جالسة تنظر
إليَّ كأنها لا تراني، بل تفكِّر فيما قلتُه فقط! وبقيتُ صامتة أرقبها.
بعد حين خرج صوتها عميقًا كأنه يخرج من كهفها الداخلي.
- هل تعتقدين بأن الزواج مؤسسة ناجحة؟
كان قد لفت نظري منذ بداية لقائنا، بريق خاتم يلمع في إصبع يدها
اليمنى.
قلتُ، وأنا أبتسم: - هذا يتوقَّف على علاقة كل واحد منَّا بنفسه
وبالحياة!
تقطِّب حاجباها هذه المرة، دليل عجز عن فهم جوابي، فانبرت تسأل بلهفة:
- وماذا تقصدين بذلك؟
- أعني إن الإنسان، أكان امرأة أم رجلاً، إذا توصَّل إلى درجة من
الوعي، بحيث بات منتبهًا، وملامسًا لجوهره الحقيقي، الذي هو المحبة،
والصدق، والخير، والنقاء، وببساطة أكثر، إذا كان على علاقة جيدة مع
نفسه، فإنه حتمًا سيكون على علاقة جيدة بمن حوله، وبالحياة على
الإجمال. وهكذا سيكون قادرًا على تحمُّل المسؤولية تجاه نفسه وتجاه
الآخرين، وقادرًا على التضحية، وقادرًا على المشاركة، والتفاهم، أي
قادرًا على الحب. والزواج هو هذه الأشياء كلِّها، إن كنَّا صادقين
فعلاً! ولكن، يا عزيزتي، هنالك أناس من المفكِّرين الروحانيين،
يردِّدون دائمًا شيئًا واحدًا فقط أمام مستمعيهم: "المحبة... والمحبة
وحدها!" وهو شيء رائع تحدثنا عنه، محبة الناس، محبة الكون، محبة
الإنسانية، إلاَّ أنني أرى - من وجهة نظري - أن قلوب هؤلاء تفتقر إلى
دماء جوهرة ثمينة جدًا، هي (الحب) فمن لا يستطيع أن يحب شخصًا بعينه،
لا يستطيع أن يحب الإنسانية، والكون، والطبيعة! وهذا، في النهاية رأيي.
فالحب والمحبة توأمان لا ينفصلان، وعلينا إدراك ذلك. ولكنني، يا
عزيزتي، أشك أن الرجل، في هذا العالم المجنون، يمكنه أن يحب وأن يكون
زوجًا مخلصًا!
فتحت الشابة عينيها على آخرهما، وهي تنظر إليَّ بدهشة من لا يتوقَّع
سماع هذا الكلام من امرأة مثقَّفة ترى بريق خاتم جميل في إحدى أصابع
شابة في مقتبل العمر تنتظر من الحياة تحقيق حلمها الجميل برجل يحبها
ولا يبدِّلها بكنوز الدنيا! لاشك أنها كانت تطلب في نظراتها نوعًا من
ردِّ الاعتبار على قسوة ظنَّتها متعَمَّدة! لكنني تغافلتُ عن معنى
نظراتها وتابعتُ:
- اسمعي، يا عزيزتي، هذه الجملة الحقيقية والصريحة "الرجل لا يحب إلاَّ
ذاته، لأنه عبد رغباته. الرجل يرغب فقط، ويسعى لتحقيق رغباته مع امرأة
تعجبه، ربما بمظهرها، وربما، وهذا نادر جدًا، بذكائها وشخصيَّتها. ولكن
كل ما يعجبه فيها هو لوقتٍ تحدِّده الرغبة، وحين تخفُّ أو تزول يبحث عن
أخرى تجدِّد فيه تلك الرغبة. الرجل، بطبيعته وتكوينه اللذين خُلق
عليهما، وأيضًا بالمكانة التي وضع نفسه فيها في المجتمع عبر التاريخ
الإنساني، لا يعرف الحب أبدًا، كما عرَّفتَه قبل قليل. لا يعرف إلاَّ
الرغبة التي تنبع من نفسه الدنيا، والتي ينصاع هو لها! أما ما يحكونه
عن الحب العذري فهو مجرد رغبات لم تتحقَّق بفعل تقاليد مجتمع ما. ولو
تحققت لذهب الحب العذري مع الريح! الحب لا تحقِّقه إلا المرأة، والمرأة
فقط. لأنها تعطي بلا مقابل، كالأرض التي تخبئ في رحمها بذرة الحياة
لتمنحها هدية للكون العظيم من غير مقابل! وهذا هو الحب الحقيقي.
كانت الصحافية تحدِّق في وجهي وتستمع بجهد بالغ، كأنها تستمع لأحجية
يصعب عليها فكُّ ألغازها!
ابتسمتُ لها، بعد انتهاء حديثنا، بمودَّة بالغة. أمسكتْ بدفترها وهبَّت
واقفة وعلى وجهها علامات انكسار وتحدٍّ بالوقت ذاته. حزنتُ لأنني
فاجأتُها، فمددتُ لها يدي مصافحة، قبل أن تستدير هاربة. نظرت إلى يدي
الممدودة، لوهلة، كأنها لم تكن تتوقَّع أن أكون أنا المبادِرة. وبحركة
سريعة مدَّت لي يدها التي يبرق في إحدى أصابعها خاتمًا يربطها برجل كنا
نتحدَّث عنه قبل قليل. قلتُ لها مودِّعة: "كوني بخير!" هزَّت رأسها،
وهي تبتعد ثم تخرج من المقهى بخطوات سريعة!
18-06-2014
*** *** ***