قصيدتان: حيث تنتهي الأرض، والذكرى
إيڤ بونّفوا
ترجمة: أسامة أسعد
حيث تنتهي الأرض
-1-
بما أن طائر مينرڤا
يشرع في الطيران أوَّل هبوط الليل،
فإنها اللحظة التي يحين فيها وقت الكلام عنكِ،
أيتها الدروب التي تمّحي على هذه الأرض الضحية.
كنتِ اليقين، وصرتِ اللغز. كنتِ تنقشين الوقت في الأبدية،
والآن لستِ سوى ماضٍ، لحيث تنتهي الأرض، هنا، أمام أعيننا،
كحافة جرف صخري شاهق.
-2-
كان ظلُّ ورقة أو زهرة يسقط على حجر، وكنا نجلس بجانبه،
لنجد أنفسنا وقد غدَونا رسامين صينيين نضيف القليل من اللون على الحبر
الأسود.
كان اللامتناهي يغدو متناهيًا، كما في أحواز الوحوش البرية،
كان الذي يذهب يعرف كيف يعود.
يا له من زمن جميل، عندما كان يضيع دربٌ،
كنا نعرف أن ما من سبب يدعو للذهاب أبعد،
في هذا الاتجاه من نهاية العالم.
-3-
هذا الذي راح مع الجدول القريب وذاب به
في مسارب لا نعرف إن كانت ماء خفيضًا أو بركًا
في ضوء اليعاسيب والذباب المكسور.
وهذا الذي تسلَّق السفح بين أشجار الصنوبر والسنديان
وأفضى إلى فوضى تلال حَرَجية مكشوفة،
بعضها تسدُّه حتى الأفق أسوار صخور عارية.
وهذا الآخر، هناك، كنا نحلم أن ينتهي إلى بحيرة، وأن يكون بين الأعشاب
مركب مهجور، مثقوب ومطلي بالأزرق.
-4-
أمَّا هذا الذي تسلَّل كالأفعى تحت أوراق من سنة أخرى.
قبل دقيقة لم يكن، وبعد لحظة لن يكون.
-5-
هذا الذي كان يهرع لاهثًا، خلفنا، أردنا أن نعطيه اسمًا،
ومذ تعلَّق بالفتاة الصغيرة، ذات الثمانية أعوام، تلك السنة،
كان ينبح بلا انقطاع حولها، ويقفز على العشب المبلل.
أحيانًا، كان يدسُّ أنفه، يختلي في مكان ظليل وينام يومًا كاملاً.
-6-
بوذية عن غير قصد.
لا طريق واحدة فقط، كانت تترك الأمر لعرفانيتنا.
حتى أنها كانت تَجْهَدُ ساخرةً لمنع الحجاج من متابعة المسير.
كم هي جميلة تلك الدروب التي تزخر بالآلهة اليابانية الصغيرة التي
نراها في القرى،
تماثيل غليظة من الحجر الرمادي، ربطة قماشية حول العنق، أمامها بعض
القرابين، كأنها أطفال على وشك التهام بيضة نيئة.
أمَّا دروبنا فأماكن عبادتها، تلك الُّنصُب الحجرية ذات البوابات
الحديدية الصدئة التي يستحيل إغلاقها، منها تفوح
نصف جافة، عبادةٌ برائحة مزيج من عشب وزهر.
-7-
هذا الذي يمرُّ أمام المقابر القديمة، ذات الأبواب المحروسة والمقفلة
بشريط حديدي معقود،
يُشجِّع على حَلِّه، بأناة، والدخول وفكِّ رموز بعض الأسماء، على
الحجارة المكسوة بالعشب،
ثم الذهاب، دون قلقٍ أو عجالة.
يُكمل نحو الأعلى، حيث قديمًا كانت قرية، لم يبق منها غير صخور منهارة
بين الأشواك وشجيرات التوت البري،
ثم يمتدُّ بحذرٍ نحو البقعة المشرفة على اثنين من الوديان، هناك يختلف
الضوء.
"أُنظرْ، يقول جنّيُّ الدروب، تلك المزرعة، هناك، لم يبق منها غير
جدران بلا سقف تُمسكُ ظلالاً سوداء،
أُنظُرْ، كي تنسى".
-8-
وذاك الآخر، أين كان يذهب، بلا فرح ولا جمال، كنا نضيع ونحن نتلمَّس
الطريق في الضباب،
صاعدين حتى ننتهي أمام سماء مثل حطبتين متلاصقتين في موقد، منها يتدفق
شعاع شمس المساء.
ولكن ما من دروب تنزل الى عالم الأموات، رغمًا عمَّا يقول راسين
الدخول إلى عالم الأموات كما تقول الأسطورة السلتية
يتمُّ عبر طريق مستقيمة،
على جانبيها أنزالٌ تفتح أبوابها طوال الليل. نسلكها مرغمين
تتسع وتتسارع كلما اقتربت الحدود.
-9-
واحدٌ كان يمسك كأسًا، فيها يشعُّ نبيذ السماء الساكنة.
يقال إن واحدًا كان يذهب إلى ما وراء النهر بين الأشجار وواحدًا كان
درب التبانة.
وكان هناك واحدٌ أيضًا أكثر اتساعًا، كان يحب استقبال ظلالنا على رمله
الناعم،
كانت تجري بعيدًا أمامنا عند المساء، كنا نشعر باضطرابها وقلقها.
لكن ظِل عصفور كان يلمسها أحيانًا، ويرافقها لبرهة، قبل أن يبتعد فجأةً
بخفقة جناح.
-10-
أيتها الدروب،
كلّا، ليس في ضجيجك يجد اللاشيء نهايةً،
أنتِ طفل يعزف على الناي،
بأصابع واثقة تعيد خلقَ العالم،
من لا شيء سوى حفنة من تراب، فيها ينبتُ النَّفَسُ.
والزمن ألقى براحته على كتفه،
ليقوده كالأعمى تحت قبَّة الأعداد النقية.
***
الذكرى
هذه الذكرى تسكُنُني، أن تهبَّ الريح هكذا فجأةً،
هناك، على البيت المقفل.
إنه صوت شراع في العالم،
كأنَّ قماش اللون، للتوِّ تمزَّقَ حتى عمق الأشياء.
تذهب الذكرى، لكنها تعود،
رجل وامرأة مقنَّعان،
يحاولان جرَّ قاربٍ كبير جدًا إلى الماء.
على حركاتهما، تهوي الريح بالشراع،
تشبُّ النار فيه، المياه سوداء،
ما نفع مواهبكِ، أيتها الذكرى،
إلّا معاودة الحلم القديم،
الاعتقاد بأنني أستيقظ؟
الليل ساكنٌ،
ضوؤه يجري كالجدول فوق الماء،
وشاحُ النجوم بالكاد يرتعشُ
في النسيم الذي يهبُّ على العوالم.
قاربُ كل شيءٍ، كل حياةٍ ينامُ،
في كتلة ظلام الأرض،
والبيت يتنفّسُ، بلا صوتٍ،
والعصفور الذي لا نعرف له اسمًا،
بالكاد يطلقُ في الوادي، هازئًا
ولكن بشيء من العطف، نوتَتَيْهِ الغامضتين
قريبًا جدًا منَّا.
أنهضُ، أقتربُ مرةً أخرى،
من النافذة التي تشرفُ على الأرض
التي أحببتُ.
أفراحٌ،
كمجذِّفٍ في البعيد، بالكاد يتحرك
على الصفحة المشعة،
وأبعد،
دون أي صوت أرضيًّ، تحترق مشاعلُ
الجبال والأنهار والوديان.
أفراحٌ،
ولا نعرف إن كانت فينا
مثل صخب تافه وبريق حلم،
هذه القاعات المتتالية والموائد
الزاخرة بالفاكهة والأحجار والزهور؟
أم كانت ما أراده إلهٌ، لإقامة حفلٍ،
ما دمنا نقيم راضين،
صيفًا كاملاً في بيت طفولته.
أفراحٌ،
والزمن أتى خلسةً، كفيضان نهرٍ،
يدخل على الحلم،
ليلاً،
يجرح الضفة،
ويبعثر الصور الأشد وضوحًا في الوحل.
لا أريد أن أعرف السؤال الذي يصعد
من أرض السلام هذه، أبتعدُ،
أجتاز غرف الطابق، حيث ينام
جزء كامل مِمَّا كنتُ،
أهبطُ في ليل الأقواس السفلية
نحو نارٍ هائمةٍ في الكنيسة،
أنحني عليها، تنتفض مثل نائمٍ
هُزَّ من الكتف، تنتصب قليلاً
رافعةً نحوي وجهًا من جمر.
كلا، عودي إلى نومك، أيتها النار الأبدية،
استسلمي لحلمكِ، ما دمتِ، أنت أيضًا
تشربين من الكأس الذهبية السريعة.
لم تحن بعد ساعة حمل المشعل
في المرآة التي تكلمنا في العتمةِ،
عليَّ أن أبقى وحيدًا.
أفتح الباب،
الذي يؤدي إلى أشجار اللوز الساكنة،
يا لهدوء هذا الليل الذي يُلبِسُها القمرَ.
وأمشي، على العشب البارد.
أيتها الأرض، أيتها الأرض،
الراضيةُ، أحقًّا، أننا عشنا
ساعة تنطفئ مصابيح الزينة
من غصنٍ إلى غصنٍ مساء الحفلة؟
ولا نعلمُ،
وحيدين، من جديد، في الليل المشرف على الانتهاء،
إن كنّا نرغب أن يطلع الفجر،
لشدة تعلُّقِ القلب بتلك الأصوات التي تعاود الغناء هناك،
ثم تختفي وهي تبتعد على الدروب الرملية.
أذهبُ،
محاذيًا البيت نحو المنخفض،
أرى ملامح الأشياء البسيطة،
كدربٍ ينفتح تحت النجمة التي تحضّرُ النهارَ.
أيتها الأرض،
أحقيقيٌ،
كلُّ هذا النسغ في شجرة اللوز إبان شهر الزهور،
كلُّ هذه الأنوار في السماء،
كلُّ هذه الأشعة على زجاج النوافذ،
وفي المرآة مطلعَ الفجر،
كلُّ هذا الجهل في حياتنا وكلُّ هذه الآمال،
كلُّ هذه الرغبة فيكِ، أيتها الأرض الكاملة الانسجام،
كلُّها، لم تُخلَق لكي تنضج مثل ثمرةٍ
تنفصل فرِحةً عن الغصن،
عن الأصل،
مذاقًا صافيًا؟
أذهبُ،
يخيَّلُ لي أن أحدًا يمشي بجانبي،
يودُّ الابتسام على الرغم من صمته،
مثل صبيةٍ حافية القدمين على العشب،
ترافقُ لوهلةٍ هذا الذي يرحلُ،
يتوقفُ، ينظرُ إليها،
كم يودُّ أن يأخذ بين يديه،
هذا الوجه، الذي هو الأرضُ عينُها.
وداعًا، يقول،
أيها الحضور الذي لم يكن إلّا إحساسًا،
على الرغم من قربه كلَّ هذه السنين،
وداعًا، يا صورةً لا تُسْبَرُ،
أوهمَتْنا أنها الحقيقة وقد قيلت أخيرًا.
يقين، حيث كل شيء لم يكن إلّا شكًّا،
وعلى الرغم من خرافيتها، إنها كلمة متأججة حقيقية.
وداعًا، لن نراكِ تأتين إلينا ثانية
حاملةً قربان السماء وأوراق يابسة.
لن نراكِ تقرِّبين من الموقد خدَّك الإلهي.
وداعًا، لم يكن قدرنا واحدًا،
عليك أن تتبعي هذا الدرب، ونحن الآخر،
وبينهما تكبر سماكة الوادي الذي يطبقُ عليه المجهول
بصرخة حادة يطلقُها طيرٌ جارح.
وداعًا، لقد مسَّتْكِ شفاه أخرى،
لا تملكُ الضفاف ماء النهر،
إلا بالهدير الواضح الكبير.
أحْسُدُ إله المساء الذي سينحني
على شيخوخة نوركِ.
أيتها الأرض، إن ما يسمونه الشِّعْر،
قد اشتهاكِ كثيرًا في هذا القَرن،
دون أن يأخذ منكِ
بَرَكةَ لفتة الحب!
لمسَها بيديه، بشفتيه،
يمسكُها، تبتسمُ، ينظرُ إليها،
في عينيها التي تمّحي في البريق.
والآن، أخيرًا، ينكفئ،
أراهُ وهو يبتعدُ في الليل.
وداعًا،
كلاَّ، إنها ليست الكلمة التي أعرف قولها.
وأحلامي محشورة، بعضها ببعض،
كخروج النعاج أوَّل الضباب،
تسحق بأظلافها مسالك الدروب القديمة.
أستيقظُ، ليلةً بعد ليلةٍ في البيت الخاوي،
ويخيَّلُ لي أن فيه خطوة ما زالت تسبِقني.
أَخرُجُ،
أستغربُ أن المصباح لا يزال مضاءً،
أمام الإسطبل، في هذا المكان المهجور من الجميع.
أَركض خلف البيت، فنداء الراعي
في الزمن الخالي، لا يزال مدوِّيًا.
أسمعُ النباح الذي يسبق النهار،
أرى النجمة تشرب عند الفجر
بين القطعان التي كانت،
والناي ما زال يئنُّ
في دخان الأشياء الشفيفة.
*** *** ***